صفحات متخصصة

الجذور الليبرالية للفلسفة النِسوية (1-2)

أمين حمزاوي
يحظى مصطلح «النِسوية» بغموض كبير في الثقافة العربية، نظرًا لأنه لا يتم عادة تمييز المُشترَك والمُتمايز بين الفلسفات والتيارات النِسوية المتنافسة، بالإضافة إلى عدد من المُعالجات والخطابات الرائجة التي يتم تقديمها أحياناً للمصطلح، خاصة في أوساط الإعلام المرئي ذات الانتشار الجماهيري الواسع، وفي الدوائر الثقافية المرتبطة بإيديولوجيات دولتيّة، أو سلطوية، أو مُحافظة دينيًا. لذلك فضّلتُ استعادة أطروحة نِسوية كلاسيكية، وليدة الفلسفة الليبرالية، هي أطروحة الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مِل في كتابه خضوع النساء، التي تُمثِّل أحد الدفاعات المتماسكة المُبكّرة عن المساواة بين الجنسين، والمُوجَّهة بغرض نقد السلطة الذكورية.
هي أطروحة حداثية ضمن الإطار الإنساني الليبرالي، أي إطار الذات الإنسانية العقلانية المُوحّدة (تلك الذات التي نجد عند مِل سعيًا لتحريرها من هويتها الذكورية الحصرية الموجودة لدى فلاسفة التنوير)، والإطار الديمقراطي-البرجوازي للدولة (التي كان مِل من أكبر مناهضي سلطتها). إلا أنني إذ أستعيد تلك الأطروحة، فإنني أعي السياق الذي أضعها فيه، وهو سياق أرى من الضروري فيه العمل على إحلال خطاب الحقوق الكاملة غير المنقوصة، والمؤسَّسَة على جدارة واستحقاق المرأة البديهي والمبدئي لتلك الحقوق، وليس على العطف، والرفق، والإحسان، وهي بعض المفاهيم الأساسية التي تستند إليها خطابات ترتبط عادة بالنخب الاقتصادية والقانونية الدولتية، والحركات الدينية الأصولية.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه لا يُمكن في رأيي قراءة تراث الفلسفة النِسوية دون قراءة الجناح الليبرالي منه، للوقوف على البذور المُبكّرة للأطروحات النِسوية، إما بغرض استعادتها (كلها أو بعضها)، أو بغرض تجاوزها. لكن ما يهم في الحالتين، هو أن تُعرَف تلك الأفكار، وتُناقَش وتُنتقَد، دون أوهام سطحية، أو شعبوية تخنقها. وهي الغاية التي يسعى لها هذا المقال، أي تقديم تلك الأفكار، ونفض الغبار عنها، كي تتضح بإنصاف لمعتنقيها ونقّادها/ناقداتها المُحتملين/ات.
الليبرالية: نظرة عامة
نشأت الليبرالية كتقليد فلسفي متماسك لدى الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، الذي صكَّ مصطلح «الحق الطبيعي» الذي ينص على أن الإنسان يمتلك حقوقًا: الحياة، والحرية، والملكية، بمجرد أن يُولد، وليس عبر امتياز وراثي اجتماعي، أو عرقي، أو ديني. وقد نشأت الليبرالية السياسية داخل إطار نظرية «العقد الاجتماعي»، التي طُوِّرت أيضًا بواسطة لوك، إلى جانب توماس هوبز، وجان جاك روسو، وإيمانويل كانط. وقد جادلوا بأن الحكومة في أفضل حالاتها هي شرّ لا بد منه، وبالتالي فإنه يجب عليها تبرير نفسها دائمًا، عبر ضمان مهمتها الرئيسية وهي تأمين الحماية المتساوية لحرية المواطنين عبر القانون، الذي يضمن للمواطنين الحريات الأساسية، كحرية التعبير، والعقيدة، واختيار من يحكمهم.
بدأ تطبيق المبادئ الليبرالية داخل إنجلترا عبر «الثورة المجيدة» في القرن السابع عشر، حين صدر «إعلان الحقوق» الذي أَقرّ بأن الشعب، وليس الله، هو مصدر سلطة الملك، كما أقرّ بحرية الرأي، وبسلطات البرلمان في إقرار القوانين. ثم تبعتها الثورتان الأميركية والفرنسية في القرن الثامن عشر، وهكذا ظلّت الليبرالية في تصاعد، بالتوازي مع حلول البرجوازية كطبقة سياسية حاكمة، وحلول النظام الرأسمالي محلَّ الإقطاع. وصولًا إلى القرن التاسع عشر، حين دافع جون ستيورات مِل (أهم فيلسوف ليبرالي في ذلك القرن) في كتابه الحرية عن أنه «إذا كان الجنس البشري كله، باستثناء شخص واحد، مُجمِعًا على رأي، وشخصٌ واحدٌ فقط مُخالفًا لهذا الرأي، ما كان الجنس البشري مُحقًا في إسكات هذا الشخص الواحد، أكثر مما لهذا الشخص الواحد من حق في إسكات الجنس البشري، إذا كانت لديه القوة»1.
1. في الحرية، ترجمة عبد الكريم أحمد، ص 44.
كان مِل من رواد الفلسفة التجريبية، الذين حاولوا مواءمة البحث في فروع السياسة والأخلاق والاقتصاد مع المناهج العلمية. وبرغم الأهمية الكبرى التي يتمتع بها كتابه الحرية، الذي كَتبه بالاشتراك مع زوجته هاريت تايلور، حيث يُمثل أحد أعمدة الفلسفة السياسية الليبرالية، والفلسفة السياسية عمومًا، إن لم يكن «إنجيل» الليبرالية؛ إلا أن لمِل كتاب آخر لا يقل عنه أهمية، بل يزيد إذا ما وضعنا في الاعتبار وقت كتابته ونشره، وهو كتابه الراديكالي خضوع النساء، الذي يُعَدّ العمل الكلاسيكي المُؤسِّس للنِسوية الليبرالية. لقد مَدّ مِل أفكار أسلافه الليبرالين لأقصى مداها، متجاوزًا رجعيتهم أحيانًا، وطموحاتهم المتواضعة في أحيان أخرى حيال المرأة، مُصرِّحًا بأن «المبدأ الذي يُنظم العلاقات الاجتماعية بين الجنسين -الإخضاع القانوني لجنس لصالح الآخر- مُخطِىء في ذاته، وهو يشكل أحد العوائق الرئيسية التي تَحول دون التقدم البشري، ويَتعيّن أن يُستعَاض عنه بمبدأ المساواة الكاملة، بحيث لا يُسلَّم بأية قوة أو ميزة لطرف، ولا بعجز عند الآخر». كما حاول تفسير الأصول الاجتماعية والتاريخية لاستعباد النساء، ونَقدَ بشكل جذري الادعاءات حول اختلاف طبيعة المرأة، التي تجعلها في الرأي الشائع غير مؤهلة لنيل حقوقها كاملة، أو تولّي أدوار ووظائف معينة.
أطياف العبودية
ينفي مِل أن تكون النظم السياسية، والقوانين المُنبثقة عنها، والتي شَرْعنت لخضوع النساء، قد قامت على محاولات فكرية تهدف إلى الخير الحقيقي للمجتمع ولكلا الجنسين2. فقد قامت تلك القوانين على الاعتراف بعلاقات القوى القائمة بالفعل، ولم تكن سيطرة الرجال على النساء نتاجًا لمقارنة واعية بين الأساليب المختلفة لتنظيم المجتمع، وإنما نتيجة لحُكم تعسفي مُسبق، أي أن ذلك النظام المُؤسَّس على التمييز بين الجنسين، وعلى إخضاع أحدهما للآخر، لم ينشأ بعد دراسة كافة أشكال التنظيم الاجتماعي بهدف تقرير أفضلها، حيث معيار تلك الأفضلية هو رفاهية وكرامة كلا الجنسين، بل تم إقراره تعسفيًا دون اختبار قدرته على تحقيق ذلك. وحجّته في ذلك هي أن الأساليب التي سبق تطبيقها في الماضي عقب خضوعها لاختبار عملي أثبت صحتها، قد تكون غير صالحة للتطبيق في وقت لاحق نتيجة زوال الظروف التي سمحت بتطبيقها أول مرة، فماذا عن تلك الأساليب التي لم تخضع لأي اختبارات عملية مُنصفة في الماضي، ويتم فرضها رغم ذلك على الحاضر بصفتها أكثر الأساليب مُلاءمة له؟
2. خضوع النساء، ترجمة عبد الكريم أحمد، ص 6.
يُقدم مِل تفسيرًا تاريخيًا للأسباب المؤدية لترسيخ العبودية بواسطة القانون قديمًا، مقارنًا إياه بترسيخ عبودية النساء القانونية كذلك، فهو يرى أن الوقائع المادية السائدة حينئذ، والمتمثلة في علاقات القوى كما يصفها، أو الإنتاج/الملكية كما نُفضّلُ وصفها، انعكست في صورة قوانين، كي تخدم مصالح المُلّاك ضد العبيد.
لقد كان الإرغام القائم على القوة المادية هو مصدر القوانين التي سادت في العصور القديمة والوسطى، وقد كان أيضًا مصدر تصورات الحق والعدالة في الجزء الأكبر من التاريخ البشري، حيث «أولئك الذين أُرغِموا فعلًا على الطاعة يصبحون بهذه الطريقة مُلزَمين بها قانونيًا». لقد عبّرَ القانون عن مصالح السيّد ضد العبد، مُستلهِمًا شرعيته من حقيقة واحدة، وهي سوط الأول المُسلَط على رقبة الأخير، ضمن مؤسسة العبودية، والتي يتضامن شركاؤها (مُلّاك العبيد) فيما بينهم «لتوفير الحماية المشتركة التي تضمنها قوتهم الجماعية، لممتلكاتهم الخاصة، بما فيها عبيدهم»3، عبر سلطة القانون الأخلاقية والاجتماعية، التي تُقِرّ مصلحتهم الخاصة في إخضاع عبيدهم بوصفها مصلحة عامة/كونية.
لكن ما المانع من أن يُخضِع السادة عبيدهم، أو أن يُخضِع الرجال النساء، طالما أنهم يمتلكون القدرة لفعل ذلك؟ تقوم الليبرالية كما ذكرنا على افتراض الحقوق الطبيعية للبشر، فالإنسان بنظرها يُولَد حُرًا، ولا يصير كذلك بموجب عفو أو تنازل من إنسان آخر أو جهة ما، وبالتالي فإن قدرة أحدهم على إخضاع الآخر تُمثِّلُ اعتداءً على تلك الحقوق. فليست الغاية الأخلاقية الليبرالية من امتلاك القوة هي إخضاع الآخرين، وإنما حماية النفس من تدخّل الآخرين المادي والمعنوي الذي يُقيّد حرية الفرد، وبالتالي فإن استغلال فردٍ ما لقدرته من أجل إخضاع الآخرين هو أمر مرفوض يسعى الليبراليون من حيث المبدأ إلى تجفيف منابعه، وذلك بالسعي لأن يمتلك الآخر الخاضع القدرة، والضمانات الكافية، للتخلص من ذلك الخضوع، أو تجنّبه حال حدوثه في المستقبل.
لكن على الرغم من استناده إلى علاقات القوى في تفسير العبودية، لم يَمُدَّ مِل الخط على استقامته، مطمئنًا إلى أن المدنية الرأسمالية الحديثة السائدة في زمانه داخل المجتمعات «المتحضرة» كما يصفها؛ قد تخلّت عن مبدأ القوة في تنظيم العلاقات الاجتماعية لصالح مبدأ التعاقد. لكن هل يعني ذلك تخليه عن الاعتقاد بأي فاعلية لعلاقات القوى/الإنتاج؟ لقد تحوَّلَ القانون كما يرى مِل تدريجيًا، وعلى مدار التاريخ، إلى أشكال أكثر إنسانية، وقد كانت سيادة المصلحة العامة والمساواة كإطارين للقانون نتيجةً لمقاومة الطبقات الأضعف لنيل الاعتراف، وكذلك لإدراك الطبقات الحاكمة بأن مصالحها طويلة الأمد تتمثل في تقديم التنازلات والاعترافات، ما ساهم تدريجيًا في تحول التنظيم الاجتماعي نحو مزيد من التنظيم والإنصاف القائمين على حاكمية القانون، وليس على القوة المُجرّدة.
على الرغم من ذلك، لم ينجرف مِل إلى الإقرار بأن نموذجاً إصلاحياً هو ما أتاح ذلك التحول تجاه علاقات اجتماعية خاضعة للتعاقدية القانونية، وأقل اعتمادًا على القوة المُجرّدة، فهو يؤكد على أن ذلك التحوّلَ لم يتم، ولم يكن ليتم، دون القوة نفسها كوسيلة، ففي كل حقبة تاريخية استمر خضوع المضطهَدين حتى «حصلوا على قوة تجعل في وسعهم الانتقام لأنفسهم»، وقد كانت هزيمة الإقطاع والكنيسة كما يؤكد نتيجةً لـ«نمو البرجوازية الغنية شبه الحربية في المدن المُحصّنة، ونمو الجيوش الشعبية التي أثبتت أنها أقوى في الميدان من الفرسان الذين لا يخضعون لنظام»4. وكنتيجة لذلك، فإن خضوع النساء يعني أنهنَّ لم يمتلكنَ بعد القوة المادية الكافية لـ«الانتقام»، أو للتغلب على إخضاعهنَّ المادي من قبل الرجل.
لم يتجاوز مِل الإطار البرجوازي، حيث سَلَّمَ بداهة بأن المجتمع البرجوازي قد حقَّقَ بالفعل التحوّلَ الكامل من التنظيم الاجتماعي القمعي إلى التنظيم القانوني العادل، وبأن الصراعات السياسية الدائرة في ذلك الإطار يُمكن توظيفها بواسطة الديمقراطية البرلمانية والتقدم الإصلاحي في الإطار الجمهوري البرجوازي، وبأنه لم يتبق من أشكال التنظيم الاجتماعي والقانوني القمعي القائم على القوة، سوى تنظيم علاقة الرجل بالمرأة، وبأن تلك العلاقة القمعية هي آخر ما سيختفي من أشكال الحق/الشرعية القانونية القائمة على القوة5. هكذا، وافق مِل كل المفكرين من النِسويين/ات الراديكاليين/ات من بعده، الذين اعتقدوا بأن آخر أشكال العبودية المُنحلّة ستكون عبودية المرأة للرجل، إذ اعتقدوا، مثله، أن السلطة المفروضة على النساء، مُتجذِّرة، وممتدة عميقًا في مؤسسات اجتماعية راسخة، ومشاعر ليست حِكرًا على طبقة أو فئة واحدة من الذكور، وإنما على جنس الذكور بأكمله. لكنه خالفَ الاشتراكيين /ات والشيوعيين/ات منهم/هن، إذ اعتبر أن سلطة الدولة، والطبقة البرجوازية الحاكمة، مثّلَت ذروة منحنى التنظيم السياسي، وذلك في صورة سلطة قانونية مُجرّدة من كل قوة مادية.
إن سلطة الرجال على النساء هي أعمق أنواع السلطة، وأكثرها تغلغلًا في المجتمع البشري، فلا سلطة أخرى تُنافسها في الرقابة المستمرة على الخاضعين لها، فبينما تخترق الثغرات كل أشكال السلطة الأخرى، تظل السلطة الذكورية أكثرها مناعة. فما من نبيل إقطاعي، أو حكومة بوليسية، مهما بلغت قوتها، يمكنها أن تتحكم عن قرب في الخاضعين لها، بمثل ما يُمكِن للرجال تجاه النساء، فصاحب الملكية قد يغيب عن ملكيته لبعض الوقت، أو يُوكلها لشخص آخر، على عكس الرجل، الذي كان مُوكلًا مثلًا (في ذلك الزمان الذي عاش فيه مِل على الأقل) باختيار من يحكم المرأة نيابة عنها دون اعتبار يُذكر لرأيها.
إن قسوة السلطة الذكورية تتمثل في أن ممارسيها «لا يريدون من النساء الطاعة فحسب، بل يريدون مشاعرهنَّ أيضًا»6، فأي أشكال السلطة الأخرى تُطالِبُ بالمشاعر إلى هذا الحد؟ صحيحٌ أن الحكومات، وأي مؤسسة سلطوية أخرى، قد تطالب تابعيها بالحب أو التعاطف، أو تتلاعب بوعيهم من أجل أن تنالهما، لكن ليس كأولوية، فالحكومة التي تعتمد على أن يُحبها المواطنون قبل أن يهابوها، لن تصمد لدقيقة أخرى في الحكم، بينما يريد الرجال من النساء الحب في المقام الأول، بل الحب المتفاني الصادق، حتى وهنَّ خاضعات لهم. الشيء الذي تكفله التربية، عبر تلقين المرأة أن دورها الحقيقي هو العيش لأجل الآخرين، وهؤلاء الآخرون بالطبع هم رجالٌ دائمًا، وحتى لو كُنَّ نساءً، فإن العيش لأجلهن (تربية ابنة مثلًا) يجب أن يصب في المُحصّلة لصالح الرجل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى