الرأي

الأحزاب ولا العذاب

ياسر يوسف

(1)

ما اجتمع سودانيان يتناجيان في أمر السياسة إلا كان هجاء الأحزاب ثالثهما. بعض هذا الهجاء مستحق بجدارة و بعضه من أثر دعاية الإنقاذ الكذوب. أحزابنا ولا شك مثخنةٌ بسنين الاستبداد والتغويص والتخويف، و إصلاحها جذريًا ضرورة حرجة لنجاح التحول الديمقراطي.

 

لنقاش الإصلاح المنشود لابد من لَفْظ ثلاث خرافات تبسيطية رائجة، أولها الزعم أن الأحزاب مشكلة السودان العضال (هذه خرافة يرددها كتاب أكابر)، و الحق أن بلادنا تعاني من تخلف شاملٍ للأحزاب وسائر مناحي الحياة العامة. ثانيها أن الرجس في النخبة الحزبية وحدها بينما كل من يتابع صراعات تنظيمات الأطباء مثلًا يعي أن غير المتحزبين منهم أكثر فجورًا وإدمانًا لمعارك العدم. آخر الخرافات أن الأزمة هي أزمة جيل أو عمر، و أن جيلًا يسمى جيل الثورة سيجُب ما قبله، في حين أن نفرًا من هذا الجيل فاتوا (الكبار والقدرهم) في الطيش إبان حرب تجمع المهنيين الأهلية، بينما كهلٌ كالصادق سمل عقله مغروس في المستقبل.

النقطة المركزية هي أنه لإصلاح الأحزاب لا يجب عقد الأمل على تغيير الأشخاص أو الأجيال بل لا بد من تعديل الشروط الموضوعية التي أوصلت أحزابنا لحالها الرثة اليوم. زوال أبرز الشروط المؤدية للانحطاط الحزبي، الطغيان، يمنحنا فرصةً ذهبية للإصلاح الجذري و الذي بطبيعة الحال يحتاج صبرًا ووقتًا لكن لا بد لنا من الشروع في إجراءات مادية وعملية، وأفكار جديدة وطموحة تضعنا في جادة الطريق.

يهدف هذا المقال للمساهمة في نقاشٍ كهذا، ويدعو الجميع للحوار حوله، ويشدد أن أحزابنا مهما حاق بها من سجم و رماد لا تعوزها الوطنية ولا البسالة والوعي.

 

(2)

الأحزاب في السودان، و دول كثر، ينتهي بها الحال معبرة عن مصالح قيادتها الضيقة لا عن مصالح قاعدتها الجماهيرية، غض النظر عن حجم تلك القاعدة. يتحول الحزب إلى كيان للترقي الفردي وتبادل المنافع. الوجه الآخر لهذه العملة المختلة هو الانقسامات الحزبية المتكررة طلبًا لتلك المصالح الضيقة.

 

التدخل الشعبي المبكر هو خير دواء لهذا الداء. الأسلم أن يكون لكل حزب جهاز تنفيذي، مكون من متفرغين غير مسيسين، يعنى بالأمور الفنية والتنظيمية فقط، ويكون هناك جهاز سياسي مرن غير هرمي (فلا صراع حول من يكون الرئيس ولا تكلس ببقاء مجموعة متحكمة أبد الدهر). كذلك، كما يحصل في الولايات المتحدة وعدد من الديمقراطيات الأخرى، يختار عامة المواطنيين لكل حزب مرشحيه الذين سيخوض بهم الانتخابات العامة، فتعود صلاحية اختيار المرشحين، إلى الشعب وتنزع من الحزب. هذه الاستراتيجية تجعل الرضا الشعبي مناط الترقي الحزبي، وتعمل كغربال شعبي مبكر، و تمنع تحول الحزب إلى نادٍ مغلق لتبادل المنافع، وتقلل الانقسامات الحزبية، إذ أن أي صفة حزبية ستكون مكتسبة عن طريق الانتخاب الشعبي المفتوح لا برغبة أعضاء الحزب، فلا يسهل الانقلاب عليها أو التشكيك فيها كما هو السائد الآن. هذه المقاربة استخدمها الحزب الاشتراكي الفرنسي بنجاح لتقليل انقساماته. وفق الصيغة التقليدية التي تختار فيها الأحزاب مرشحيها تكون كمطعم يحدد لزبائنه قائمة الطعام، الصيغة المقترحة تجعل الشعب يختار من يكون الطاهي أصلًا.

 

(3)

الشفافية أحد أهم الشروط التي تجعل الأحزاب رهينة للإرادة الشعبية وخادمًا للمصلحة الوطنية. ينبغي سن قانون لحرية المعلومات أسوة بالدول المتقدمة (قانون كهذا ينعكس أثره في الأداء الحكومي نفسه، فلا يحتار الناس مثلاً في صحة شراء الحكومة الدولار من السوق الموازي لتسديد الأتاوة الأمريكية أم لا).

قانون حرية المعلومات وثيق الصلة بقضية التمويل الحزبي والتي أصبحت مدخلاً للعبث الأجنبي في البلاد. مصادر تمويل كل حزب يجب أن تكون معلومةً للناس والأوفق أن تمول الدولة، رغم ما في ذلك من إشكالات، الأحزاب التي تستوفي شروطًا معينة (مثلًا حد أدنى من التمثيل الجهوي والنسوي) وذلك لفترة محدودة حتى ترسو سفينة الديمقراطية بالبلاد.

استرسالًا، قضية الهبات الأجنبية للأحزاب السودانية نتيجة طبيعية للاحتقان السياسي التاريخي في البلاد. إن دخول أحزابنا في صراعات وجودية مع بعضها يرغمها على استخدام كل المتاح طلبًا للنجاة حتى وإن كان الاستعانة بالأجنبي. تنفيس الاحتقان بالبلاد والاتفاق على قواعد اللعبة السياسية خطوة حاسمة في سد ذرائع التدخل الخارجي والإصلاح الحزبي.

 

(4)

لا يكتمل الحديث عن الإصلاح الحزبي بدون التعليق على حال أكبر قوة سياسية منظمة في البلاد: القوات المسلحة. استقرار أمر الحكم في السودان رهين بإيجاد إطار دستوري للحكم يكون محل توافق الأطراف الرئيسية في البلاد. في هذا السياق، فإن لتعريف دور القوات المسلحة السياسي أهمية قصوى، دور ينأى بها عن الاختراق الحزبي، وتنأى هي به عن شهوة الاستبداد.

في ظل وضعنا المأزوم، بنبغي أن نسلك طريقًا وسطًا بين محفوظات (خضوع القوات المسلحة للسلطة المدنية المنتخبة) وبين إعادة البلاد إلى حظيرة الاستبداد العسكري. طريق يحفظ مكتسبات الحريات العامة، ويسخر مؤسسات البلاد العسكرية لصيانة التحول الديمقراطي ويقر بلعبها دورًا في تعزيز الاستقرار.

الطريق الوسط يقوم على معادلة الإصلاح مقابل النفوذ. يجب أن تقبل القوات المسلحة بإصلاحات جوهرية، أهمها تصفية أي نفوذ سياسي داخلها، وقومية التجنيد فيها، وأن ينعكس ذلك في قيادتها العليا، التي يجب أن تضم مدنيين منتخبين، كما يجب أن تغادر مضمار العمل التجاري والاستثماري في البلاد. في المقابل يجب أن تحظى القوات المسلحة بدور مؤسسي في قضايا محددة متعلقة بالسياسات الوطنية المختصة بالأمن القومي والدفاع والسياسة الخارجية. هذا الدور ينبغي أن يفصله الدستور والقانون ويرسم له ترجمةً مؤسسية.

(5)

قضية الإصلاح الحزبي أعقد من أن يحيط بها مقال واحد، كما أن طريق الإصلاح الحزبي ليس معبدًا، لكن لا مناص من سلوكه، خاصة وقد أزاحت الثورة أكبر عقباته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى