حوارات

الدكتورة بتول مختار محمد طه تحكي عن ملامح من حياة الأستاذ محمود في ذكرى استشهاده  “2ــ2” 

ــ زُرت الأستاذ محمود في سجن كوبر قبل ساعات من الإعدام.. وهذا ما دار بين 

ــ عبد الخالق محجوب كان يزور الأستاذ محمود ويبحث معه المواءمة بين الماركسية والدين 

ــ لم أتوقع معجزة من السماء تُوقِف تنفيذ الإعدام لأن العارف بالله يُسلم تماماً للإرادة الإلهية ولا يعترض

ــ منصور خالد.. إبراهيم منعم منصور.. وعبد العزيز شدو.. كانوا يزورون الأستاذ محمود كثيراً 

ـــــــــــــــــــــــــــ

تُعد القيادية الجمهورية؛ الدكتورة بتول مختار محمد طه، من الشخصيات التي لازمت الأستاذ محمود محمد طه ــ عن قُرب ــ منذ يفاعتها، وحتى تنفيذ حكم الإعدام الجائر عليه، بتهمة الردة فى 18 يناير 1985م، فهي بنت شقيقه الأصغر، والتي تربَّت في كنفه ــ بعد وفاة والدها وهي بعد طفلة غضَّة ــ علاوة على أنها كانت القيادية على الأخوات الجمهوريات، وعضو قيادي باللجنة التنفيذية لتنظيم الأخوان الجمهوريين. كل ذلك؛ أتاح لها معرفة بعض الجوانب من الحياة الشيِّقة التي عاشها الأستاذ محمود، ووثقتها في كتابها الموسوم “محمود الإنسان.. قراءة الأيام”. لدرجة أن وصفها أحد الباحثين؛ بأنها “حافظة أسرار الأستاذ محمود”. ومع إنها ذكرت في ــ مقدمة كتابها ذاك ــ أن حياة الأستاذ محمود؛ أعرض، وأعمق، من أن يُحيط بها أحد، أو تُجمع في كتابٍ. لكنَّا في “الديمقراطي”؛ وبمناسبة الذكرى الــ36 لاستشهاده، جلسنا إليها بمنزلها، في محاولة لمعرفة بعض من ملامح حياة ذلك الإنسان الفريد. 

ـــــــــــــــ

حوار: زهرة عكاشة ــ الحاج وراق 

*  ماذا عن جوانب العفو والحُلم عند الأستاذ محمود؟!

ــ جاء لص إلى البيت؛ وسرق شنطة من المنزل، لكنها كانت فارغة. وبينما كان يهم بالخروج؛ رأه الأستاذ، فناداه وقال له: “تعال وهات الشنطة؛ لأنك لن تستفيد منها شيئاً”. أجلسه تحت الشجرة؛ وقدَّم له الطعام، ومبلغاً من المال. بكى اللص؛ وترك السرقة، وكان يأتيه من حين لآخر، وقد علم الأستاذ أنه اضطر للسرقة لحاجته إلى المال.

*  ماذا كان يأكل الأستاذ؟!

ــ الأستاذ نباتي؛ لا يأكل اللحوم. وفي ذات الوقت؛ لا يفضِّل أن يفرز طعامه عن الآخرين. وعندما تعلمت صناعة بعض السلطات ــ في المدرسة ــ وطبقتها في المنزل فرح؛ وقال لنا: “أنا ما بحب اللحوم؛ لكن كنت منتظركم تستعدوا”. وفي عام 1979م؛ في منزل الثورة، قرر إيقاف اللحوم بالمنزل نهائياً، وقال للأخوات: “من الليلة ما في طبيخ بلحمة، ومن تشتهي اللحم ممكن تمشي إلى أهلها وتجي”. كان يحب جداً أكل “الكسرة” مع طبيخ الأسود، أو القرع، أو المفروك، والسلطة. وكان يتناول وجبتين في اليوم؛ ويفعل ذلك من أجل تشجيع الموجودين بالمنزل على الأكل.. كان يأكل الكسرة فقط، ولا يأكل الرغيف، أو غيره. وكان آخر شخص يأكل؛ وغالب أكله ما يتبقى من فضلات الأخوان والأخوات، يعجنها بالموية والملح ويأكلها .

وهو لا يتناول وجبة العشاء؛ لكنه يتناول قليلاً من طعامهم عندما يجتمع مع الأخوات في غرفة الطعام. وكان لا يأكل؛ أو يخلد للنوم، إلا بعد تأكده أن كل الموجودين تناولوا طعامهم، أو خلدوا للنوم، فكانت رعايته رعاية كاملة لكل الموجودين بالمنزل .

*  كيف كانت علاقته بالأطفال؟!

ــ علاقة الأستاذ محمود بالأطفال؛ كانت حميمة للغاية. كان يحملهم؛ وكانوا هم يتعلقون برقبته. وذات يوم؛ وهو يهم بالخروج من المنزل مرتدياً جلباباً ناصعاً، جرى عليه طفل بمجرد أن لمحه، رفع الطفل وقبله ثم أنزله. والتفت إليَّ وقال: “الجلباب النظيف فصلني عن الحياة”.

 وفي السجن؛ كتبت له وفاء بنت عصام البوشي، وسلمى مجذوب خطاباً، وكانت طفلة صغيرة، احتوى الخطاب على خطوط منظمة ــ فهي لم تكن تقرأ أو تكتب ــ وعندما قابلها مع والدتها في السلاح الطبي، حينما أتوا لزيارته، قال لها: “قرأت خطابك يا وفاء، وفهمت ما تقصدين”. وعلق: هذه لغة القلوب!! كان بيت إدريس جماع “هيِّن تستخفه بسمة الطفل… قوي يصارع الأجيالا”، كأنما كتب في وصفه. 

*  وماذا عن التحدي والصمود؟!

ــ في طوكر؛ المحاضرات هيَّجت البلد هِياجاً شديداً، وكان يريد أن يتحدث عن الصلاة. قالوا له: لا لن تتحدث عن الصلاة. قال لهم: الصلاة تحتاج لشرح.ز دعوني أشرحها لكم. قالوا: لا.ز لا نريد شرحاً، بل نريد أن نعرف هل أنت تصلي أم لا؟! حقب يديه؛ ونظر إليهم، وقال: “ما بصلي.. أها عايزين تعملو شنو؟!”، صمتوا؛ ولم ينطق أحدهم بكلمة، حتى انتهاء المحاضرة.

وفي محاضرة بنادي الجزيرة بالحصاحيصا؛ أتى الغوغاء، والمهاويس بالعشرات، ليعتدوا على الأستاذ. تسلقوا حائط الغرفة؛ حتى وصلوا رأسها ــ وكانت خلف الأستاذ ــ وبعد صلاة العشاء؛ خرجوا في مظاهرات من الجامع، يحملون السيخ والآلات الحادة، أمر الأستاذ الإخوان بصنع أطواق حماية للأخوات ففعلوا. وقامت إدارة النادي باستدعاء البوليس؛ ومع وصوله أخلوا المكان، واستمرت المحاضرة.

أما عبد الكريم ــ من الفادنية ــ فقد قاد هَرَجَاً في محاضرة بجامعة أم درمان الإسلامية.. كانت المحاضرة مستمرة، وهم يصيحون. سكت الأستاذ قليلاً؛ حتى يهدأ الناس، فقال عبد الكريم: “نحن نغوص البحار؛ ونستخرج اللؤلؤ، فما علينا إذا لم تفهم البقر”. قالوا له: نحن بقر؟!! وهاج فيه الجمهور. وقالوا له: “نحن بقر يا ابن الكلب؟!”. صمت؛ واستمرت المحاضرة.

وفي محاضرة “الإسلام برسالته الأولى لا يصلُح لإنسانية القرن العشرين” ــ بكلية التربية ــ جاء البوليس؛ وقال للأستاذ: هذه المحاضرة لن تقوم. قال لهم الأستاذ: “ستقوم.. إلا إذا الطلاب قالوا ما عايزين”. وبالفعل قامت المحاضرة بحضور كثيف للبوليس… لم أشعر في يوم من الأيام أنه يخاف.

لم يكن الأستاذ محمود ينزعج لما يحدث؛ وكان يعرف دوره في الحياة معرفة تامة، ويعلم أنه لن يحدث له شيء، وسط كل هذا الهرج والمرج. وفي مرة قال: “لابد أي إنسان يكون مثل بطل الفيلم، فهو يعلم أنه لن يموت، لذلك يخوض المعارك بإقدام ويقين، لذلك إذا علم أي شخص فينا دوره في الحياة سيكون مثل بطل الفيلم”. وأنا كنت أحس دائماً أنه يعرف دوره جيداً لذلك كان ثابتاً.

* أُثير جدل كثيف عن صلاة الأستاذ محمود؟! 

ــ الأستاذ محمود يقول: الصلاة معراج العبد إلى ربه، والصلاة صِلة بين العبد وربه، وأن الصلاة جاءت على مستويين. مستوى التقليد؛ وهو ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نقوم بتقليده، وبحُسن تقليدنا له يقودنا للصلة بيننا وبين ربنا. ويقول القرآن الكريم: “إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا”. وقال تعالى أيضاً: “لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً”، يعني أي شخص له شريعته الفردية، إذا ما جوَّد السير في الشريعة الجماعية. وقال الله تعالى: “وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهي (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)”.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليلة عُرج بي انتسخ بصري في بصيرتي فرأيت الله”. فأي شخص مقتنع بالنبي ومنهاجه ويقلده يقول له: “ها أنت وربك”. والصلاة صلاتيْن. فالأستاذ لم يترك الصلاة؛ بل زادها. ويقول “الشخص العابد المجود نفسه الطالع والنازل هو صلاة لله”.

*  كيف كانت مكانة المرأة عند الأستاذ محمود؟!

ــ كان يهتم بتعليم المرأة؛ ويعتقد أن رفعتها في تعليمها، لذلك اهتم بتعليمنا. وكان يقول دائماً: لن أوقف أية واحدة من التعليم إلا إذا رفضته هي. ولم يشعرنا أننا عبء عليه؛ رغم أن مصاريفنا كثيرة، وطلباتنا كذلك، لكنه كان فرحاً بوجودنا حوله. وعندما ذهبت للدراسة ببريطانيا؛ كان يكتب لي أسبوعياً، ويقول: “تعلمي .. تعلمي كل شيء، فحاجة الفكرة لك كبيرة، وموقعك فيها كبير”ز وأوصاني بلبس الثوب دائماً؛ وقال لي: “لبسك هناك يكون فستان طويل، والثوب السوداني، وعليه (الكوت من البرد). وكان يقول دائماً: “لو تعلمت حواءاتنا لرشد آدمونا”.

*  لماذا ترتدون ثوباً أبيض دائماً.. وهل للأستاذ محمود رأي في لبس المرأة؟!

ــ لابد وأن يكون شكلناً مميزاً؛ ومحتشماً، وصدر لنا كتاب بعنوان “الزي عنوان المرأة وخُلقها”. نتميز بلبس فستان طويل؛ وبأكمام طويلة، وثوب أبيض. وهو نفس الزي الذي نخرج به عند “حملة الكتاب”؛ وهي حملة نحمل فيها كتب الفكرة الجمهورية، ونناقش الناس في الشارع، ونقدمه لهم. لكن الأستاذ لا يتدخل في لبس الضيوف؛ ولا يحرجهم بتعليقه، حتى بالنسبة للأخوات يخبرني برأيه لأتحدث أنا معهن.

*  مَنْ مِنْ الشخصيات العامة أو السياسية التي كانت على صلة بالأستاذ؟!

ــ من الشخصيات ــ التي أذكر أنني رأيتها تزور الأستاذ محمود عدة مرات ــ النيل أبو قرون؛ والراحل عبد العزيز شدو ــ وقد كان صديقاً للأستاذ ــ ووزير المالية الأسبق الراحل إبراهيم منعم منصور. وهناك عدد من الشخصيات؛ كانوا يأتون عند الساعة “11” ظهراً، في وقت يكون غالبنا في العمل، والبيت فاضي. مثل دكتور منصور خالد؛ وعبد الخالق محجوب. الحقيقة لم أقابلهم؛ لكنني علمت بحضورهم من الأستاذ، وعرفت أن عبد الخالق محجوب كان يناقش معه محاولة مواءمة الماركسية مع الدين الإسلامي، حتى يتقبلها المجتمع السوداني، وهي محاولات جرت في بعض المجتمعات المحافظة، قرأت عنها في تجارب “اليسار الجديد”.

*  ماذا قال الأستاذ محمود في حديث الفداء الشهير؟!

ــ حديث الفداء؛ كان في 4 يناير 1985م، قال الأستاذ: الزمن اضطرنا نقفل الحديث، لكن الكثير من الأخوان والأخوات، عندهم انطباعات ليقولوها. الحديث القيل طيب جداً؛ أفتكر مؤتمرنا لابد يؤرخ تحولاً عملياً في موقف الجمهوريين، زي ماقلنا قبل كدة؛ الناس سمعوا مننا كتير، الكلمة المقروءة والمكتوبة، لكن عشنا زمناً كتيراً في مجالات عاطفية، الإنشاد والقرآن والألحان الطيبة.. جاء الوقت لتجسيد معارفنا، وأن نضع أنفسنا في المحك، ونسمو في مدارج العبودية سمواً جديداً.. الصوفية سلفنا؛ ونحن خلفهم، وورثتهم. كانوا بيفدوا الناس.. الوباء يقع.. يأخذ الشيخ الصوفي الكبير.. وينتهي الوباءـ دي صورة غيركم ما يعقلها كثير.. الجدري في قرية التبيب؛ تتذكروه؟! كان في كرنتينة في القرية؛ لا خروج ولا دخول، الشيخ الرفيع ود الشيخ البشير، أخو الشيخ السماني مات بالجدري في القرية.. شيخ مصطفي خال خديجة بت الشريف ــ هو صديقنا وبزورنا كثير ــ قال: حصلت وفاة؛ ومشيت أعزي، مرَّ عليَّ الشيخ الرفيع وقال لي: بمشي معاك. قال: مشينا سوا إيدي في إيدوا؛ كان فيها سخانة شديدة، وصلنا محل الفاتحة. واحد قال ليهو: الشيخ.. المرض ده ماكمَّل الناس. الشيخ الرفيع قال: المرض بينتهي لكنو بشيل ليهو زولاً طيب. قمنا من المجلس؛ وصلنا البيت، والسخانة كانت الجدري. السيد الحسن مات بوباء.. والوباء انتهى. وفي سنة 15 الشيخ طه مات بالسحائي.. وكان مستطير بصورة كبيرة، وما عندو علاج، وما كان بنجو منو زول، الما بموت بتركه بعاهة. مات الشيخ طه والمرض انتهى. الحكاية دي عند الصوفية مضطردة ومتواترة.. العلمانيون تصعب عليهم.. إنتو هسع لابد تفدوا الشعب السوداني من الذل والمهانة الواقعة عليهم والجلد. واحد من الإخوان لاحظ ذلك فقال: القيمة من المسيرة أن تشاهدوا الجلد الواقع. واحدة من الأخوات قالت: “العسكري شاب؛ والمجلود شيخ كبير، والقاضي واقف يستمتع”. هي مسألة أحقاد؛ وضغائن، ونفوس ملتوية، تتولى أمور الناس.. قد تُجلدوا ما تنتظروا.. تسيروا في المسيرة، وتحصل معجزة تنجيكم، وهي بتحصل لكن ما تنتظروها. خلو الله يجربكم ما تجربوا الله.. تعملوا الواجب العليكم تنجلدوا ترضوا بالمهانة. من هنا المحك البيهو بتكونوا قادة للشعب العملاق.. يكون في ذهنكم قول الله “أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين”. وآية ثانية “أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمَّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب”. ما أحب أن تصابوا بخيبة أمل من العقبات البتلاقيكم في الطريق.. يكون مؤكد؛ الأمر النحنا بنواجهوا بنحتاج ليهو في الداخل.. كل أمر يساق ليكم يقويكم هو عناية من الله وملطف.. لكن الناس يسوقوا أمرهم بالجد، وكل واحد يدخل في مصالحة ورضا بالله.. تواجهوا أمركم ده لتفدوا شعبكم وبعضكم بعضاً لترتقوا درجات في واجبكم وعبادتكم.. ومعنيين بيهو أنتم.. محفوظين.. ولكن ما تفتكروا الطريق أمامكم مفروش ورود.. استعدوا في قيامكم بالواجب المباشر تكونوا دايمين النعمة، وموضع نظر الله وعنايتو.. ثقوا بيهو.. إن شاء الله أمركم قريب والله ادخركم للأمر دا.. وأنتم اليوم الغرباء بصورة كبيرة.. كل المجتمع السوداني في كفة، والجمهوريين في كفة.. الجمهوريون مطلوبون.. والناس الطالبنكم فداية ليكم.. ظلماتكم نور.. أنتم موضع عناية.. تقبلوا العناية.. سيروا راضين بالله.. بالصورة دي يكون ختام مؤتمرنا .

*  ماذا عن وصاياه بعد إعلان الحكم؟!

ــ  كان دائماً يوصينا بالصبر والصمود؛ وأن لا نظهر لهم غيظنا، أو أنهم استفزونا. وكان يريد مني أن أكون قوية؛ ومتماسكة، وأعين الأسرة والأخوات على الصبر، والتماسك. وكان يردد لي بيت الشعر الذي قاله أحد الأعراب معزياً عبد الله بن عباس في وفاة والده: “اصبر نكن بك صابرين فإنما.. صبر الرعية بعد صبر الرأس.. 

خير من العباس أجرك بعده.. والله خير منك للعباس “.

 لكنني في إحدى الزيارات ــ رِفقة الأخوان ــ وبعد إعلان الحكم؛ جلسنا إليه، وكنت قريبة منه. قال لي: “انتِ متماسكة.. لكنك كئيبة”. ثم خفض صوته أكثر وسألني: “عمتك كيف؟”. عندها لم أتمالك نفسي وبكيت، تركني ولم يتحدث معي.

لحظة التنفيذ؛ أُلقي القبض علينا جميعاً، وتم حبسنا في حراسة القسم الشمالي، وكان أفراد الجهاز الذين قاموا باعتقالنا يضحكون علينا، ويقولوا لبعضهم “الجماعة ديل غريبين. تسأل الواحد أنت جمهوري يقول أيوا.. هسة دا لو كان شيوعي تسأله.. يقول ليك أنا ما شيوعي”. كان تنفيذ الحكم في الصباح؛ كنا في الحراسة ليلاً، وكنا متألمين، لكننا صابرين، نصلي ونذكر. ضحك علينا أفراد الحراسة؛ وسأل أحدهم الآخر: “لماذا يصلي هؤلاء كثيراً؟”. رد عليه زميله: “يريدونه أن يطير غداً من المشنقة”. كانوا مؤذيين. بعدها أخذوني إلى حبس انفرادي؛ وقالوا إنني أهيج الناس. كانت ليلة عصيبة؛ لكننا كنا شجعان، وأذكر أنني لم أبكِ إلا في المنزل.. والله السودان دا كله لو كان فيه قلب ما يستحمل.

*  هل كانت له وصية خاصة به؟!

ــ الوصية الأولى؛ بعد طلع من الخلوة ــ مطلع الخمسينيات ــ والثانية سنة 1971م؛ قال يكفنوني بملابسي القديمة، ولا يضعون شاهداً على قبري. وأذكر أن هناك إحدى الأخوات الجمهوريات قالت له: “رأيت أنك مت”. قال لها “أريد شخصاً يراني مت لحدي ما دُفنت في الأرض”.

*  هل كنتِ تتوقعين أو تنتظرين عفو الرئيس نميري؟!

ــ لم أتوقع أن يعفو عنه نميري ــ مثل ما كان يقول الناس ــ ولم يكن الأستاذ محمود ليقبل ذلك أيضاً منه. ولم أتوقع معجزة؛ لأن الأستاذ كان يقول الإنسان العارف يُسلم لإرادة الله، لكن الما عارف يغير في الوجود.. كان لدي صورة من اليقين لكن الألم موجود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى