استنارة

الأم … فلسفياً[1]

سامي عبد العال*
لم يناقش الفلاسفة وضعية الأم بشكلٍّ بارز ومُوسَّع، ربما لكونِّها علامة استفهامٍ أكثر من كونها موضوعاً. وقد يعدُّ ذلك أمراً غائباً نتيجة بداهة التسليم بحضورها الحميم، كما هو الحال لدى كانط، عندما تأثر بأمه ريجينا رويتر (1697-1737) تأثيراً كبيراً، ولا سيما من جهة نزعتها اللاهوتية التقوية Pietism التي عايشها منذ الطفولة.
التقوية حركة بروتستانتية تؤكد على الورع والزهد والبساطة، وقبول المرء لحاله في الحياة، وفي الوقت نفسه عدم الاكتراث بالطقوس والشعائر وعدم التعصب لها والتواضع مع الناس، ما أورث كانط مقتاً لشكليات السلوك والمعتقدات، لدرجة أنَّه امتنع – حينما نضجَ شاباً- عن حضور الصلوات العامة في الكنيسة، حيث رأى أنَّها تُرسخ التدين المزيف، وأنَّ هناك شيئاً أعمق من ذلك.
من ثمَّ ظل كانط يبغضُ غلبة الجانب الديني الظاهري على الجانب العقلي في تعليمه؛ فهو يكره التعليم بأساليب الجدل الذى لا يتوقف، والمراسم الشكلية، والساعات الطوال في تعليم الشعائر والطقوس المتصلة بها. وبهذا، دفعته أمه مبكراً لطرح أسئلة حول الأخلاق، لأنَّ الأخلاق هي الصدى البعيد للشعور الأمومي في شخصية الإنسانية عامة، وهي ما أولاها كانط جلَّ اهتمامه في شكل الواجب المبذول لأي إنسان مهما يكن. الواجب هنا- من جهة كليته وبذله- به جانب أمومي لا تخطئه العين[2].
لكن ماذا لو طرحنا سؤال الأم صراحة؟ هل تكشف الأم عن شيء جديد للتفلسف؟ كيف يتم التفكير فيها، وما هي أهم القضاياً؟
من غير ألقاب أو مساحيق، تأتي الأم ُكياناً مكتملاً، هي لا تنتظر شيئاً خاصاً من أحدٍ؛ كلُّ إنسان ليست له إلاَّ أمُ واحدة فقط، بينما قد يكون له أكثر من أبٍ، حيث يقوم النظام الاجتماعي بتلك المهمة لو غاب الأب المادي، وحتى كلمة الأم تصبح مشوشة إذا أُضيفت إليها كلمات أو عبارات سواها، لأنَّ الأم كمعنى دوماً فائقة الوصف ineffable، خارج المقارنة، بعيدة عن التماثل. كما لو كانت كياناً روحياً يصعب على اللغة احتواؤه[3]، وإذا حملت صفات فليس أقل من مضمونها الإنساني.
طبيعة الأم دلالياً تنتمي إلى مستوى آخر من التعبير. ليس هو الكلام الاعتيادي، إنما أشبه بنص كوني حياتي. إذ تفتح قوس التطلع نحو آفاق الماضي والمستقبل إلى أقصى إمكانية؛ لأنَّها تمثل الحنين إلى الرحم البدئي لكياننا الجنيني الأول. كذلك تمثل اللقاء الدائم بالسكينة طوال الزمن الآتي. فالعودة هنا تأتي من القادم. وليس إلى الماضي فقط على ما تدل كلمة العودة.
إنَّ صرخة الطفل خروجاً من الرحم هي شق الوجود نحو الحياة، ولكنها ذات الصرخة المعبرة عن أمان ما كان ليدركه حتى يفقده إجمالاً. وإذا كان الإنسانُ قد خرج من “رحم بيولوجي” إلى “رحم ثقافي”. فالأخير يقوم على الصراع والعنف، بينما الرحم الأمومي هو الملاذ الأول. الحنين، الحلم، الذاكرة الحميمة، الماضي السعيد. ولذلك يوجد فيه شيء من الحياة الأبدية التي يتطلع إليها الإنسان في شكل يوتوبيا مؤجلة. قد تكون علاقةً مع معشوقة يراها على صورة أمه. أو تتسع، لتشمل مدينة فاضلة يعيش فيها الحملان بجوار الذئاب ولا خوف. وقد تبدو على صورة الجنة التي ينعم الإنسان فيها بكل الملذات.
الرحم الأمومي هو تجرية الحياة الأصلية. فهذا التكوين الجنيني له علاقة بالنوم الهانئ السعيد، كنوع من التوحد الكامل مع مصدر الإشباع المتواصل، حيث كان يغتذي الطفل من الحبل السري دونما عناء، وحيث لن يجد مكاناً سواه يحمله برعاية مطلقة، وهو المدد الذي سيطلبه تباعاً من الإله والقوى فوق الطبيعية. هناك في بعض الحضارات القديمة عمليات دفن، كانت تتم بتكوير جسد الميت على هيئة الأجنة البشرية.
وهذه دلالة تُماثل وضعيةَ التكوين في الرحم الأول، على أساس أنَّ الإنسان القديم – في مجتمعات الهلال الخصيب مثلاً – لدية ميل لاعتبار الدفن أشبه بوضع الإنسان في الأرحام البيولوجية. وفي ذات الوقت، سيتم ذلك عند الموت بأمل خروج الأموات من الأرض مثلما خرجوا من الرحم الأنثوي، وهو ما يُناظر أيضاً بين الأرض وبين الأم؛ فالاثنتان تعودان إلى الطبيعة في كمونها الخلاق. كما أنَّ مدار العودة يجري بأمل الإنبات مرة ثانيةً، كما تنبت الأشجار والأزهار. وهذا التصور كان لدى أغلب الحضارات التي تعتقد بالحياة الأخرى بعد الموت. وربما تعلَّم الإنسانُ منه البذر والفلاحة؛ فالبذور أجنة الأرض التي تنبت من التربة نباتات وارفة الظلال.
والرحم من هنا يشكل جميع مستويات الحياة. وصحيح يخرج الإنسانُ مقذوفاً منه إلى الواقع المعيش؛ لكنه يعتبر نموذجاً يتبلور داخله العالم والكون. فلو تصورنا الأشياء موجودةً عبر رحم كوني كبير، لكانت تعدُ بالمزيد من الإمكانيات. فكلَّ جديد يأتي من رحمٍ ما، من مخاضٍ ما.
وحدها الأم تنفرد بالمخاض دون سواها؛ وكأنَّها تنفرد بسمة الخلق الأساسي للكون؛ لأنَّها لا تُسمى بهذا الاسم إلاَّ من خلال تلك العملية العصيبة. إنها نقطة انطلاق لميلاد مختلف؛ نقطة بداية لتفتح الكائنات البشرية. ولهذا ارتبطت الأم بالمجتمع ارتباطاً وثيقاً، لأن المخاض يضعها في أولوية العلاقات الاجتماعية. هناك احتفاء كبير بالأم بدءا من الزواج والجنس والحمل والولادة، هذا على الرغم من المكانة المتدنية للمرأة في المجتمعات على اختلافها.
وفي تلك المرحلة -مرحلة المرآة mirror stage عند جاك لاكان[4]- مع انقذاف الطفل يشعر بالاغتراب معوضاً ذلك برحم الأوهام البديلة. فلكي يعوض إحساسه بالتشظي يعتني بصورته في المرآة، حيث يتماهى مع كيانها المتخيل. فهي تشكل له قوس الوحدة الجسدية المتكاملة مما يعطيه إحساساً بالكمال والنرجسية. ونتيجة شعوره الدائم بفقدان الكيان المتماسك، يجعل الصورة نموذجاً مثالياً ساعياً للتماهي معها، ما يحدد أبعاد الهوية والآخر وعلاقاته بالغير؛ لأن انفصالاً عن الأم يجر معه اغتراباً عن الأصل.
وذلك يتحول من مجرد علاقة أولية إلى هوة سحيقة بين الطفل وصورة ذاته. وتوطئةً للالتحام الرمزي بكيان المجتمع، سيظل هذا الانفصام مصاحباً لعلاقاته المستقبلية، حيث سيسعي للانخراط في نظام أكثر شمولاً وتنوعاً، وهو نظام اللغة إذ تتكون لديه أخيلة وأبنية وهمية تجاه الأشياء والواقع الحقيقي.
ومع تشكل صورة الإنسان لا تكتمل إلاَّ في وجود الآخر. لكنه اكتمال نحو النقصان الجذري القابع فيها. وبذلك، يستحيل للطفل أنْ يعود إلى أناه الكامل لأنَّ الآخر يخترقه تماماً. ومن هنا يعتبر الصور دلالات للأنا المفقود. وعليه، يدخل الأنا في كافة الأنشطة والعلاقات لردم الهوة دون جدوى. إن سعياً إلى بناء عام لصورة الجسد ربما من بقايا الرحم الأمومي، لأنَّ الموروث البيولوجي يصطدم بالموروثات الثقافية.
من جانب أوسع، ترجع أهمية الأم إلى راسب الألوهية الكامن في الأمومة. لقد كانت الأم إلهاً ووطناً ووجوداً؛ ومنها ربات الفنون والجمال والأشعار، والأنوثة أصل الطبيعة إدهاشاً بالجديد والمثير والطريف، ومازالت بعض جذور المجتمعات تنتسب إلى الأم، حيث تبجل الثقافة الجارية الأمومة فوق مما يتوقع. وتصبح الأم نبعاً ثقافياً صافيا إليه يرجع الفضل في تماسك الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية.
تشكل الأم كتلة من الأعصاب النابضة، ليس لها أن تتحدد بل هي في سرها مأخوذة بالعطاء المطلق. يشير أحد الأمثلة الإنجليزية: الأم لا تقول هل تريد: بل تعطي!! هي معجونة بالعطاء دونما انتظار؛ لأنها كائن ليس لنفسه على الخصوص. وتبدو كما لو كانت هكذا دون أي شيء آخر. إنَّ أماً – سواء لديها أطفالٌّ أم لا- تهب الحياة بلا حدود. ولو تصورنا الحياة نتاجاً إنسانياً؛ فالأم مركزها الحيوي.
يؤكد كانط المشار إليه سلفاً ضمن رسالته (تأملات في التربية): أنَّ الإنسان بخلاف الحيوانات له إمكانية أن يتكون من هذا المنظور الوالدي، باعتباره المخلوق الوحيد القابل للرعاية والتعهد والتعليم المرتبط بالتكوين bildung. ومن تلك الزاوية، يكون: رضيعاً، تلميذا، طالباً…. وفي إطار الانضباط يتحول الإنسان من حالة الطبيعة إلى جانب الإنسانية؛ لأنَّه يخضع في سن مبكرة إلى القوانين داخل الأسرة. ولا يصير كذلك إلاَّ بالتربية؛ فهو ليس سوى ما تصنع به التربية. والتربية حين تكون سليمة تمثل الينبوع الخالص الذي ينبثق منه كل خير في هذا العالم[5].
ربما العطاء الأمومي أصدق أنواع العطاء؛ فالثقافة تتسع إلى دلالتها، لأن الثقافة قد تغدو أُماً رمزية هي الأخرى. وبالتالي، يحق التساؤل إلى أي مدى تحاكي ثقافة الفرد بحق ثقافة الإنسانية عبر أجيالها المختلفة؟ وبفضل العطاء الأمومي يكون الطفل صافي القلب، وتكون نظراته مشرقة كالشمس كما يرى كانط.
1- أنَّه عطاء متاحٌ في أي وقت شاء الإنسان؛ فالأبناء لم يقدموا للأم شيئاً بينما هي تمنحهم الوجود. ومع كامل المعاناة التي تلاقيها تصبح مبتهجة بهذا الصنيع. إذن، تشاركهم الوجود في نفسها، وتقتسم كيانها معهم جزءاً بجزء. في الحقيقة هي تفضل – مع جزيل المنح- أبناءها بالمقدمة. يعبر جبران خليل جبران: الأم هي كل شيء في الحياة. هي التعزية في الحزن. الرجاء في اليأس. والقوة في الضعف.
2- العطاء الأمومي مطابق لذاته؛ كلمة العطاء نفسها تحتاج إلى تعديل جوهري بناء على ما تقدمه الأم. فالعطاء يضمر داخله مكانية الرد. بينما أفعال الأم تنفي ذلك تماماً، تخلخل مفاهيم الحياة الاجتماعية نحو استحالة الرد. ليس لدى الأمهات مقايضة. إنها بطبيعتها ضد اقتصاد الأخذ في شكل المُقابل. والمرأة من جهة العواطف، تستطيع الإغداق إلى أقصى مدى. لكنها في نفس الوقت بإمكانها تدبير الماديات.
3- عطاء الأم لا يحتاج إلى تبرير؛ أي أنَّها ضد منطق الحِجاج القائم على التبادل كذلك. وفلسفياً ستكون الأم صدمة لإمكانية البرهنة على الأصل وحسب؛ لأنها أكبر من مجرد أصل لشخص آخر، ولو كان ابناً. فالأصل ارتباط وانبثاق. لكن الأم تزيد عن ذلك كقدرة وتاريخ وتجاوز أيضاً.
يرى أبراهام لنكولن أنَّ أعظم كتاب قرأه هو أمه، ليست تلك مبالغة، لأنَّ الأم تلخص تاريخاً من الحيوات الثرية، كما أنَّها الأبجدية التي يتعرف من خلالها الإنسان على العوالم المختلفة. وربما تعتبر بهذا المضمون أقدم أبجدية في التاريخ؛ فالأم هي السطور التي لا تنتهي، وهي نافذة الأحاسيس والمشاعر التي تختلف عن أية مشاعر سواها تماماً.
4- يتجاوز العطاء فكرة الضيافة؛ لأن المضيِّف ليس هو من يعطي، بل من ينفتح على الآخر. الأم تبدع في هذا، هي قلب بمساحة الحياة[6]. لذلك، قال جان جاك روسو: “لو كان العالم في كفة وأمي في كفة… لاخترت أمي”.
5- تبطل دلالة الأم معنى السلطة؛ فإذا كانت الأخيرة في أبرز وجوهها قوة؛ فالأم حب بلا عنف. إنها قوة الحب الذي يجتذب إليه الإنسان تلقائياً. فأساسه الأمان الذي لا يقف وراء أية سلطة بالمفهوم الجاري. وفي هذا يشير سقراط: لم أكن لأطمئن إلاَّ وأنا في حجر أمي. كل سلطة تقام على الخوف، الرهبة. لكن حضور الأم يحتضن وجودنا بشكل طفولي؛ لأنَّ سقراطاً، وهو الفيلسوف الأكبر- أب الأثينيين كما يلقبه أفلاطون- يفضل النوم على مهاده الأول. الأب يعود طفلاً بين أحضان أمه.
6- العطاء يتجسد أمومياً في مضمون القلب. ففي بعض المواقف الإنسانية تجاه الأبناء نلتمس الأعذار للأم قائلين: إنه “قلب الأم”. يقول بلزاك: “قلب الأم هوة عميقة ستجد المغفرة دائماً في قاعها”. الأم كيان حي داخل قلب. وليس العكس “قلب داخل هيكل إنسان”؛ فهي تراقب العالم بالعواطف بخلاف الرجل الذي يستحضر طاقة العقل. والعقل ذكوري على الأصالة.
7- العطاء الأمومي مصير؛ لأنه لا غاية تقع بالخارج منه. لا شيء سواه بإمكانه أن يملأ فراغه. وأي خارج غير مسموح به في تلك الحالة. يراه مارسيل بروست كنزاً حقيقياً: كنزي الحقيقي هو أمي. وبالطبع، قد يكون الرصيد الفعلي للطفل مجرد ابتسامة؛ إذ ذاك يدرك وجودها الرمزي الغني. على غرار قول فرجيل: “يعرف الطفل أمه من ابتسامتها”.
8- اسم الأم مزيج من المعاني والأحاسيس، ليس مدلولاً لكنه وجود مرغوب. استعمل محمود درويش عبارة مهمة واصفاً الأم والكون: لن أسميك امرأة، سأسميك كل شيء. الاسم معجم مفرس بحاشية الأشياء جميعاً. هكذا يكون اسم الأم كلياً، رغم إفراده في سياق ما.
9- الأم ترتبط بالمستقبل؛ لأنها ترعى الأبناء ليس لنفسها، بل لما هو قادم؛ إذ تضعهم على طريق الأمل في الغد. لذلك، يؤكد شكسبير: الأم شمعة مقدسة تضيء ليل الحياة بتواضع ورقة.
[1]- مجلة ذوات العدد 38
[2]- أشار كانط إلى أنَّ الطبيعة البشرية لابد أنْ تسعى إلى الخير الأسمى. ولكن هذا الهدف قد يتم على غرار (زوجة الأب لأولاده) نظراً لمعوقات المعرفة والتفكير. معنى ذلك أن علاقة الأمومة علاقة طبيعية وبإمكانها أن ترشدنا إلى مصادر الخير والعمل وفقا لها. وأنَّ الإحساس بها من حيث الأم الأصل أو الأم البديل سيكون له تأثير.
إيمانويل كانط، نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا (المنظمة العربية للترجمة)، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 2008، ص 108
[3] -André Kukla, Ineffability and Philosophy, Routldege, London New york, 2005. P 17
[4]- Dylan Evans, An Introductory Dictionary of Lacanian Psychoanalysis, New York, 1993. Pp 25-27
[5]- إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟، تعريب وتعليق محمود بن جماعة، دار محمد على للنشر، صفاقس- تونس، الطبعة الأولى 2005. ص 11، 19
[6]- لقد أجاد ماكسيم جوركي في رسم صورة الأم المعطاءة التي تحب الحياة. ومن هذا المنطلق، كرهت الاضطهاد ونتائجه المدمرة. كما كرهت هؤلاء المتسببين في الظلم. ولم يختلف عن ذلك حبها للعدالة والإيمان بالآخر.
ماكسيم غوركي، الأم، ترجمة فؤاد أيوب وسهيل أيوب، دار الفارابي، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية 2007
*مؤمنون بلا حدود.
*باحث مصري متخصص في فلسفة اللغة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى