الرأي

اختطاف الثورة والدولة

د. فخرالدين عوض حسن عبدالعال

سعدت جداً عندما تم اختيار صديقي وزميلي العزيز د. عبدالله حمدوك رئيساً للوزراء، وكانت أسباب سعادتي عديدة ولكن أهمها على الإطلاق هو أن الرجل عالم بالحوكمة والمؤسسية ونظم الحكم.

ومن هنا بدأت أحلم بسودان على أسس جديدة، وهو سودان دولة المؤسسات وبالتالي الانعتاق من دولة القبليات والإثنيات والحزبية والشللية، إلى دولة تقودها المؤسسات عبر العلم والمنهج والذي فيه حمدوك خبير!!

وكان أول خطأ فى اختيار مجلس وزراء وفقا لمعايير وأسس غابت عنها المنهجية، وغلبها البحث عن الشخوص، وليس وضع مواصفات ومعايير، وزاد حمدوك الطين بلة وهو يراجع القائمة ويطالب بتمثيل أقاليم غابت عن القائمة، وتمثيل متكافئ للمرأة، ومن ثم جاءت معظم ترشيحاته غير جديرة بمقعد الوزارة مثل الخارجية والزراعة، والأخير فشله أجبر حمدوك مرتين لتكوين لجنة لإنقاذ الموسم الزراعى برئاسته.

ورغم الاختيار “المتسرع” للوزراء، في ظل ظروف موضوعية نتفهمها، ولكن حدثت الكارثة بعدها فى إحلال واستبدال قيادات الدولة بنفس أسلوب دولة المخلوع وكأننا لم نقم بثورة للتغيير الكامل، فأمسك بتلابيب القوات النظامية البرهان وشلته وحميدتى ودولته، وتلاعب بالدولة وزراء حمدوك الذين تعاملوا مع الوزارات كأملاك خاصة، وبمفاصلها كقطعة شطرنج أمامهم، يحركونها وفق رغباتهم وأهواءهم وأصدقائهم والمحاسيب والأسر. وقلة منهم له علاقات مع أحزاب أحيانا يلجأ إليها ليكسب ودها عبر تعيينات من كوادرها، وليعود بعضها بالنوافذ ليمارس “ألعاباً” قديمة كانت سبباً فى استعمار دام أكثر من ثلاثة عقود وأتى على الأخضر واليابس! ولأن حمدوك يؤمن “بتفويض” الصلاحيات كاملة، فإنه لا يرد طلب وزير، ويقوم بالتوقيع والإعلان عن التعيينات والإعفاءات بصورة راتبة. أحزنتني حد السماء، وأبرز نموذج تعيين وإعفاء مبارك أردول!!

فهل هذه هي دولة الثورة؟ دولة النظم والمؤسسات التى كنا نحلم بها؟

ووظائفها القيادية يتلاعب بها وزراء حمدوك وفق أهواءهم، ويتم تعيين وظيفة قيادية بالمزاج، مثلا قول أحدهم فى مكان عام (ندوة): التقيت بالوزير صدفة، كنت فى إجازة فى السودان، وهو زميل قديم، وعرض علي تولى إدارة، وهي أهم إدارة في الوزارة!!

وبعض الوزراء والمدراء ليس فقط يحتفظون بالقيادات التي كانت حتى آخر لحظة مع المخلوع، بل يرفعوهم/ن درجات في استفزاز عظيم للثورة والثوار، ولعل ما يحدث في وزارة المالية وخصوصا قطاعات المصارف والضرائب، ودولة الجمارك وتبعيتها إداريا، أعظم دليل.

لقد توقعت من صديقنا العزيز حمدوك أن يؤسس لدولة جديدة وفقا لأسس ومفاهيم جديدة تتبنى العلم والمنهج والشفافية، وليس نفس الطريق الذي أدى بنا إلى الهلاك؛طريق الترضيات والجودية والشللية.

لقد كان أوجب واجبات رئيس الوزراء أن يضع أسساً ومنهجاً مع طاقمه الوزاري، أساسه بناء كافة مؤسسات الدولة بداية من “حفر أساس جديد” وتكوين فريق من العلماء والخبراء يساعده في هذا الأمر، إلى جانب فرق فرعية في كل وزارة، تساعد الوزير في بناء منظومة متكاملة في الوزارة، هذا وقد رأينا وزراءً يتخبطون ويسيرون بدون هدى!

وقد كان تكوين مجلس استشاري للوزارة سوف يساهم في تقديم رؤى علمية متكاملة عن كيفية تنظيم الوزارة وهيكلتها وبالتالي أداء دورها المنوط بها على أكمل وجه.

وأصبح واضحا للعيان أن كل وزير يسير في طريق غير معبد ولا يلتيى في معظمه مع بقية زملائه من الوزراء، بل يتقاطع معهم، بدلا عن التكامل والانسجام، وهذا أيضا واقع الإدارات المختلفة في كل وزارة، جزر معزولة ولكل منها “حاكم” وإدارتها رقعة شطرنج يتلاعب بها كيفما شاء. تماما كما يتلاعب البرهان وعدد لا يتجاوز أصابع اليد من الجنرالات بالمنظومة الأمنية وهناك دولة “حميدتى ” الموازية!

وأستغرب جدا للهجوم الكاسح على الأحزاب السودانية، وإلقاء كل اللوم عليها، وليس على العسكر وحكومة حمدوك، ومعظم تلك الأحزاب تجتهد آناء الليل والنهار للخروج من هذا النفق المظلم، وتدعم وتساند الحكومة وأيضا توجه لها النقد البناء للتقويم والإصلاح.

ومعظم قادة تلك الاحزاب جافى النوم أعينهم ويعملون آناء الليل والنهار، ويُحملهم الناس أخطاء حكومة حمدوك ووزرائه والجنرالات، ويذهب كل اللوم والعتاب والنقد إلى تلك الأحزاب الوطنية التي قادت الثورة بكل تضحية وفداء وكانت قياداتها شموعا تضيء لنا الطريق.

إن القوى المناهضة للثورة تحاول إحراق تلك الأحزاب وقياداتها، لتؤكد على فشلها، وبالتالي تستعد للانقضاض على الديمقراطية التي تحاول الخروج من رحم  الوطن رغم المعاناة.

إن أحزابنا الوطنية حتما تحتاج إلى إصلاح مؤسسي ومنهجي للانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة بناء الدولة، ولكل مرحلة أدوات وآليات وكوادر مختلفة.

ويجب أن نتذكر دوما أن تلك الأحزاب عانت كثيرا من ترهيب وترغيب دولة البشير الفاشية، وقد تم اختراقها، عبر سياسة فرق تسد، ومثلها وكافة مؤسسات الوطن، عانت من التخريب والترهيب بكافة الوسائل غير المشروعة، وبالتالي يقع علينا عاتق إصلاحها وتقويمها وإعادة بنائها على أسس الديمقراطية والشفافية، فلا توجد ديمقراطية، بدون منظومات ديمقراطية، تمارس الديمقراطية داخلها وفق القانون، وتعقد مؤتمراتها وتختار قياداتها دوريا، ويراقب المراجع العام للدولة إيراداتها ومنصرفاتها.

صديقنا العزيز عمر الدقير والذي جمعه المعتقل في غرفة واحدة مع العم المناضل صديق يوسف، وكان أول من خاطب الاعتصام وبجانبه في المنصة كل قيادات قوى إعلان الحرية والتغيير التي قادت أعظم ثورة في تاريخ السودان الحديث. عمر الدقير من أكثر الداعمين للثورة وحكومتها، وأيضا يقدم النقد البناء للإصلاح يوميا، وقد قرع جرس الإنذار مبكرا وطالب الحكومة بكل وضوح بإنشاء مفوضية للخدمة المدنية وبقيام دولة المؤسسات، والاختيار للوظائف العامة للدولة وفقا للشفافية، وأن تطرح الوظيفة العامة للمنافسة وفقا لمعايير ومواصفات، وليس مجاملات وعلاقات خاصة.

كما أن كاتب المقال كان قد اقترح قبل الثورة وفي بدايتها تكوين مجالس استشارية لتنظيم وهيكلة الوزارات وتقديم النصح والمشورة والمبادرات للوزراء، والتقينا بمكتب رئيس الوزراء ومبادرة جامعة الخرطوم و Sudan NextGen and Sudan Research Group  من أجل قيام سودان جديد وفق أسس جديدة، ولم يتم أى تفاعل، والآن نرى الفوضى تعم كافة أركان الدولة، وأن لم يكن هنالك دولة فى الأساس!! لأن أصل الدولة وأركانها نظم ومؤسساتها تعمل وفق برنامج وخطة واضحة المعالم والأهداف.

كما قدم أيضا كاتب المقال وآخرين آليات منهجية وعملية لاختيار الولاة، وفقا للبرنامج والرؤية وكافة المعايير والمواصفات العامة والشخصية، لكل ولاية مع مراعاة خصوصيتها.

إن تحكيم المؤسسية هو الترياق الأعظم لأمراضنا السودانية المزمنة، واختلافاتنا غير المبدئية والتي في معظمها معارك وهمية أساسها توزيع أسلاب وغنائم / وظائف. وقيام دولة المؤسسات هو العلاج الناجح والفعال لمعظم القضايا وأولها الحرب والسلام، ومعالجة قضايا الأمن والمعيشة والصحة والتعليم …الخ..

إن دولة المؤسسات هي دولة الوطن، دولة جميع من يكره الفساد والاستبداد ويعمل لقيام دولة الديمقراطية والشفافية.

يا  د. حمدوك أرجوك توقف عن توقيع تعيينات الوزراء واسرع بتكوين منظومة مؤسسية تؤسس لدولة حقيقية، دولة لا يقودها أفراد، دولة تقودها مؤسسات، ويتم الفصل والتعيين وفق أسس ومعايير وشفافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى