الرأي

الحزب الشبحي، والسياسي المتحور

د. وجدي كامل

ليس هنالك مما يدعو للتفاؤل كثيراً إزاء ما يرشح ونشهد عليه بأم أعيننا وبصفة يومية من انفراط لعقد المجتمع السياسي السوداني بدرجة غير مسبوقة، تضاهي كل انفراط جرى من قبل بتاريخ المؤسسة السياسية المريضة. فقد عاد المجتمع السياسي بسائر مكوناته إلى ملعبه الأصل، ولعبته النمطية المفضلة لاقتسام الدولة، والتحرش على مالها، وقطف ثمرة ربيعها، رغم تواضع حجمه، لتوزيعه بين أعضائها دون أدنى شعور منها بالخيبة أو إحساس بالحياء، أو أن ما تفعله يعد ضرباً من الخيانة الوطنية الصريحة المباشرة. وذلك هو جوهر التحالف المختطف للثورة حاليا بنحو من النوايا التقسيمية المتوحشة بالمستقبل القريب.

لقد ثبت أن المبادرة التي أطلقت من مكتب السيد رئيس الوزراء لم تكن إلا لحظة استغاثة مخادعة لم تتجاوز فكرتها إحداث فرقعة تثير الانتباه، وتنبئ بأن جديداً ما قد طرأ بمكتب حمدوك مخالفاً لما ساد من قبل. لقد تقدم السيد رئيس الوزراء بمبادرة أعقبها تكوين آلية ستؤدي تفاصيل تشكيلها إلى المزيد من الفتنة، وفساد العلاقات بين الأفراد والمؤسسات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، وتعميق الجراح بين قواها والتي منها قوى الثورة التي جعلتها المبادرة تطرح لسؤال أين الثورة مما تستبطنه المبادرة من نفسٍ تصالحية وبعد وفاقٍ صار يتفتق يوما بعد يوم؟.

لقد أكدت المبادرة ومنذ إطلاقها، وبعد تكوين آليتها أنها محض محاولة لإعادة الحياة لدور رئيس الوزراء الذي فقد فعاليته وصلاحيته منذ وقت طويل مكنه وبارتياح من أن يبيع الصمت، والفرجة، والتفريط في الصلاحيات للرأي العام، وجماهير الثورة، بدلا عن الاتصال والتواصل الإيجابي المفيد كدعم كان من الواجب القيام به تقديراً للمجتمعات السودانية التي دفعت كل غالٍ ونفيس، وانتفضت في وجه حكم غاشم ولئيم.

في ثنايا ما تتداوله وكالات الأنباء والصحف من أخبار، أن قيادياً بالحرية والتغيير نفى علمهم، أو استشارة حمدوك لهم بمبادرته وآليته، في مقابل تصريح لقيادي آخر بذات (الحاضنة) بأن صلاحيات آلية حمدوك صلاحيات تنفيذية لا خطر لها على الحرية والتغيير.

ليت قيادي الحرية والتغيير الأول لو يعلم أن ما قاله يعد اعترافاً وإدانة ذاتية قبل كل شيء بمضمون ما نطق به. فالحاضنة السياسية التي سيادته قيادي بها قالت وتقول بأنها من أتت برئيس الوزراء في التعيين. ولكن المنطق يحدث ويقول بأنه وإذا ما كانت ثمة مؤسسة ما قامت بترشيح وتعيين مسؤول قيادي كحمدوك، ثم قام الأخير باتخاذ قرارات مصيرية من شأنها تشليع، وخنق الحاضنة (التي أتت به) فإن من حقها التخلص منه بسحب الثقة والإقالة بإبلاغ المجلس السيادي بما فعلت وتعيين البديل له بذات اللحظة، ومخاطبة الرأي العام بتفاصيل خرق المسؤول لميثاق بينها وبينه (رغم أن الناس تعلم تماماً بألا ميثاق بينهما، ولا يحزنون).

ذلك ما لم يحدث، وعليه يصبح أن ما ذكره القيادي بالحرية والتغيير بعدم المعرفة والعلم والاستشارة لهم قول من صنائع الغش السياسي المستمر من (الحاضنة) للرأي العام منذ أول لحظات تشكلها وانغماسها في اجتماعات ماراثونية غابت عنها الشفافية المطلوبة، كما التأمين لاجتماعاتها المخترقة التي تكبدت عيونا وشخصيات أمنية استطاعت اختراقها والانحراف بقراراتها.

لكن ما لم يقرأه العديد من المحللين يبقى في ذلك الهامش الذي تركه رئيس الوزراء والحاضنة معاً ليسرح ويمرح على مساحته أعداء التغيير بالتعريف السياسي الصارم، والذين مضوا إلى اقتراح عناوين عملية أكثر لمشروعات الانقضاض على الثورة. فاحتفالية الجيش بعيده الـ67 بالقاعة الرئاسية لمبنى القيادة العامة للجيش والتي خاطبها مبارك الفاضل، وإشراقة سيد محمود له، وشرف ليلتها عبدالرحمن المهدي، والممثل بن الانقاذ، وولد عمها (لزم) على مهدي، (كما ذكر في تصريح صحفي مشهور من قبل) تمكنت من فتح الستار على آخره لدعوة شريحة عرفت بانتهازيتها للمطالبة بحصتها في السلطة.

كان يمكن لمضمون المشاركة أن ينتهي هنا، بل كان للناس أن تتقبل مشاركة أولئك، إذ ليس ممنوعاً لأحد حضور احتفاليات وأعياد أي جهة دعك من الجيش لولا أن محتوى مخاطبتهم الصريحة قد غمز في سلطة القرار السياسي للمؤسسة الضالعة في حكم المرحلة عندما طالب مبارك الفاضل المهدي الجيش بالتدخل لتوسيع دائرة المشاركة خوفاً من أن (تتفرق البلد).

الذي يحدث ليس بالأمر الغريب أو العجيب. فما يحدث وببساطة متناهية هو عودة الرموز والأسماء المحروقة من الانتهازيين، والوصوليين، الذين داهمونا، وداهموا الإنقاذ فاكرمتهم بالرشاوى المتنوعة من توزيع المناصب، والأموال، وإقامة الشراكات السياسية، والاقتصادية معهم في أسوأ حقب الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ليعودوا من جديد طلباً للاشتراك في السلطة، والبحث عن نصيب يرونه مستحقاً، وحقاً مفقوداً مضاعاً في ردهات التغيير المزدحمة بطلبات الاقتسام للسلطة، وحان موعد استعادته عن طريق الجيش كخصم وخصيم بنيوي للثورة وامتداد أيديولوجي للسلطة الغاشمة بعلاقة كاملة معها، لا لبس فيها أو ظن.

لقد جرى ما جرى بعد مضي قرابة الثلاثة أعوام على المرحلة الانتقالية التي لم تقم سلطتها الفعلية المعبرة عن روح الانتقال في خضم عودة مظاهر لا تخفى على الأعين من التلكؤ الذي ارتبط بتأسيس سلطة الانتقال على مؤسساتها المعلومة من المجلس التشريعي، واستكمال البنيات العدلية المطلوبة.

وفيما يبدو أن سلحفائية التحول الديمقراطي بضلوع سلطة الانتقال حتى أذنيها في إحداثه، والتهريج السياسي القائم هو الذي أغرى ويغري لصوص الأمس، وزبانية الديكتاتوريات على الاستيقاظ من نوم مصطنع، وتنويم مغناطيسي أجرته لهم مؤسسة الدولة العميقة إلى حين بدء عمل الأذرع السياسية لها بالجهاز التنفيذي، وتمكين كتائبها من التنفيذيين بالمحافظة بدهاء على المناصب العليا بشتى الوزارات لصالح كوادرها ليتم الاقتسام من جديد للريع المشبوه.

ولا يتوقف الدهاء السياسي المعادي للثورة والتغيير هنا، بل يتخذ شكلا من إدارة الموارد بالوكالة. فالأحزاب المؤتلفة الحاكمة حالياً تستعين في مستويات الوظائف العليا بذات الموظفين القدامى، المشبوهين الذين خبروا الدخول والخروج من الأبواب السرية، واتخاذ التنظيم السياسي الشبحي لنهب أموال الدولة وفقاً لمعرفة دقيقة بفنون تسخير القوانين بصفة مضادة للمصالح الشعبية والسواد الأعظم من شعوب ومجتمعات السودان.

الخلاصة تبقى في وصف أن كلمة سر فهم، وتفكيك المرحلة تفضي إلى أن الإنقاذ قد حافظت على بقاء دولتها رغماً عن أنف الثورة، و(عيال الخرطوم) كما أسماهم حاكم دارفور الجديد، والذي كأنما كان قد جاء به الانتصار بالسلاح، ولم تجئ به الثورة وعيالها وعائلاتها الباذخة، الكبيرة، المترامية الوطنية والرغبة في صناعة السودان الآخر.

إن ما نتعرض له من احتيال سياسي بامتياز بعد ثورة مجيدة عظيمة، يكمن في بقاء الدولة الريعية الكليبتوقراطية دون أدنى تغيير، وكأنما ما تغير فقط هو أن الحداد الماهر قد صنع من هيكل (الثورة) عربة نقل لترحيل الراغبين من محترفي سرقة المال العام من منطقة إلى أخرى، باحتفاظ تام بكل تفاصيل إدارة الحكم، والإبقاء على ذات البيوت، والجيران، والميادين، والشوارع، والجسور، ونقاط  تفتيش صورية، وقوانين سير مؤقتة، مخادعة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى