الرأي

الانتقال الديموقراطي (5)  غانا، ساحل الذهب، مرفأ الديمقراطية

مهدي رابح
” لقد سدد لكمة قوية إلى كتفي اسقطتني أرضاً ثم حاول أن يسحبني إلى الأعلى ليضربني مجدداً، لقد مزق سترتي”.
أعلاه تصريح مقتضب للسيد نكنسون آركاه نائب الرئيس الغاني متحدثاً عن اعتداء الرئيس رولينغز عليه خلال اجتماع لمجلس الوزراء انعقد في الثامن والعشرين من ديسمبر ١٩٩٦م. ما قد يكون مثيراً لدهشة المطلع السوداني على التاريخ الغاني الحديث، أكثر من التشابه الجسدي والسلوكي الكبير الذي يجمع الرئيس الراحل جيري رولينغز (توفي 2020م)، أو كما كان يسميه البسطاء من الجمهور الغاني بابا جي (Papa J)  والرئيس الراحل جعفر النميري (توفي 2009م) أو كما كان يسميه بعض البسطاء من الجمهور السوداني أبعاج، هو التناقض الصارخ بين ذلك التشابه ومحصلة مسيرة كل منهما، والتي شكلت حاضر بلديهما، أحداهما خارجة للتو من نظام إجرامي دموي وفاسد بكل ما تحمل الكلمة من معان، يتلمس بداية الطريق لإعادة بناء دولة منهكة مفككة وعلى حافة الانهيار، وأخرى قطعت شوطا مقدرا نحو مستقبل جيد، ورست على سواحلها الذهبية، وبصورة دائمة ومستدامة، سفينة الديمقراطية والاستقرار.
كحال السودان وبلاد إفريقية شقيقة أخرى نالت غانا استقلالها نهاية خمسينيات القرن الماضي وبالتحديد عام 1957م عقب مسيرة نضالية مشرفة قادها الزعيم التاريخي كوامي نكروما على رأس حزبه (حزب المؤتمر الشعبي) ممسكاً بدفة الحكم خلال مرحلة الخروج من براثن الإرث الاستعماري. ورغم النجاحات السياسية الاقتصادية والاجتماعية النسبية التي تحققت في بداية حكمه إلا أن حكومته جنحت لاحقاً وبالتدريج إلى الديكتاتورية، وكمثيلاتها اصطدمت عملية الانتقال إلى الدولة الحديثة ذات السيادة بفشل كبير تسببت فيه الهوة التي تفصل تطلعات شعوبها غير المحدودة والعجز في تحقيقها الراجع إلى محدودية الموارد المادية والبشرية وهشاشة مؤسسات الدولة الوليدة وهو ما أدى في نهاية الأمر وكعديد الدول الإفريقية الأخرى في حقبة ما بعد الاستعمار إلى أن تحل أكثر مؤسسات الدولة حداثة وموارداً وتنظيما وتماسكا، أي الجيش محل الحكومة المدنية باقتلاع السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1966م مما أدخل البلاد إلى مركز عاصفة الدائرة الخبيثة المعروفة جيداً لدينا والتي تقاذفتها لعقود بين حكم ديمقراطي مدني ضعيف ووجيز يعقبه حكم عسكري قمعي عضوض، فاشل وضعيف أيضاً.
قاد الملازم الطيار المغامر الشاب جيري رولينغز إحدى هذه الانقلابات المتكررة عام 1979م، وهو في ريعان الـ 32 عاماً من العمر، منهياً حكماً عسكرياً آخر هذه المرة، وناقلاً السلطة سلمياً وعلى الفور إلى حكومة مدنية دستورية. هذا الحدث مقروناً بخطاب رولينغز (بابا جي) الشعبوي البسيط وفتوته وأصوله الاجتماعية المتواضعة، كما في حال (أبعاجنا) إلى حد ما، جعل من المحرومين من الامتيازات التاريخية والبسطاء يستشعرون أن الرجل يعبر عنهم ويمثلهم، ما ضمن له رصيداً شعبياً كبيراً سيستمر لاحقاً وإلى ما بعد مغادرته الفانية.
واجهت الحكومة المدنية الجديدة كسابقاتها فشلاً ذريعاً في عديد القضايا وسقطت النخبة الحاكمة في فخ الفساد والمحسوبية في ظل أزمة معيشية وغضب وتململ شعبي متصاعد، ولم تمر سنتان حتى قاد رولينغز على رأس ما أسماه مجلس الدفاع الوطني المؤقت انقلابه الثاني عام 1981م، لكن هذه المرة مدفوعاً بجانب قوة السلاح بالقبول الشعبي وبخطاب أيديولوجي ماركسي ــ لينيني صريح ــ ومستنداً أيضاً على دعم بعض النخب اليسارية المؤمنة إيماناً شوفينياً نقياً بإمكانية تحقيق يوتوبيا الخلاص الاشتراكي.
تبنى رولنغز لاحقاً ومتأثرا إلى حد بعيد بنظريات صديقه الشخصي معمر القذافي في ليبيا المفهوم الرافض للديمقرطية الليبرالية التعددية بوصفها خديعة غربية، واستبدله بما ادعى أنه نموذج حكم غاني فريد ومتأصل في نظام الحكم التقليدي القائم على الاجماع والمشاركة المجتمعية المباشرة والذي يقوم بتمكين المجتمع عبر هياكل الحكم الذاتي المحلية وغير الحزبية والتي غلب عليها الطابع القبلي في عديد الأقاليم خصوصاً في الريف، وساهم خطابه الشعبوي المعادي للنخبة المكروهة أصلاً والفاسدة في حشد الجماهير وترسيخ الانتماء الوطني وتمكينه من القيام بحملات كبرى لزيادة الإنتاج ومحاولة الوصول إلى الاكتفاء الذاتي أبرزها كان تجميد عام دراسي كامل لإرسال التلاميذ للعمل في الحقول مستنسخاً الأسلوب المأوي دون شك (أشبه بنسخة مصغرة لكن أقل دموية من الثورة الثقافية الصينية). اعتمد النظام الحاكم الجديد (وهو ما يذكرني كثيراً بدعاوي البعض اليوم لضرورة قيادة لجان المقاومة للسلطة الانتقالية وتكوين مجلس تشريعي ثوري تمثل فيها اللجان بدلا عن الأحزاب السياسية) على ما أسماه لجان الدفاع العمالية ولجان الدفاع الشعبية والتي تم توحيدها لاحقاً في لجان الدفاع الثورية التي منحت صلاحيات واسعة دون إطار مؤسسي أو قانوني متين أدى إلى تهميش الطبقة السياسية وقمعها وتوسع رقعة انتهاكات حقوق الإنسان وخلل في إدارة شؤون الدولة وبالتالي تدهوراً مريعاً في الوضع الاقتصادي والبيئة السياسية والاجتماعية.
إزاء استفحال الوضع وفي تغير مفاجئ يوضح براجماتية الديكتاتور ونظرته الواقعية قام رولنغز عام 1983م، ومرتداً عن سياساته الاقتصادية الشعبوية السابقة باعتماد برنامج إصلاح هيكلي اقترحته المؤسسات المالية الدولية، سمي برنامج الإنعاش الاقتصادي مكن غانا من الاستفادة من تدفق المساعدات والقروض الدولية واعتماد سياسات تقشفية أنعشت الاقتصاد، لكن كانت لها أثار سالبة على شرائح واسعة من الشعب الغاني أيضاً.
لم تتوقف مطالب الحركة المناصرة للديمقراطية للعودة إلى نظام الحكم الدستوري وإلغاء القوانين القمعية والرجوع إلى حكم القانون واحترام حقوق الإنسان منذ الموجة الأولى في 1982م بقيادة تجمعات مهنية وكنسية وطلابية ونقابية واستمرت رغم التنكيل الشديد الذي تعرضت له وقامت بموجة احتجاجات ثانية في منتصف الثمانينيات استجابة للتململ الشعبي، لكن رغماً عن ذلك استمر النظام في ترسيخ السياسة غير الحزبية عبر إنشاء مجالس المناطق المشكلة بموجب انتخابات أجريت في عامي 1988م و1989م.
يعتبر تشكيل حركة الحرية والعدالة عام 1990م، وهو تحالف سياسي اجتماعي عريض ضم كيانات سياسية ونقابية ومجتمعية ومهنية مختلفة، نقطة مفصلية في تطور وتغيير دينامية المعارضة كما شكل الضغط الكبير الذي مارسه المجتمع الدولي ومجتمع المانحين القوة الكافية التي فرضت على النظام البراجماتي للانفتاح وقبول رولينغز عام 1991م لعديد الإصلاحات أهمها إعادة صياغة دستور دائم بناء على دساتير قديمة تتضمن التوافق على نظام حكم ليبرالي حزبي تعددي، لكن وفي المقابل سيطر النظام على العمليات المرتبطة بصياغة الدستور متجاهلاً استشارة قوى ديمقراطية أساسية ومرسخاً مواداً تفتح الباب أمام إفلات رموزه من العقاب في قضايا الانتهاكات المتعددة، ورغما عن توسع التحالف المعارض إلى 11 كتلة ليتحول إلى اللجنة التنسيقية للقوى الديمقراطية إلا أن الدستور أجيز عبر استفتاء مباشر في مايو 1992م، وبالتالي انفتح الفضاء السياسي نحو حرية التنظيم والتعبير وغيرها وتم تسجيل عدد من الأحزاب من ضمنها حزب رولينغز الذي أسماه ولسخرية الأقدار المؤتمر الوطني ما مكنه من الفوز بانتخابات نفس العام عبر مناورات شابتها كثير من التجاوزات. احتجت المعارضة على التزوير الواسع وقامت بمقاطعة الانتخابات البرلمانية اللاحقة مما ضمن لحزب رولينغز فوزاً ساحقاً وأغلبية 189 مقعداً من مجموع 200 في البرلمان.
على إثر مقاطعة المعارضة للنظام أعلن الحزب الوطني الجديد بزعامة جون كوفور وأحزاب متحالفة أخرى استعدادهم “للتعامل” معه، أي النظام، وتقبلوا بالمشاركة في لجنة استشارية حزبية لإصلاح العملية الانتخابية وتعزيز الثقة فيها ورفع مستوى نزاهتها وكانت محصلة ذلك قبول المعارضة للفوز الثاني لحزب رولينغز في انتخابات عام 1996م والفوز بدورها بانتخابات عام 2000م وتنصيب كوفر كأول رئيس مدني لغانا وهي ثمرة مسيرة طويلة من الضغط السلمي مهد له تقليص رولينغز لقدراته القمعية واستثماره في المؤسسات الديمقراطية دون شك.
نجح الرئيس كوفور بعد ذلك في ترسيخ العملية الديمقراطية بصورة أعمق ورغم الانقسام الواضح في الفضاء السياسي الغاني اليوم بين الحزبين الكبيرين إلا أن نجاح كليهما أي كوفور ورولينغز في بناء مؤسسات ديمقراطية مستقلة وأهمها لجنة الانتخابات المحايدة والاحترام الذي حظيت به من قبل الأحزاب السياسية وقادتها ومستوى نزاهة الانتخابات التي نجحت في إدارتها تحت حماية القضاء المستقل والعادل ساهمت في تعزيز ثقة الجماهير بمؤسسات الحكم، كما لعبت القوات المسلحة دوراً مفصلياً باحترامها للدستور وحمايتها له والتزامها الصارم بالمهنية والاحترافية وبقائها خارج العملية السياسية ورضوخها للسلطة السياسية المدنية.
رغم أن النظام الديمقراطي في غانا ما زالت تعتريه بعض العيوب ونقاط الضعف إلا أن المؤكد هو استدامته واستحالة رجوع البلاد إلى حكم ديكتاتوري آخر خصوصاً وأن نظام الحكم الدستوري أثبت فاعليته في تحسين نوعية حياة الناس حيث تتقدم البلاد بخطى ثابتة وحثيثة كما تدل على ذلك عديد المؤشرات.
نقطتف في ختام المقال فقرة من الحوار الذي أداره محررو كتاب (تجارب التحول إلى الديمقراطية) مع الرئيس كوفور:
“الدستور الجيد ضروري للأمة، دستور يوجب احترام حقوق الإنسان واحترام صناديق الاقتراع واحترام لجنة الانتخابات المستقلة والقضاء المستقل. إذا قمت بكل هذه الأشياء ستصنع السلام لأن الناس سيشعرون حقاً بأنهم يشاركون في إدارة حكومتهم. وإذا أنكرت عليهم ذلك سيكون لديك (ربيع عربي) أي أن الشعب سيثور عاجلاً أم آجلاً لتعزيز حقوقه. لذا فإنني أقول أينما ذهبت (لنعتمد دستوراً جيداً). يجب أن تقسم الحكومة على الدستور وتحترمه وتسمح للشعب بالكلام وبحرية الإعلام. ويجب التحقق من أن الحكومة في موضع المسائلة دائماً، وإذا ما تم كل ذلك لن يجد من يريد اغتصاب السلطة مبرراً لذلك.”
… يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى