الرأي

الانتقال الديموقراطي (6) وعلى باندونغ تمتد سمائي …

مهدي رابح
العنوان أعلاه مأخوذ بالطبع من قصيدة (آسيا وإفريقيا) المعروفة, للشاعر المجيد الراحل تاج السر الحسن الحسين والتي ابتدرها بالبيت الذي حوله الفنان المبدع عبد الكريم الكابلي الى مقطع موسيقي خالد:” عندما أعزف يا قلبي الأناشيد القديمة, ويطل الفجر في قلبي على أجنح غيمة…الخ”, طرب له الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وصفق طويلا عندما تغنى به أمامه من على خشبة المسرح القومي بأم درمان إبان زيارته للسودان عام 1960م.
وباندونغ الواقعة في إقليم جافا الغربية هي المدينة الأندونيسية التي أقيم فيها المؤتمر المعروف والذي أضحى النواة الأولى لحركة دول عدم الانحياز, حيث جمع قادة دول عديدة من قارتي آسيا وإفريقيا خارجة لتوها من ربقة الاستعمار والمتطلعة بتفاؤل لا يخلو من بعض السذاجة نحو غد سعيد ومشرق, بمن فيهم زعيمنا الراحل إسماعيل الأزهري تاركا خلفه عند إيابه قافلا الى الخرطوم علما رمزيا لا يعدو خرقة بيضاء مكتوب عليها بخط يده وعلى عجل SUDAN والذي أصبح لاحقا إحدى المقتنيات الثمينة لمتحف آسيا وإفريقيا في قيدونغ ميرديكا بجزيرة جافا منذ افتتاحه عام 1980م على يد الديكتاتور الأندونسيي الراحل سوهارتو بمناسبة الاحتفاء بمرور ربع قرن على هذا الحدث التاريخي الهام.
لم يكن بوسع أي من أولئك الزوار ذوي المقامات السامية أن يتخيل عام 1955م حجم المجزرة التي ستجري أحداثها بعد عشر سنوات فقط على هذه الأرض الوديعة باهرة الجمال, والتي تشكل جافا إحدى 13000 جزيرة يشملها أرخبيل هذه البلاد الواسعة والمعقدة جدا والتي تمثل اليوم على مستوى كوكبنا الصغير رابع أكثر الدول سكانا (275 مليون) وثالث أكبر الدول ذات نظام الحكم الديموقراطي وأول دولة من حيث عدد السكان الذين يدينون بالإسلام (88%), ويعيش داخل حدودها 366 مجموعة عرقية تتحدث 700 لغة حية.
تعد المجزرة التي تعرض لها الشيوعيون عامي 1965م و1966م, من أنصار حزب (PKI قدرت عضويته حينذاك ب3.5 مليون مشكلا أكبر حزب شيوعي بعد الاتحاد السوفيتي والصيني) والتي قادها الجيش مسنودا بحزب نهضة العلماء الإسلامي وجناحة الشبابي (أنصار) وراح ضحيتها, حسب متوسط تقديرات غير دقيقة نصف مليون مواطن أندونيسي, من أكبر عمليات القتل الجماعي في التاريخ الحديث وبالتأكيد تأتي ضمن القائمة القصيرة القبيحة التي تتصدرها ألمانيا النازية ومحارقها وروسيا الستالينية وقولاغاتها وأمريكا ونابالمها في فيتنام, وكانت إيذانا داميا لفشل سياسة الزعيم الراحل سوكارنو المعلنة لخلق توازن بين القومية والدين والأيديولجيا الشيوعية وكذلك فشل محاولاته النأي عن آثار الاستقطاب الحاد بين المعسكرين الشرقي والغربي عبر تبني مبادئ حركة عدم الانحياز, والذي أصبح حلما بعيد المنال مع اشتداد أوار صقيع الحرب الباردة القاتل والذي دفع ثمنها في عديد بقاع العالم أناس أغلبهم من البسطاء الذين لا يميزون بين كارل ماركس وسانتا كلوز أو علاء الدين ومصباحه السحري.
قاد سوكارنو معركة الاستقلال من الاستعمار الهولندي, وهي معركة طويلة ودامية انتهت عام 1949م باعتراف هولندا بأندونيسيا دولة ذات سيادة, وتبنت البلاد نظام حكم برلماني وقوانين تتماشى مع المبادئ الديموقراطية توجت بانتخابات عام 1955م تنافس فيها 34 حزبا برزت منها أربعة أحزاب رئيسة: الحزب القومي, حزب ماسيومي, حزب نهضة العلماء ( إسلامي) والحزب الشيوعي. وساهمت طبيعة النظام البرلماني في إضعاف الاستقرار السياسي حيث تمت ثمانية تغييرات وزارية في غضون عشر سنوات فقط , فأصدر سوكارنو عام 1959م مراسيم رئاسية تقضي بالرجوع الى دستور عام 1945م الذي وفر له صلاحيات تنفيذية واسعة استطاع من خلالها إدخال الجيش كلاعب أساسي بجانب دعوته للحزب الشيوعي للمشاركة لخلق نوع من التوازن في حكم لم يبق من ديموقراطيته إلا اسمه, فقد اتسمت الفترة بين عامي 1957م و1966م بقمع الحريات الفردية والعامة وسجن الخصوم السياسيين دون إجراءات قانونية.
كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة في الثلاثين من سبتمبر 1965م والتي قادها ضباط في الجيش محسوبين على الحزب الشيوعي والمجزرة البشعة التي تلته والتي ذكرنا من قبل إيذانا بنهاية ما سمي “النظام القديم” وخروج الحزب الشيوعي من اللعبة وانحياز أندونيسيا التام للمعسكر الغربي تحت قيادة ضابط الجيش الذي قاد عملية إخماد الانقلاب, سوهارتو, والذي أصبح بفعل التوازنات الجديدة صاحب الكلمة الأخيرة الفعلي في البلاد الى أن تسنم رئاسة الدولة رسميا عام 1967م في إجراء غير دستوري عزل بموجبه الزعيم التاريخي سوكارنو.
أسس سوهارتو لنظام حكم (تنموي قمعي), وأعاد تصميم القوانين بدهاء للحد من الحريات السياسية وتقليل عدد الأحزاب المنافسة بينما كون حزب جولكار كحزب دولة مرتبط بصورة عميقة بالمؤسسة العسكرية واستطاع أن يحافظ بذلك على السلطة منفردا حتى عام 1998م. وخلافا لنهجه غير الليبرالي في إدارة الدولة فقد تبنى سياسات اقتصادية نيوليبرالية حققت من جانب نموا غير مسبوق ومن الجانب الآخر فجوات طبقية واسعة عمقت الإحساس بالظلم الاجتماعي لدى شريحة واسعة من الشعب الأندونيسي في ظل تراكم الثروات غير الشرعية لدى أفراد عائلته كما لدى أفراد النخبة الحاكمة والفاسدة.
أعاد مجلس نواب الشعب انتخاب سوهارتو 1998م لفترة سابعة ولمدة خمسة أعوام أخري, لكن تزامن ذلك مع الأزمة المالية الآسيوية التي ضربت اقتصاد البلاد وتسببت في انهيار قيمة العملة المحلية (الروبية) مما ترتب عليه هزات اجتماعية عنيفة وأعمال شغب وسفك للدماء أسفر عن دمار كبير في العاصمة جاكرتا وعن فقدان سوهارتو كذلك لكل الدعم السياسي حتى من قبل مناصريه, فقد قدم وزراؤه المعينون حديثا استقالاتهم وأصبح بذلك مجبرا على الاستقالة بدوره وتسنم نائبه المهندس يوسف حبيبي الرئاسة خلفا له في الحكم.
تكمن عظمة حبيبي في البون الشاسع الذي يفصل فقدانه الكامل لأي رصيد شعبي, كونه أحد رموز نظام سوهارتو والدور الرئيسي الذي لعبه بكل اقتدار في إنجاح التحول الديموقراطي عبر خطوات مدروسة وجريئة. فقد تمثلت أكثر خطواته شجاعة في ترسيخ سلطة المدنيين على حساب العسكر الذين كانوا بمثابة حارس لبوابة النظام بامتياز ولعقود طوال, لكن ذلك لم يكن ممكنا دون أن ينحاز العسكري الأول والقائد الأعلى للجيش ووزير الدفاع بصورة صريحة وقوية للسلطة المدنية, تبين ذلك عندما كشف للرئيس الجديد مخططا أعد له الديكتاتور قبل أن يغادر وكان سينفذ من قبل صهره لولا يقظة الجنرال ويرانتو وحسه الوطني والاحترافي العالي.
عمل حبيبي أيضا على كسب قطاع من أحزاب المعارضة ما مكنه من التقليل من إمكانية إسقاط الاحتجاجات الشعبية الواسعة مقرونة بإحياء إقليم مثل تيمور الشرقية وبابوا واتشي لمطالبها الانفصالية لحكومته, وخلافا لخلفه فقد اعتمد حبيبي قوانين جديدة فتحت الأبواب واسعة أمام الحريات والانفتاح السياسي بدلا عن القمع, وسمح بتكوين أحزاب جديدة بينما حول جولكار, الحزب الحاكم, الى حزب عادي بدون امتيازات تفضيلية. عمل حبيبي أيضا على تكوين لجنة انتخابات مستقلة تمهيدا لعقد انتخابات في عام 1999م, وعلى تقليل التوترات الإقليمية بالسماح بتقرير مصير تيمور الشرقية التي اختارت الانفصال واعتمد حكما ذاتيا لا مركزيا لبقية الأقاليم وفرت مشاركة أوسع في السلطة, كما عمل على ضمان استقلالية البنك المركزي التامة وتطوير سياساته النقدية مستعينا بمستشارين من ألمانيا, تلك البلاد التي عاش وعمل فيها لعشرين عاما سابقة. وكان من أهم إسهاماته على الإطلاق التعديلات التي أجراها على دستور 1945م ليصبح الإطار القانوني الأعلى الحامل لكل تلك الإصلاحات.
عقب انتخابات حرص حبيبي وحكومته على نزاهتها وبعد رفض الجمعية الاستشارية الشعبية والتي تملك صلاحية انتخاب الرئيس الجديد خسر حبيبي معركته السياسية الأخيرة عام 1999م, لكن نظرا للمدى الزمني القصير الذي أتيح له مقارنة بالإرث الذي تركه والذي وفر أساسا متينا لتأسيس نظام حكم ليبرالي تعددي, فإن ما أنجزه يعد خارقا بكل المقاييس لكن لعبت القيادات السياسية كذلك والتي خلفته في السلطة بعد عام 2000م أدوارا مهمة رسخت النظام الديموقراطي وأوصلته الى مرحلة الاستدامة واللاعودة الى الديكتاتورية.
في ختام المقال وكعادتنا نقتطف بعضا من الحوار الذي أجراه محرري كتاب (التحول نحو الديموقراطية) مع الرئيس يوسف حبيبي والذي دار, أي المقتطف حول عملية إصلاح الانتخابات :
” أنا لم أتدخل في الانتخابات, إنما فتحت الباب للمنظمات الأجنبية غير الحكومية وطلبت من الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر تقديم المساعدة ومراقبة الانتخابات. وقد أتي الأوروبيون والأمريكيون واليابانيون, بينما كان سلفي يضع أعوانه دائما في لجنة الانتخابات. كانت تعليماتي لوزير الداخلية أنه يجب ألا تضم اللجنة أي مسؤول حكوميي أو أعضاء أحزاب سياسية بل شخصيات تتمتع بالمصداقية في المجتمع. احتجوا قائلين إنني سأخسر الانتخابات, لكني قلت لهم إن هذا لا يهمني. قال وزير الاستخبارات إن هذا نذير بخسارتي لحزبي. مرة أخرى قلت إن هذا لا يهمني, أريد أن يكون الفائز هو الشعب كائنا من يمثله.”
… يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى