الرأي

التطبيع مع إسرائيل: نتينياهو وجنازة مانديلا 

جعفر خضر

وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتينياهو السودان بأنه دولة “عربية” في خطابه الذي ألقاه في أعقاب مكالمته الهاتفية الرباعية مع ترمب والبرهان وحمدوك.

ولم أر أن ذلك أثار حفيظة أي من مؤيدي التطبيع، الرافض أكثرهم لحصر هوية السودان في “عربية”، ويبدو أنه انطبق عليهم قول الشاعر العربي (عين الرضا عن كل عيب كليلة).

إن وصف نتينياهو للسودان بالدولة العربية لم يكن جهلا بالصراع الدائر داخل السودان حول هوية الوطن والذي لا يزال. وإنما لأن مصلحة نتينياهو الآنية تتطلب أن يكون السودان عربيا. وذكّر نتنياهو مستمعيه بمؤتمر اللاءات الثلاثة الذي انعقد في الخرطوم في ١٩٦٧  وقال إنها كانت: لا صلح مع العدو الصهيوني ولا اعتراف ولا تفاوض، وانعكست الآن نعم للصلح نعم للاعتراف ونعم للتفاوض. يقصد نتينياهو أن الأساس الذي قامت عليه مقاطعة إسرائيل قد انهد الآن تماما.

تتباين أسباب دعاة التطبيع في حين يدعو بعضهم له من أجل مصلحة  السودان، حسب ما يبدو لهم، إذ أن ذلك سيؤدي إلى الرفع من قائمة الإرهاب حسب الابتزاز الأمريكي السافر، وأن مساعدات إسرائيلية ستأتي من غير أن يضربوا أمثلة كافية لهذه المساعدات في بلدان العالم الأخرى. ويضيف آخرون أن رافضي التطبيع هم أسيرو شعارات عروبية “عفا عليها الزمن” بتعبير حسين خوجلي، في محاولاته الإعلامية للتمهيد للتطبيع في حقبة الإنقاذ الأخيرة.

ضاع، في غمرة صراع الهوية داخل السودان، البعد الإنساني للقضية الفلسطينية، وتناسى البعض الانتهاكات الجسيمة قتل الأنفس وسلب الأرض والفصل العنصري ضد الفلسطينيين.

وتم عزل مؤتمر اللاءات الثلاثة من سياقه التاريخي، إذ كانت السمة الرئيسية لحقبة الستينات هي مساعدة حركات التحرر الوطني في نضالها ضد الاستعمار في أجواء الحرب الباردة.

وكان نضال الفلسطينيين والسود في جنوب أفريقيا يأتي في المقدمة لطبيعة الاستعمار الاستيطاني الذي كرّس للفصل العنصري ضد المواطنين الأصليين في هاتين الدولتين.

لم يكن السودان بمعزل عن هذه الأجواء بل كان في خضمها بعد نيله لاستقلاله في العام ١٩٥٦.

بل وقبيل استقلاله كان السودان جزءا من مؤتمر باندونق بأندونيسيا في ١٨ أبريل ١٩٥٥ والذي حضرته وفود ٢٩ دولة أفريقية وآسيوية، وكان هذا المؤتمر هو النواةَ الأولى لنشأة حركة عدم الانحياز، وقد شارك فيه إسماعيل الأزهري ممثلا للسودان، وتبنى المؤتمر مجموعة من القرارات ضد الاستعمار.

وانبثقت عن مؤتمر باندونق منظمة تضامن الشعوب الآسيوية الإفريقية، وهي منظمة تكرس لمبادئ التحرر الوطني والتضامن مع شعوب العالم الثالث.

وقاد السودان مبادرة دبلوماسية تجاه الوضع في جنوب أفريقيا واستضاف مؤتمر التضامن الآسيوي الأفريقي من أجل تحرير جنوب أفريقيا بالخرطوم في يناير ١٩٦٩ في حقبة رئيس الوزراء محمد أحمد المحجوب.

ويأتي هذا امتدادا لجهود سودانية لمؤازرة مواطني جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري، ويعتبر السودان من أوائل الدول التي اتخذت قرار مقاطعة نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.

ولقد زار الزعيم نيلسون مانديلا السودان في فترة نظام عبود، تحديدا في العام ١٩٦٢م، وتم منحه جوازا سودانيا دوباماسيا باسمه نيلسون مانديلا، وكان قبلها يتحرك بجواز عليه اسم مستعار أو بأوراق تمنحه استثناء لدخول القطر المعين.

ومن ناحية أخرى ظل الجواز السوداني العادي يتضمن عبارة “مسموح له بزيارة كل الأقطار عدا إسرائيل وجنوب أفريقيا”، وأزيل الحظر عن “جنوب أفريقيا” بعد نهاية نظام الفصل العنصري مطلع التسعينات. ثم أسقط الحظر المكتوب على الجواز لإسرائيل قبل حوالي عشر سنوات.

في ظل هذه الأجواء النزّاعة للتحرر من الاستعمار جاءت قمة اللاءات الثلاثة في الخرطوم. وهي مؤتمر القمة الرابع لجامعة الدولة العربية، عقدت القمة في ٢٩ أغسطس ١٩٦٧، على خلفية هزيمة عام ٦٧ أو ما عرف بالنكسة. وداخليا جاءت بعد ثورة أكتَوبر ١٩٦٤ حيث ارتفعت معاني الحرية والكرامة. وقد عرفت القمة باسم قمة اللاءات الثلاثة حيث خرجت القمة بإصرار على التمسك بالثوابت من خلال لاءات ثلاثة: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه. حضرت كل الدول العربية المؤتمر باستثناء سوريا.

وأصرت القمة على أحقية الشعب الفلسطيني ببلاده، وتم إنشاء الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي على أساس توصية، واتفق المشاركون على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لتعزيز الاستعداد العسكري، وضرورة الإسراع في القضاء على القواعد الأجنبية في الدول العربية.

ولقد سخر الشاعر أحمد مطر من القواعد العسكرية المتزايدة بعد الخطب السياسية الجوفاء، فقال:

بدعة عند ولاة الأمر صارت قاعدة،

كلهم يشتم أمريكا،

وأمريكا، إذا ما نهضوا للشتم، تبقى قاعدة،

فإذا ما قعدوا، تنهض أمريكا لتبني قاعدة.

إن تصوير البعض لتعاطف الآخرين مع القضية الفلسطينية باعتباره استلاب عروبي أو ديني يجافي الحقيقة تماما. إنه تعاطف مع شعب مضطهد مسلمه على مسيحيه من دولة دينية تقوم على الفصل العنصري.

هذا لا يمنع وجود الأخطاء الكبرى من الكثير من النخب التي حكمت السودان وصورته أنه دولة عربية إسلامية، وتنكرت لمجموعات كثيرة شريكة في الوطن وهي ليست عربية ولا مسلمة، إذ أن السودان بلد التنوع الهائل.

ولكن الاستناد على هذا التشويه لهوية السودان لكراهية العرب أو المسلمين لدرجة مباركة ظلم الفلسطينيين، فإن هذا لا يستقيم.

وقد قال الزعيم نيلسون مانديلا “كفاحنا لن يكتمل بدون إعطاء الحرية للشعب الفلسطيني”. وقد قال أيضا “ليس حرا من أهين أمامه إنسان ولم يشعر بإهانة”.

ولذلك عندما رحل مانديلا، هذا الزعيم الخالد، تقاطر رؤساء العالم أجمعين لحضور جنازته لكن لم يكن بقدرة نتينياهو أن يكون بينهم، فكيف لرئيس دولة تقوم على الفصل العنصري أن يشارك في جنازة من أفنى عمره في مناهضة الفصل العنصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى