الرأي

الانتقال الديمقراطي (12) الفشل ليس قدرنا المحتوم …

مهدي رابح
في ختام سلسلة مقالات “الانتقال الديمقراطي” هذه، أتمنى صادقاًأن يصبح جهدي المتواضع هذا دافعاً لمن امتلكوا صبر متابعتها لقراءة كتاب “تجارب التحول إلى الديمقراطية”، وللاهتمام والاطلاع أكثر على تاريخ الأمم التي مرت بهذه التجارب والتي قد تكون مصدراً جيدا ًلاستخلاص الدروس والعبر وتوسيع حدود خيالنا ليتخطى صندوق تجارب “انتقالاتنا” الفاشلة السابقة، أو النماذج المعلبة الجاهزة والمحفوظة داخل أنماط التحليل التاريخي لبعض السرديات المتكلّسة، وربما أيضاً كمحصلة مهمة أخرى، هي ترسيخ الإدراك بأننا جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية الأوسع وبأننا، وبرغم المسافات التي قد تفصلنا، نتشارك لحظاتٍ تاريخية ذات دلالات عميقة مع شعوب أخرى، فمن كان يظن مثلاًأن بعضاً من أجدادنا كانوا جزءاً من تاريخ المكسيك؟، وأنهم خلدوا هناك ملاحم بطولية بقيادة البكباشي محمد الماظ أفندي، أو أن الزعيم نيلسون مانديللا زار الخرطوم في يونيو 1962م للقاء مجموعة من شباب المؤتمر الوطني الأفريقي ANC خلال تدريبات تبنّتها حكومة عبود؟، أو التشابه الكبير بين رولينغر والنميري وصداقتهما؟، وغيرها من عديد نقاط الالتقاء المدهشة.
لكن الأهم من كل ذلك هو أنها ربما تدفع آخرين لمشاركة العديدين ما ظلوا يؤمنون به إيمان العجائز، بأن الفشل ليس قدرنا المحتوم وأن باستطاعتنا إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي في بلادنا كما فعل إخوتنا الآخرون في الإنسانية، فتجارب التحول التسع الناجحة التي أحسن محررو كتاب (تجارب التحول إلي الديمقراطية) وصفها وتحليلها ليست أقل التباساً مما نمر به اليوم، وتاريخ تلك الأمم ليس أقل دموية والمعطيات السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي انطلقوا منها ليست أقل تعقيداً وهو ما يعني أنه لم يتبقَّأمامنا اليوم سوى التوافق حول غايات عليا ومنهج واقعي للوصول إليها يضع المصلحة العامة كأولىأولوياته أمام أي تصورات قبلية جاهزة للحلول المطلقة، تلك المدفوعة بأحلام الخلاص الطوباوية لأيديولوجيات دوغمائية تجمدت في لحظة تاريخية تجاوزها الزمان، أو رؤى عاطفية مدفوعة بالرغبة في الانتقام اللحظي، أو طموحات محمومة بتحقيق مكاسب ذاتية أو جهوية ضيقة في معركة غير مجيدة، سيصعب بعد أن ينجلي غبارها التفريق بين القاتل والمقتول والأبطال والأوغاد لأن الكل سيخسر فيها وطنه لا محالة، فليس أمامنا اليوم من خيار إلا سلوك الطرق الذي تسمح بها إمكانات الواقع المتاح، وموازين القوى الحقيقية على الأرض، ومحاولة ابتكار حلول خلاقة وحاذقة للخروج من ذلك النفق المظلم، المفروش بالأشواك والآلام والملطخة جدرانه بدماء ملايين الضحايا، والذي ظللنا نتعثر في منعرجاته دون هدى على مدى الستة عقود الماضية. والرهان من بعد ذلك على النجاح بدلاًمن الاستغراق في لطم الخدود وفي بكائيات لاتنتهي، وتوجيه كل إرادتنا وفكرنا وطاقاتنا نحو محاولة بلوغ عتبات تحقيق هذا الحلم العزيز، علّنا في يوم ما في المستقبل نستمتع بقطف ثمارغرسنا هذا بل ربما بقراءة كتب أخرى تدوّن التجربة السودانية كإحدى التجارب التي يجب أن يحتذى بها، وتحكي للعالم وللأجيال القادمة كيف استطاع جيل ثورة ديسمبر 2018م السودانية، نساءً ورجالاً، وضع اللّبنات الأولى للمشروع الوطني الموحد وترسيخ أسس ثابتة لدولة معافاة، قوية، متقدمة، سعيدة، تسع الجميع.
فرضية النجاح المرجّح آنفة الذكر ليست تنجيماًأو خطاً على الرمال للتنبؤ بالغيب إنما تعتمد بجانب حقيقة أننا دولة تمتلك موارد غير محدودة وغير مستغلة، على قراءةٍ للواقع وطرحاً لجوانب العجز التي يجب العمل عليها لضمان أسباب النجاح هذا، وهو ما لا تسمح به المساحة المتاحة لهذا المقال الأخير بصورة مفصلة، لذا سأكتفي بإيرادها إيجازاً في بعض أهم المحاور علّ ذلك يشجع آخرين للإدلاء بدلوهم وتفعيل الحوار والمساهمة في توسيع كوة الأمل وإغناء العملية السياسية الجارية بأفكار جديدة وبناءة وتوجيه النقاش إلى جوهر القضايا، بدلاً من الاكتفاء بالخطاب السهل المسموم والمحتشد بالتخوين والاغتيال المعنوي للشخصيات ونظريات المؤامرة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
المحور الأول في تقديري هو ترجيح كفة الأمل على كفة اليأس بترسيخ تصور الغاية العليا من التغيير المنشود في الوعي الجمعي للجمهور، أي الغاية المتمثلة في إعادة بناء الوطن علىأسس جديدة وإعداده للخروج من دائرة الفشل إلى آفاق النجاح، بحيث يتمكن الجميع من التركيز على تحقيقه واستيعاب ماهية تعقيدات الطريق المؤدي إليه وحقيقة أن ليس ثمة خط مستقيم وسهل ومخطط له مسبقاً يجب اتباعه،إنما هو طريق متعرج يتخطى العقبات الواحدة تلو الأخرى، وقد ينحرف مؤقتاً من الخط المثالي المستقيم هذا لكنه في نهاية الأمر يعود ليتجه نحو الهدف الكبير عبر انتقالات عدة متداخلة، من حرب إلى سلام، من ديكتاتورية إلى ديمقراطية، من عسكرية إلى مدنية، من فقر مدقع إلى رفاه، من سيادة منقوصة إلى سيادة كاملة علىأراضيه، ومن عنصر توتر إقليمي ودولي إلى عنصر استقرار.
الثاني، وهو من أخطر أشكال العجز الحالي والمتمثل في التشوهات الكبيرة المصاحبة لتحليل الواقع وبالتالي في شكل التصورات المختلفة المتبناة ونوعية القرارات المستقبلية المتخذة، وهو ما يعني أن العبور يمر حتماً بإعادة قراءة شجاعة لتاريخنا الذي طالت كل صفحاته يد التزييف تقريباً، ثم قراءة واقعنا الحالي على ضوئه كما هو دون تجميل أو رتوش، أي ذلك الواقع الذي يشير دون شك إلىأن النظام السابق بتجلياته الثقافية وبنيته المؤسسية والتشريعية ما زال حياً يرزق يمشي بيننا في الأسواق، وما زالت أصابعه تعبث على زناد البنادق الموجهة نحو العزل أينما رأىأن ذلك يخدم مصلحته في إفشال الانتقال، وأن البلاد تعيش أضعف حالاتها على شفا الانهيار التام وأن الوضع يمكن أن يتحول بين لحظة وأخرىإلى حرب أهلية شاملة وأن الفترة الانتقالية الحالية ربما تكون آخر فرصة متاحة أمامنا للخروج من هذا المأزق التاريخي، وأن السودان لا يمكن اختزاله في الخرطوم أو المراكز المدينية الأخرى، وأن أطرافه المهمشة حالياًإما مشتعلة فعلياًأو مهيئة تماماً لذلك، والدليل ملموس ويترجم يومياً ارتفاعاً في عدّاد الموت الدموي العشوائي اللّعين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى