الرأي

الإسلامويون وكراهية الأنسنة..!!

مصطلح (الأنسنة) يستخدم عادة لوصف الميل إلى إلصاق سمات الإنسان إلى كائنات أخرى غير الإنسان، ونحن في هذه المقالة لا نقصد هذا الفهم العلمي البحت لكن نقصد تجرد الإنسان من إنسانيته عندما يكون كائنا آخرا ويعيش بين البشر ولا يشعر بفداحة ما يقوم به، يهلك الحرث والنسل، والفداحة الكبرى والعظمى أنه يرفع شعار التمسك بالإسلام، ويتلبس في مظهره شخصية المسلم الورع الزاهد والمدافع عن دين الله وهو في حقيقة الأمر ليس له علاقة بهذا الدين ولا بتعاليمه، هذه المقالة معنية في المقام الأول بدعوة هؤلاء المتلبسين برداء الإسلام إلى الإنسانية، فالمرء عندما يكون إنسانا يشعر بحاجة من يشاركهم الوطن إلى الحب وإلى التسامح وإلى العيش بسلام.
إن الخالق العظيم جل وعلا عندما خلق الإنسان سخر له كل مافي الأرض والسماوات كالشّمس، والنُّجوم، والقمر، والحيوانات، والنباتات، والجمادات، فجعل دورة الحياة في الكون متكاملةً بين جميع عناصرها، فقد رتّبها الله، ونظمها في نمطٍ ونَسَقٍ يساعد على تسخيرها للإنسان، وثم تأتي المعرفة التي هي من أهمّ صفات وخصائص الإنسان، ولأنه خليفة الله في الأرض فكان على الإنسان أن يتعاون مع أخيه الإنسان في كل ما من شأنه ازدهار الحياة، ونشر كل معاني الإنسانية بين الناس..الحب..التعاون..التعاضد..الحرص على سلامة المجتمع، بكل تنوعاته الإثنية والعرقية والدينية والثقافية والجهوية، لا بل الدفاع عن كل فرد فيه بكل ما أوتي الإنسان من قوة لأن الاعتداء على فرد واحد هو اعتداء على جميع سُكان هذا المجتمع، إن الاسلامويون لابد وأن يتأملوا في هذه المعاني وأن يبصروا مواقع أقدامهم منها، ولا يهربوا من تبعات التفكير فيها.
كائنات أخرى..!
الإنسان بوصفه كائنا بشريا خليفة الله في الأرض وبما رزقه الخالق من إمكانيات فهو يرسخ لقيم العمل لنفسه أولا، حتى لا يكون عرضة للضياع أو التفكير في تجنيب ممتلكات المجتمع لنفسه أو لأسرته، لأن العمل الشريف ينتفع به هو ومجتمعه ثم وطنه وذلك بالابتكار وتأسيس كل ما من شأنه أن يُعزز قوة المجتمع وينتهز كل فرصة لتوفير الأمن المجتمعي والأمن الغذائي بقيام المشاريع التي ينتفع منها الناس عامة، إن الانسانية مفهوم واسع وكبير يشمل كل ما هو مفيد لبني الإنسان، ومكمن الخطورة أن يتحول جزء من المجتمع لأي سبب من الأسباب إلى كائنات أخرى، كما عشنا في تجربة الثلاثين عاما المنصرمة، ولا زالت هذه الكائنات تعيش بيننا.
إن دعوة الإسلامويين إلى الأنسنة لا يجب أن تقابل بالصد والرفض والإساءة إلى من دعاهم إليها، والحرص الشديد على البقاء خارج نطاق الإنسانية بشعارات إسلامية، الحقيقة أن هناك بونا شاسعا ما بين الإنسان المسلم الحقيقي والكائن الذي يتلبس رداء الإسلام، لأن الأول هو صاحب مسؤولية كبيرة جدا يرى بأنها تطوق عنقه في أن يكون متفانيا في خدمة المجتمع، ومسخرا كل جهد لشركاء الوطن، ومن هنا فإننا نجد الصورة واضحة أمامنا من خلال سنوات الغيبة التي عشناها ولا زلنا نعيشها من خلال ممارساتهم البشعة اللاإنسانية.
الحقد الأسود ..!!
إن الأنسنة هي أن قبول نقد الآخرين.. الشركاء في الأرض وفي الإنسانية.. ومراجعة النفس والوقوف عليها بالتشذيب والإقلاع عن الممارسات التي تضر بني الإنسان في المجتمع والوطن، وعدم الاحتماء بالمقدسات الدينية في ارتكاب المظالم وانتهاك الحقوق لأن الدين الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يصون الحقوق ويدعو إلى التمسك بالوحدة الوطنية والعض عليها بالنواجذ، الدين هو الذي يقبل الاختلاف في التفكير وفي الرأي لا العكس، الدين هو الذي علمنا ” بارك الله في من أهدى إليّ عيوبي”.
عزيزي القارئ..
إن المقالات التي كتبتها في هذه الصحيفة الغراء، لا تحسب أنها مرت عليّ مرور الكرام، بل واجهت فيها أصنافا من ردود الأفعال الجزء الأكبر منها قدم لي طاقات إيجابية ومعنوية ونفسية غير محدودة بالدعوات الصالحات والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى بالحفظ والصون لي وأسرتي، أما ردود الأفعال الأخرى أكدت كما كنت متوقعا حاجة تلك الجماعة للأنسنة، فقد وصلتني الكثير من التهديدات المبطنة والعبارات التي رسخت لي القناعة بأن ما خطه هذا القلم من رسائل قد وصلت لأكبر قطاع منهم، حتى أنهم يستفسرون بعضهم البعض عن سبب غيابي عن الكتابة في الأيام الماضية، ذلك الغياب القسري الذي فرضته ظروف العمل، ووصلتني بعض التعليقات الذين وصفوا ما كتبته بـ” الكتابات المشحونة حتى التخمة بالمواقف القصوى التي يُراد لها أن تكون مبررة عبر كمية من التلاعبات ومحاولات تصنيع الأدلة وتضخيمها”.!!.
بعض الناقمين وصف كتاباتي بأنها تعبير عن حقد أسود، وبسبب اختلاف في مغانم وليس في مبادئ، خلاف يخفي وراءه حقدا دفينا، وهناك من أرسل لي مقالا طويلا مكتظا بالاستشهادات والاستدلالات اجتهد كاتبه جهدا خارقا وصرف فيه كلاما كثيرا حتى يصل بالقارئ إلى نتيجة بسيطة جدا هي أن المنشق عن جماعته “مسخ مشوه ويتناقض ويتقلب بين التيارات الفكرية والسياسية دون تحفظ نكايةً في جماعته”.
ويضيف بأن المنشق “يسعى ما وسعه الجهد ليثبت أن تماهيه مع قومه الجُدد كامل ولا تشوش عليه أي فكرة مما يُظن أنها قد تبقى معه من ماضيه”.
بطبيعة الحال أن منطلقي من دعوة الجماعة للأنسنة لم تأتِ من فراغ، كلا جاءت من ضرورة حقيقية، ونستشف ذلك من خلال الاستهانة بالجرائم التي ارتكبوها، إن جريمة قتل النفس المسلمة جريمة كبرى وداهية عظمى، فإن الاسلام الذين يدعون التمسك به حافظ على الكليات الخمس الضرورية وهي: الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وعندما نذكر جرائمهم العظيمة في مواقع سودانية كثيرة وقتل الناس بالآلة العسكرية الجوية والأرضية وحرق القرى بمن فيها، يصفون كل ذلك تلاعبا ومحاولات منا لتصنيع أدلة وتضخيمها.
نموذج سبدرات..!!.
من خلال تجربتي الثانية بعد الخروج من السودان قبل 20 عاما ومناقشاتي مع العديد من الجماعة أرى أنهم لم يتقدموا قيد أنملة للأمام، فلا زالوا في النقطة التي تركتهم فيها، مستمسكين بكيانهم لدرجة العبادة، لذلك أن تعريتهم وكشف جرائمهم ضد الإنسان في نظرهم حقد دفين لا مبرر له، وجميعهم اتفقوا على أن صاحب هذا القلم قد أصبح (شيوعيا) وفي رواية قد انضم إلى (حقت)، وراحوا يسوقون لبعضهم البعض هذه الترهات، رغم أني ذكرت كثيرا أني قد كفرت بكل الدعوات الحزبية، وأن حزبي هو قلمي، لكنهم لا يدرون بأني أتقرب إلى الله زلفى بكتاباتي هذه، وأخدم بلادي العزيزة وكلي سعادة بذلك.
أحد المتنطعين من الجماعة في النقاش دائما يذكر لي نموذج عبدالباسط سبدرات عندما قال أنه “لن يبصق على تاريخه”، ويتساءل هذا الأخ.. كيف بالله فعلتها وسبدرات الشيوعي لم يفعلها، قلت لمحدثي أولا أن جماعة سبدرات الأولى لم يرفعوا شعار الإسلام ولم يدعوا أنهم شعب الله المختار، ولم يسرقوا مال الشعب السوداني، وليس لديهم أرصدة بسويسر أوماليزيا أو دبي أو تركيا، وكما قالت إحدى الأخوات ” جماعة سبدرات السابقة لم يكن لديهم قصور وفلل ولم ينهبوا، ولم يصنفهم العالم مجرمي حرب، ولم يطالبهم المجتمع الدولي للمحاكمة عاشوا شرفاء، فليبصق الآن سبدرات على تاريخ رفاقه (الإنقاذيين)”.
خلاصة القول.. ليس بالضرورة أن من خرج عن تنظيم سياسي ينتمي لآخر، فالكثير من أصحاب التجارب السياسية والفكرية الواحد فيهم يرى أن إمكانياته الفكرية والذهنية أكبر من أن يستوعبها حزب أو جماعة، لأن الحزبية إطار ضيق مهما اتسع، ومن هنا أرى أن العودة للأنسنة مدعاة للتفكير العميق وهي ليس دعوة للإسلامويين فحسب بل لكل أصحاب الكيانات والجماعات التي ترى بأنها على الصواب دائما وأن ما تطرحه غير قابل للمراجعة، وأن التزمت والتشدد في طرح الأفكار يؤدي في النهاية إلى الانهيار وإلى التشرذم.
[email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى