الرأي

الحِلَاقَةُ بِالنَّار!

الاثنين

ما من شئ يضير الحلول التي قد يجترحها الشِّيوعيُّون، فرديَّة كانت أم مؤسَّسيَّة، كالجَّهل بمنهج الاطروحة اللينينيَّة، أو تجاهلها، في مستوى التَّنظير أو العمل. تجادلنا، قبل أيَّام، حيث اختلف معي، في هذا الأمر، صديق محام شيوعي، بحُجَّة أن فلاديمير إليتش لم يُحِط، مثلاً، بحقل «القانون»، رغم دراسته الأكاديميَّة له!

لا قدسيَّة، بطبيعة الحال، للأطروحة اللينينيَّة. لكن حُجَّة صديقي خاطئة نسبيَّاً، رغم أنها صحيحة جزئيَّاً، وذلك بالنَّظر إلى حجم كتابات لينين المباشرة في هذا الحقل، مقارناً بحجم تراثه الأيديولوجي عموماً. وجه الخطأ يتبدَّى، حسب استخلاصات المفكِّر الماركسي سعيد العليمي، في إغفال معالجات لينينيَّة كثيرة، وإن كانت غير مباشرة، بين طوايا قضايا أخرى قد لا تنصبُّ، بوجه أيديولوجي مخصوص، على «الفكر القانوني» نفسه، بقدر ما تستهدف علاج عناوين شتَّى وثيقة الصِّلة بـ «الشَّرعيَّة» في ما كان يعرض للينين من واجبات البناء في الحزب والدَّولة.

على هذا الصَّعيد أفرد لينين تقديراً كبيراً لـ «الشَّكل القانوني» لعلاقات التَّناحر الطبقي. فللطبقة المستغِلة «بالكسر»، السَّائدة اقتصاديَّاً، وسياسيَّاً، واجتماعيَّاً، «صنمها القانوني» الخاص المعبود، والذي سرعان ما يضحى «صنماً قانونيَّاً» لنظام الحكم الذي يمثِّلها. أمَّا من الجَّانب المقابل فهناك الطَّبقة المستغَلة «بالفتح»، ويمثِّلها الثَّوريُّون الرَّاديكاليُّون الذين يناضلون لنزع قناع هذا الصَّنم، والإطاحة به. لكن هذه العمليَّة لا تبدأ وتنتهي، بمثل هذه السَّلاسة، من ألفها إلى يائها، إذ قد تقتضي، في كثير من الأحيان، استخدام تكتيك الاقرار بشئ من الشَّرعيَّة لـ «الصَّنم القانوني» المنتسب إلى الطبقة المستغِلة «بالكسر»، وهذا، بالتَّحديد، هو شُغل ثوريِّي الطَّبقة المستغَلة «بالفتح». وهو شُغلٌ مخالف لشُغل الثوريِّين البُرجوازيِّين الصِّغار الذين ينكفئون على إنكار هذا التكتيك، فيتحوَّل انكارهم هذا، بذاته، إلى «صنم» مغاير!

هكذا تتناقض الطَّبيعة الثَّوريَّة للتَّكتيك اللينيني مع الإنكار «الصَّنمي» البُرجوازي الصَّغير. ففى منعطفات تاريخيَّة معيَّنة يجدر الانتباه لضرورة استخدام «الفرصة القانونيَّة» التى قد يُجبر العدوُّ على اتاحتها «مكسوراً»، فقط، وليس «مهزوماً» بشكل كامل. حيث أن البلاشفة، بقيادة لينين، لم يعرفوا، فقط، كيف يعرِّضون بالشَّرعيَّة القيصريَّة البُرجوازيَّة، بل عرفوا، أيضاً، كيف يستخدمونها كلَّما كان ذلك ضروريَّاً. بعبارة أخرى عرف البلاشفة كيف يُعِدُّون للإطاحة بسلطة الطَّبقة المستغِلة ـ بالكسر ـ  مستخدمين نفس «الصَّنم القانوني» الذي اصطنعته هي! ولعلَّ «صلح برست»الذي أبرموه مع الامبرياليَّة يمثِّل، بهذه الدَّلالة، أحد أوائل، بل أحد أهمِّ النَّماذج على هذا الصَّعيد. لقد أجادوا استثمار الفرصة التى أتيحت لهم للاستفادة من «الشَّكل القانوني» الذي فرضه مجرى الصِّراع آنذاك، آخذين في اعتبارهم حقيقة أن «الشَّرعيَّة» التى يفرضها عليك العدو، يمكنك إعادة فرضها عليه، وفق منطق الأحداث نفسها. فأيَّاً ما كانت كراهيَّة الإمبرياليِّين الألمان للثَّورة السُّوفييتيَّة، إلا أنهم كانوا مضطرين، بقوَّة الوضع الدَّولى العام، لعقد معاهدة مع حكومتها!

مِمَّا تقدَّم نخلص إلى أن حزب البلاشفة، خلف قيادة لينين، مقارنة بغيرهم من أحزاب المعارضة للقيصريَّة، أجادوا التَّعاطي مع هذه الاشكاليَّة في مستويي التَّنظير والعمل كليهما. ففي مستوى التَّنظير، فضحوا النَّزعة البُرجوازيَّة الصَّغيرة لدى «الثَّورجيَّة» الذين رفضوا أن يفهموا أنه كان من الضرورى «التَّراجع»، واستثمار «شرعيَّة» العمل في أشدِّ البرلمانات رجعيَّة. أمَّا في مستوى العمل فقد أحسنوا القيام بأكثر «التَّراجعات» تنظيماً، وأقلِّها خسارة، مِمَّا حفظ نواة حزبهم بأفضل ما يمكن، وبأقل الأضرار.

وعلى خلفيَّة هذه التَّعاليم الثَّوريَّة لم يستنكف الحزب الشِّيوعي السُّوداني، تاريخيَّاً، من المشاركة في برلمانات الأنظمة الشُّموليَّة والرَّجعيَّة، ومجالسها التَّشريعيَّة. ومِمَّا رصد الزَّميل صدِّيق الزَّيلعي، ضمن مقالة ممتازة له، نوجز، هنا، بتصرُّف، أن الحزب، بقيادة عبد الخالق محجوب، شارك في انتخابات «المجلس المركـزي» لديكتاتوريَّة الفريق عبود (1958 ـ 1964م)، مُقرَّاً، في بيان بتاريخ 9  مارس 1963م، بأن «النِّظام برمَّته رجعي، وليس سوى السُّذَّج من يعتقدون أن الدِّكتاتوريَّة يمكن أن تلد نظاماً ديموقراطيَّاً، فالمجلس المركزي، إذن، أبعد ما يكون عن الدِّيموقراطيَّة، بل هو نكسة خطيرة إذا ما قورن بالمؤسَّسات التي حقَّقها الشَّعب قبل انقلاب 17 نوفمبر 1958م»، ومشدِّداً، في ذلك الاتِّجاه، على «أن مجلساً يدَّعي أنه تمثيلي، ثمَّ لا يقوم على مبدأ الانتخابات المباشرة لكلِّ أعضائه، ولا يمارس كلَّ الحقوق التَّشريعيَّة، هو مجلس مزيَّف، وأن مجلساً لا يملك حقَّ النَّظر في الاتِّفاقات التي أبرمها النِّظام حول معونات وقروض كبَّلت استقلال السُّودان، وأوردته موارد التَّبعيَّة للاستعمار، هو مجلس رجعي، وأن مجلساً لا يملك تعيِّين أو إقالة رئيس الوزراء، ومحاسبته، هو مجلس لا حول له ولا قوَّة». ثمَّ ينفذ الحزب إلى هدفه من المشاركة، مع ذلك، في انتخابات ذلك المجلس، بأنه «تحويل المعركة الانتخابيَّة، والعمل داخل هذا المجلس، من أجل مصالح الجَّماهير اليوميَّة، وتجميع قوى العمَّال والشَّعب في مؤسَّسات الجَّبهة الوطنيَّة الدِّيموقراطية».

وفي 1968م، برغم حلِّ الحزب، منذ 1965م، ومنع نشاطه، وطرد نوَّابه من البرلمان، خاض عبد الخالق، كمستقل، الانتخابات التَّكميليَّة في دائرة امدرمان الجَّنوبيَّة، بعد أن خلت بتولي نائبها اسماعيل الأزهري رئاسة مجلس السَّيادة. وفي ذلك تأكيد لإصرار الحزب على وجود صوت «شرعي» له في البرلمان الرَّجعي. وقد لعب عبد الخالق، بالفعل، دوراً مميَّزاً هناك، بلغ قمته بخطاب شهير حول الميزانيَّة، نُشر في كتاب بعنوان «طريقان للتَّنمية».

وفي 1986م، وبرغم رفضه ونقده لقانون الانتخابات الذي كان قد صاغه المجلس العسكري لصالح الجَّبهة الاسلاميَّة القوميَّة، خاض الحزب، بقيادة محمَّد ابراهيم نُقُد، انتخابات الجَّمعيَّة التَّأسيسيَّة التي جرت بعد انتفاضة أبريل 1985م، ونال ثلاثة مقاعد، بالإضافة لاثنين من النواب أيَّد ترشيحهما، فكوَّن ما عُرف، وقتها، بـ «المعارضة الدِّيموقراطيَّة» التي قدَّمت العديد من المشاريع والاقتراحات لقضايا ما بعد الانتفاضة، وارتفعت بالنَّشاط المعارض درجات من المسؤوليَّة والجِّديَّة، وبلغت قمَّة الأداء بخطاب نُقُد حول الميزانيَّة وقتها.

وعقب توقيع اتفاقيَّة السَّلام الشَّامل، وصدور دستور 2005م، شارك الحزب، بقيادة نُقُد أيضاً، بثلاثة نوَّاب، ضمن حصَّة التَّجمُّع الوطني الدِّيموقراطي، آنذاك، في المجلس الوطني للنِّظام البائد، وذلك بغرض الاستفادة من منبر البرلمان «الشَّرعي»، ومن الحصانات «القانونيَّة» التي يوفِّرها للنُّوُّاب، في إيصال رأي الحزب للشَّعب حول كلِّ قضاياه، بصرف النَّظر عن طبيعة النِّظام.

هكذا ظلَّ الحزب يتمسَّك، دائماً، وفي أزهى فترات نضاله، بالموقف اللينيني الرَّافض للنَّزعات اليساريَّة الطفوليَّة الدَّاعية لمقاطعة البرلمانات، لأوهى الاسباب، بزعم رجعيَّتها، تماماً كمقاطعة النقابات بزعم يمينيَّتها، معتبراً أن مثل هذه المقاطعة سلاح سلبي خليق بالمواقف «الثَّورجيَّة» الاستعراضيَّة للبُرجوازيَّة الصَّغيرة، لأنه، في حقيقته، يضرُّ بحركة الجَّماهير، كونه يحرمها، ويحرم قوى التَّغيير، من منابر «شرعيَّة» تحتاجها بشدَّة، لفرض القوانين المختلفة، ومراقبة نشاط الحكومة الأكثر تأثيراً، في ظروف القمع والملاحقة، حيث أنَّ هذه المنابر لا تتاح كمنحة من أحد، وإنَّما انصياعاً، بالأساس، لضغط النِّضال الشَّعبي الذي يقرِّر ميزان القوَّة، في نهاية المطاف، مِمَّا يجعل الانعزال قراراً مجافياً للحكمة!

الثُّلاثاء

«بعضٌ» الذين «استُوعِبوا» في وظائف «الخارجيَّة» التي أثارت ضجَّة، مؤخَّراً، وتسبَّبت في استدعاء وزيرة الخارجيَّة، في معيَّة اللجنة التي قامت باستيعابهم، لمقابلة دولة الرَّئيس حمدوك، وما أعقب ذلك من تكوينه للجنة تراجع تلك النَّتيجة، برئاسة صديق امبدى، نشروا بياناً «دافعوا» فيه عن «أنفسهم»، قائلين إنهم كانوا من «الناجحين» في الامتحانين التَّحريري والشَّفوي. حسناً! لكنهم لم يقولوا شيئاً عن «الآخرين» الذين «استُوعِبوا» وهم من «الرَّاسبين»! كما سكتوا عمَّن «لم يُستوعبوا»، وهم من «النَّاجحين»!

نصيحة لوجه الله .. مثل هذه البيانات الملهوجة لا تستند لأيِّ منطق لأنها، ببساطة، تجزيئيَّة! لذا يجدر بالجَّميع أن يهدأوا، ويكفُّوا عن الشَّوشرة، بانتظار ما ستكشف عنه لجنة صدِّيق امبدى!

الأربعاء

لصديقي التَّشكيلي البارع، والمثقف متنوِّع الاهتمامات الأمين محمَّد عثمان مقترح يستحق النَّظر فيه بعناية من جانب المستثمرين، ومخططي الحكومة الانتقاليَّة، فهو لا يرى أيَّة جدوى في كثرة الشَّكاوى من تراكم النِّفايات في الشَّوارع والسَّاحات العامَّة، ولا في تواتر المحاولات التي تبذلها السُّلطات، اتحاديَّة كانت أم ولائيَّة، لعلاج المشكلة، بلا طائل. ويرى الأمين أن الحلَّ الأمثل يكمن في إنشاء صناعات تقوم على إعادة تدوير هذه النِّفايات، بحيث يُستفاد من جمعها المجَّاني، على اختلاف أصنافها، من بلاستيك، وحديد، وقصدير، وخلافه، في عمل مربح؛ فما رأي الرَّأسماليَّة الوطنيَّة؟!

الخميس

ليس وحده «اللبخ»، قاطع الطريق، وقتَّال القَتَلَة الشَّهير، في ام درمان الثُّلث الأوَّل من القرن الماضي، مَن استرعى اهتمام ريتشارد هل (1901-1996)، فأدرج بياناً عنه، في كتابه «معجم شخصيَّات السُّودان»، ضمن 1900 من صفوة الحكم، والإدارة، والثَّقافة، والسِّياسة، تحت الإدارة البريطانيَّة حتى 1937م، مِمَّا أدهش صديقي عبد الله علي ابراهيم، بل حيَّره تماماً! فثمَّة واقعة أخرى تتَّصل، مع الفارق، بربَّاط وقتَّال قَتَلَة آخر بأم درمان أواخر الخمسينات، هو «كَبَسْ الجِّبَّة» الذي لم يكن أحد ليجرؤ على دخول منطقة «خور اب عنجة»، حيث يرابض، بعد غروب الشَّمس، إلا إذا أراد أن تثكله أمُّه! وكانت لـ «كَبَسْ الجِّبَّة» صنعة أخرى، «فرتكة الحفلات»، حتى لقد سمَّى أهل ام درمان، لعهد طويل، كلَّ من كان يفعل ذلك، بـ «كَبَسْ الجِّبَّة»! الجَّامع بين الشَّخصيَّتين الاهتمام بالتَّوثيق المرموق لسرديَّتيهما، أمَّا الفارق بينهما فيكمن في أن ذِكْر «اللبخ» وارد ضمن صفوة القوم، في حين ورد ذِكْر «كَبَسْ الجِّبَّة» في المكان الوحيد الخليق به .. «أخبار الجَّريمة»!

سرديَّة «كَبَسْ الجِّبَّة» تتلخَّص في سماعه، ذات أوَّل ليل، غناء يحمله الهواء من مكرفون حفلة عُرس. فتتبَّعه حتَّى بلغه، وكان حفل زفاف الإبنة الوحيدة لمعاشي بحي الموردة، أنفق على تلك المناسبة كلَّ مدَّخراته، زائداً ما اقترض من أحد البنوك، فذبح الذَّبائح، وأولم، واستجلب العصائر من مصلحة المرطبات، وزيَّن البيت بالثُّريَّات الملوَّنة، واستأجر الكراسي ورصَّها في الفناء الأمامي، نصفٌ للرِّجال ونصف للنِّساء، كما استأجر المكرفون، وتعاقد مع المغنِّي، ثم نقل سريره إلى الحوش الخلفي، تاركاً المكان لشباب العائلة والمدعوِّين من الجِّنسين.

لم يكد الحفل يبدأ حتَّى خشخشت سمَّاعة المكرفون، ثم طرقعت ساقطة من أعلى الحائط، ومع ذبذبة الكهرباء، وتطاير الشَّرر من أسلاكها، تناهت إلى حيث يرقد في الحوش البعيد صرخات هلع النِّساء، وفزع الأطفال، مختلطة بسخط الرِّجال، ودبيب الأقدام المتراكضة، وفرقعة زجاج المصابيح، وقوارير المرطبات، وصحاف الطعام! ووسط الهرج لم يصعب عليه تبيُّن شتائم غاية في البذاءة لم يسبق أن تردَّد مثلها في بيته، بل ولا في الحيِّ كله، تهدر بها حنجرة هوجاء .. ذلك كان «كَبَسْ الجِّبَّة»!

هبَّ، بغتة، كفهد، كإعصار غاضب، وانطلق، برغم سنواته السِّتِّين، إلى حيث كان قد ترك الحفل، قبل قليل، يموج مزهزهاً بالأضواء، ليجده استحال كوخاً شائهاً من الظلمة والرُّعب، مع ذلك استطاع، برغم العتمة، أن يلمح شبح الجَّسد الضَّخم، كما غوريلا، والذِّراع الأشبه بجذع شجرة، يعلو ويهبط، بعكازته المضبَّبة، على كلِّ ما حوله! كتلة من ظلماء البداوة تنهمر على قبس الحداثة النَّحيل! لحظتها أحسَّ بالظلم، والاستضعاف، والهوان، فغامت الدُّنيا في ناظريه، ولم يشعر إلا وهو يمرق كالسَّهم إلى حجرته، يخرج مسدَّسه من دولابه، ويعود يسدِّده إلى رأس «كَبَسْ الجِّبَّة»، فيتداعى كبناية تتقوَّض!

كانت أسرع إجراءات قضائيَّة. هلَّل النَّاس فرحاً. لم يخفِ البوليس تعاطفه. بل حتَّى القاضي لم يخفِ استبشاره خيراً بذهاب ريح تلك المصيبة. بعد أقلِّ من أربع وعشرين ساعة سُمعت الدَّعوى، واعتُبر المعاشيُّ مستعملاً حقَّه في الدِّفاع، وإن متجاوزاً، إزاء الاعتداء الأهوج على بيته، وأهله، وأضيافه، فحُوكم، فقط، بالسِّجن يوماً ينتهي بانتهاء الجَّلسة! لقد التزم القاضي بمنطق روح العدل، أكثر من التزامه بحَرفيَّة منطوق القانون، فجاء حكمه كـ «صوت شكر» للقاتل على تخليصه المجتمع من ذلك المخلوق «الكارثة»!

الجُّمعة

صديقي احمد سيد احمد «طُبطُب»، التَّشكيلي المهاجر بمانشستر البريطانيَّة، نسب إليَّ، من حسن ظنِّه ولا بُد، ما كان كتبه، هنا، صديقي الآخر حمُّور زيادة، الرِّوائي والكاتب الكبير العائد من هجرة طالت، يوم أطلَّ من هذا الباب، قبل أسبوعين، ضيفاً على الرُّوزنامة. فقد أشار حمُّور إلى حضوره، لأوَّل مرَّة، تمريناً للفريق القومي النِّسائي لكرة القدم، مستبشراً خيراً، على حدِّ تعبيره، بأن تنتقل بلادنا من مطاردة الفتيات في الشَّوارع بتهمة «الزِّي الفاضح» إلى إقامة تمارين مفتوحة لمنتخب كرة قدم نسائي، وتلك، كما قال بحق، مسافة شاسعة قطعناها بتضحيات جسام، ودماء طاهرة، وختم بأن الثَّورة، في أهمِّ تمظهراتها، تغيير مجتمعي، قبل أن تكون تغييراً سياسيَّاً، وحريَّة المرأة واحدة من أهمِّ تمظهرات الثَّورة. لكن «طُبطُب» قوَّلني أنا هذا الكلام الجَّميل، والمشاعر الفيَّاضة، بدلاً من حمُّور .. وليته كان كلامي!

السَّبت

ليس صحيحاً إصرار البعض على أن العوامل التي اقتضت تسليم البشير ورهطه إلى المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، وعدم محاكمتهم داخليَّاً، هي، حصريَّاً، عدم جديّة أجهزة العدالة الوطنيَّة في اتِّخاذ أيَّة خطوات نحو إنجاز هذا العمل، أو كون النَّائب العام، حتَّى بعد مرور عامين على الاطاحة بالنِّظام المباد، لم يُحرّك أيَّة إجراءات حول الجَّرائم المراد التَّحقيق فيها، والمحاكمة بشأنها، أو أن الكثير من الوقائع قد انطمست، بمرور الزَّمن، أو توفي شهودها. فالعامل الأساسي الذي يتفادى كثير من القانونيِّين إثارته، لسبب غير واضح، مع كونهم يكتبون عن المسألة صباح مساء، هو أن الجَّرائم موضوع الاتِّهام، وهي جرائم الحرب، والجَّرائم ضدَّ الانسانيَّة، وجريمة الابادة الجَّماعيَّة، ارتكبت بين عامي 2003 ـ 2004م، يوم لم تكن موصوفة، ولا محدَّدة عقوبتها، ضمن القانون الجَّنائي السُّوداني الذي لم يُعدَّل لتُدرج فيه، كجرائم دوليَّة، إلا في العام 2010م. ومعلوم أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص منصوص عليه مسبقاً. وتلك قاعدة أساسيَّة في القانون الوطني، كما وأنها إحدى القواعد السَّبع التي أرستها محاكمة نورمبرج لمجرمي الحرب العالميَّة الثَّانية في أوربَّا، واعتمدتها الجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة، في أولى جلسات انعقادها، ضمن قواعد القانون الجَّنائي الدَّولي.

الأحد

كثيراً ما استشهد، في أحاديثي وكتاباتي عن «العدالة الانتقاليَّة»، بـ «تازمامارت»، مركز الاعتقال القمئ في المغرب، والذي تحوَّل الآن إلى متحف قُدِّر لي أن أزوره مع الأصدقاء فيصل محمد صالح، ومرتضى الغالي، وفيصل الباقر، وآخرين، خلال مشاركتنا، خلال السَّنوات الماضية، في بعض المؤتمرات حول التَّجربة المغربيَّة، وقد استمدَّ اسمه من اسم القرية الكائن فيها بجنوب شرق البلاد. وقبل تطبيق النَّموذج المغربي كان بالمركز عشرات الضُّباط المتَّهمين بمحاولتي انقلاب شهيرتين ضد الملك الحسن الثَّاني، الأولى بقصر الصُّخيرات عام 1971م، والثَّانية بقصف طائرته في الجَّو عام 1972م. وقد أمضى أولئك الضُّباط أكثر من 18 عاماً في زنازين ذلك المركز المظلمة، لا يرون الشَّمس، ولا يقدَّم لهم سوى الطعام الرَّدئ، وماء الشُّرب بالقطارة، ويُحرمون من العلاج، والرِّياضة، وحتَّى التَّهوية الصِّحِّيَّة، إلى أن توفي أكثر من نصفهم بالأمراض الفتَّاكة. ولغياب النظافة، طالت شعورهم ولحاهم، وبالطبع لم تكن هناك خدمة حلاقة، ففكر أحدهم في حيلة يقصِّر بها لحيته، حيث دهنها ببعض المرق النَّتن، ثم حصل، بطريقة ما، على كبريتة أشعل بها النَّار فيها معتقداً أنها ستحرقها ببطء، غير أنه فوجئ بألسنة اللهب تندلع بكثافة حتَّى كادت تحرق وجهه، فصارت محاولة إطفائها نكتة يتندَّر بها المعتقلون والحرَّاس معاً!

الطريف أن حلاقين في مصر، وباكستان، وغزَّة الفلسطينيَّة، صاروا يتَّبعون، الآن، هذا «الاختراع» دون أن يعلموا أن معتقل «تازمامرت» قد سبقهم إليه! ويمتدح حلاق مصريٌّ، بمنطقة الجيزة، حلاقة الشَّعر بالنار، بعد سكب بعض الكحول عليه، واصفاً إيَّاها بالمفيدة، إذ تفتح المسام، وتضبط الشَّعر، وتقضي على الحشرات!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى