الرأي

الانتقالية بين أحزاب وأفندية!

بثينة تروس
لقد تصادف إعلان نتائج تشكيل الحكومة الجديدة في يوم حزين يجسِّد مدى ما حاق بالشعب السوداني من إذلال وامتهان لكرامته، إذ تمّ قبر 86 جثة من أصل 168 جثة تم تصنيفهم بمجهولي الهوية! وُجدت بمستشفى ود مدني التعليمي، تراصت وتحللت و”تعفنت” والتصق بعضها ببعض منذ عام 2019 في مخالفة لأبسط قواعد الدين والأخلاق والآدمية، ولو كانت الحكومة تعبأ بالإنسان السوداني لكان هذا الحدث سبباً في تأجيل إعلان الحكومة نفسها!.
في أثناء غياب الرؤية الاستراتيجية للحكومة الانتقالية الأولى، التي فشلت في أن تلتزم الشفافية وتقويم أدائها وتأطير ملامح الدولة المدنية في حكومة التكنوقراط تكررت خيبات الماضي، حين هجمت الأحزاب بالمحاصصة والتسويات السياسية، على مقاعد الاستوزار دون رضاء الشعب الذي قال كلمته في الأحزاب التي لحقت بثورة ديسمبر في آخر الركب، ولقد شهدنا كيف كانت غضبة الثوار وعدم رضائهم، فقد تم حصبهم بالحجارة ومطاردتهم ومنعهم من مخاطبة الشعب بل حتى إمامة الصلاة، وحينذاك بدورها أعلنت الأحزاب زهدها في تولي مقاعد في الحكومة الانتقالية حتى موعد الانتخابات.
ولكن الطبع غلاب! ها هي تجهض ثورة ديسمبر كما فعلت بأكتوبر حذوك النعل، رئيس وزراء (أفندي) السيد حمدوك كما الأفندي سر الختم الخليفة في السابق! وحكومة ثورية يُقال وزراؤها الذين التزموا خط التغيير الثوري، وفي مفارقة دراماتيكية لا تزال الحكومة تنعقد وتنفض في قرار الإبقاء على وزير التربية والتعليم البروفيسور محمد الأمين التوم، الذي أوكلت الحكومة عصارة جهده العلمي ورعايته لسياسات تغيير مناهج المتأسلمين، إلى تقييم رهط من الفقهاء ورجال الدين (أهل الحل والعقد) في تصاعد لموجات الهوس الديني وصلاحيات اللجنة الأمنية في تصنيف الوزراء بحسب معتقداتهم الفكرية!.
كما سبق أن تعالت أصوات مافيا الأدوية والفساد والتمكين في أروقة وزارة الصحة حتى تمت إقالة د.أكرم التوم دون مراعاة لمصلحة الشعب أو التغيير الثوري!.
أما بخصوص ما شهدنا من نسبة تعيين النساء في الحكومة الجديدة فهي على التحقيق تلونت بالطابع الحزبي دون المطلبي بالرغم من وعود متكررة بذلها السيد حمدوك بتعيينات تعكس استحقاقاتهن وتماثل جهوده في تحسين وجه السودان عالمياً!
لكن الشاهد؛ أنه ظلت أربعة مقاعد هي حصتهن ما بين الإحلال والإبدال، ووقفت تلك العقبات والعراقيل شاهداً على قضايا النساء المعلقة ما بين الشراكة السياسية وتعديل قوانين الأحوال الشخصية، وإجازة اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)! وكل ما من شأنه كانت جماهير النساء تتوق إلى حسمه بالشرعية الثورية في الحال، بعد ظلامات ثلاثة عقود من حكم الإخوان المسلمين الذي أذل وقهر المرأة باسم تحكيم الشريعة الإسلامية! وللأسف فإن افتقار الأحزاب لرؤية واضحة تعالج قضاياً المرأة هي العقبة الحقيقية أمام نيلهن لكامل حقوقهن بل هي أصل تأخر هذا البلد.
كتب الأستاذ محمود محمد طه: (ولا عاصم للناس من أن ينخدعوا إلا إذا علموا أن فلسفة الحكم عند الأحزاب لا تهبط عليها فجأة، وإنما هي امتداد لفلسفة قادتها، ونظرتهم للحياة، وأخلاقهم، وميزان القيم عندهم، في معيشتهم اليومية. فالقادة المحبون للرئاسة، الكلفون بالتسلط، الفرحون بالجاه والثروة، لا يمكن أن يعطوا أحزابهم فلسفة حكم صالحة.. “فأنت لا تجني من الشوك العنب”) انتهى 1964
ومن دراما الأحداث عقب ثورة إبريل 1985 طالبت الأحزاب حكومة سوار الذهب بتمديد الفترة الانتقالية حتى تتعافى من حكم النميري الطويل! ولكن الإخوان المسلمين ظناً منهم أن دولتهم قد حضرت استعجلوا الانتخابات، فخيب الشعب ظنهم فكان الحكم من نصيب حزب الأمة، ثم لم يلبثوا أن أجهضوا الديمقراطية وأذاقوا الشعب الأمرين.
ولا تغيب على بداهة المتابع للأوضاع بعد اتفاقية سلام جوبا، الذي ظل ناقصاً وعجز عن إطفاء نيران الحروب في الهامش، إنه فقط مكن القادة من كراسي السلطة! وبه سعى د. جبريل إبراهيم لاستعادة سيرة الحركات الإسلامية التي تسلقت ثورات الربيع العربي وأجهضت نضال الشباب لتعود من الباب الخلفي، ولقد شهدنا كيف كان أول طوافه ببيت د.الترابي مدللاً أنه لم يفقد إيمانه بالحركة الإسلامية أو بقادتها الذين كفر بهم الشعب وأطاح بهم وبحكمهم، ومن أجل ذلك رحبت بتعيينه الجماعات الإسلامية بشقيها (مؤتمر وطني وشعبي) وعبرت عن ارتياحها لتقلده مهام وزراة المالية، وغافل من ظن أن ذلك عفو الخاطر! فقد أمنوا الحساب والعقاب وتنفسوا الصعداء فلقد عين لهم (خازن بيت المال) الذي يرعي رأس المال الإسلامي! فلقد أتاهم الساعة جبريل.
وقبلاً خدع شيخهم د.الترابي الشعب (اذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السجن حبيساً).
وكيف يتوقع الشعب حلولاً للمشاكل الاقتصادية بعد رفع الدعم عن السلع الضرورية وتقفي نفس خطوات النظام البائد في الأذعان للبنك الدولي على حساب إفقار الشعب.
بإضافة قلة حيلة الحكومة التي أعلن رئيس وزرائها حمدوك أن 80٪ من ميزانية الدولة وجل الأموال في أيدي الشركات العسكرية! (البرهان وإخوته الإسلاميين)! يتربعون على الأموال ويتفرجون على معاناة الشعب بطول البلاد وعرضها حتى عمت الفوضة والتخريب والسرقات وحرائق الأسواق، في مدن السودان المتفرقة ما بين القضارف والأبيض، ثم يشيع فلول النظام أن (ثورة الجياع) تدق الأبواب.
لقد ضيقت الحكومة الانتقالية في تشكيلتها الجديدة على نفسها الخناق، بعد أن قطعت شوطاً في محيط العلاقات الخارجية ومدت أياديها بيضاء لعون المجتمع الدولي حتى تتجاوز عقبات وتحديات فترة حكمها، متعهدة بتوطين الديمقراطية والحكم المدني، وتحقيق السلام الذي ترتضيه جميع الحركات، ومحاربة الإرهاب والتطرف الديني، وتحقيق المواطنة المتساوية، والاهتمام بقضايا وحقوق النساء، لكنها أخفقت في خلق تجانس بين مكوناتها، بإضافة تحديات شراكة المكون العسكري تم تعيين وزراء لكل منهم أجندته الحزبية! ولا يتوافقون حول ما يصبو إليه الشعب، وحتى لا تقود هذه الحكومة الجديدة البلاد إلى متاهة أخرى كسابقتها ليس أمامها غير الإسراع في إقامة مجلس تشريعي للتوفيق بين تلك المكونات وإخراج البلاد من حافة الانهيار. وتحقيق مطالب العدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى