الرأي

إلى وقيع الله لو كان للاعتذار يعبر

رباح الصادق

(1)

نشرت صحيفة (الصيحة) بالاثنين 28 سبتمبر الجاري اعتذاراً من محمد وقيع الله للسر السيد الذي رفع دعوى قضائية ضده أمام محكمة الصحافة تحت المادة 129 (إشانة السمعة) لأنه رماه بالإلحاد في محاضرة ألقاها بقاعة الشارقة بالخرطوم في 5 نوفمبر 2018م، وفي مقالات خماسية نشرها بصحيفة الصيحة في نوفمبر 2018م بعنوان (ذات سوار تنافح عن الملحدين)، جاء في نص الاعتذار: (إنني اعتذر عن كل ما جاء في المحاضرة وسلسلة المقالات التي نشرتها في صحيفة الصيحة بعنوان ذات سوار تنافح عن الملحدين، وأنفي جملة وتفصيلا رميي للأستاذ السر السيد بالكفر والإلحاد وهذا بمثابة اعتذار له.)

(2)

الرجوع للحق فضيلة، والاعتذار، حتى وإن كان بسبب رفع دعوى قضائية، ينبغي أن يكون من قلبٍ مذعن للحق آيب تائب، لا مرتعد من سوط القانون. وحينما يصدر الاعتذار بهذه الصورة فإنه يمحو كل الآثام، حتى الدم يغسله الاعتذار أمام الجمهور في جلسات الاستماع العمومية، أو الأجاويد في “قعدة العنقريب” في دارفور، و”مصماص المصارين” في كردفان، و”القلد” في الشرق وفقما أفاد الأستاذ كمال الجزولي في حواره عن العدالة الانتقالية (الديمقراطي، 28 و29 سبتمبر).

بل بعض الناس يظن أن أشكال العدالة الانتقالية غير الجنائية كجلسات الاستماع التي يعترف فيها المنتهكون بالحقيقة كاملة، أو محاكم الكاشاشا الرواندية، وغيرها من التجارب الأهلية هي الأقدر على إبراء الجروح من العدالة الجنائية حتى لو كانت ممكنة. فالعدالة الجنائية لا تسهم في رم الجراح لأنها تعطي الجاني شعوراً أنه أخذ بيد قوية لو استطاع الإفلات منها لفعل، وتعطي المتضرر أو الضحية شعوراً أنه اقتدر على الجاني وأذله، والشعوران لا يفيدان التعافي ولا التراضي ولا المصالحة المطلوبة.

(3)

لكي يكون الاعتذار باباً لقفل الإساءات التي كالها وقيع الله يمنة ويسرة، كان ينبغي له أن يتراجع عن اتهامه بالإلحاد لكل من رماهم به، وهم إضافة للسر السيد، بابكر فيصل بابكر، ومحمد وداعة، وكما رمى كل من المحبوب عبد السلام ومحمد مجذوب بحمل أفكار مفضية للإلحاد.

أما قائمة الذين تخصص في إساءتهم فطويلة جداً. قال الأستاذ خالد أبو أحمد إن وقيع الله (كتب ساباً وشاتماً وهامزاً وكاذباً وملفقاً فيها للتُهم، ومن الكُتاب الذين رد عليهم على سبيل المثال لا الحصر: مرتضى جعفر 3 حلقات. المحبوب عبد السلام عشرات الحلقات. المهندس الكاتب عثمان ميرغني 3 عدد من الحلقات. د. عبد الوهاب الأفندي – عدد من المقالات. رباح الصادق المهدي 5 حلقات. خالد أبو أحمد 5 حلقات. خمسون إنجازاً لنظام الانقاذ 10 حلقات. د. القراي 5 حلقات. الكاتب مصطفى البطل. السيد الصادق المهدي. الأستاذ ياسر عرمان… إضافة إلى هذه القائمة كانت هناك مقالات أخرى سل فيها وقيع الله قلمه على كل من الفنانين محمد وردي، وصلاح بن البادية، لهذه الدرجة من العتو وقلة الشغلة!) أما مجمل حظي في الهجمات فهو 13 حلقة: خمس حلقات عن (حوار سميع وأصم) حينما داخلت نقاشاً جمعه بالدكتور عبد الوهاب الأفندي، وثلاث بالرد علي بعد أن زور مقالاً باسمي لم أكتبه، وخمس بتزوير بيان بإسمي، إذ زعم أن بيان (المبادرة السودانية لمكافحة التطرف) كتبته “ذات سوار”، وهو الاسم الذي درج على تسميتي به انتقاصاً لنوعي وتقليلاً، وهو لقب ينبغي أن يعتذر بسببه لكافة النساء.

(4)

كنت كتبت في ديسمبر 2018م معقبة على خماسيته (ذات سوار تنافح عن الملحدين) وقلت: (للوقيع أن ينظر في ماضي كتابته الذي رصد بعضه الأستاذ خالد أبو أحمد وأوردنا جانباً منه أعلاه، وكان أبو أحمد كتب بعنوان “كامل تعاطفي مع صاحب الردود الخمسية د. محمد وقيع الله في محنته”، وهو تعاطف تملكنا بشكلٍ ما ونحن نتابع تلكم المسيرة العبثية التي يسيرها الوقيع. وجاءنا خاطر بنصح لا نظنه يبلغ مرماه. نصح له أن ينظر كم شغل نفسه بالطحان والمناطحة، لا التفاكر، في جدل سوفسطائي لا أفلاطوني، وأفلاطون كان ينظر للجدل الصاعد والنازل كآلية لبناء المعرفة. وليتساءل: كم أصاب وكم أخطأ؟ وهل يصح أن يرمي مؤمنين صحيحي الغيرة على الدين بما رمى من ألفاظ تبعدهم زوراً عن جادته؟ ويقوّلهم ما لم يقولوا، ويزوّر، لمصلحة من كل هذا؟ أفلا يؤمن بإله فوقنا جميعاً لا ينتمي إلى “الإنقاذ” ولا إلى الجبهة الإسلامية ورهطها؟ ومن أدراه، لعلّ من يرميهم بما يرمي أعزّ عند الله منه وأجل شأناً! أفلا يبغض هوناً ما بغيضه كما أوصى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؟ أفلا يشك لحظة في مسلماته التي تسقط إذا جاء يضعها على رقاع، ويبدو ارتباكها وتناقضها مثلما أبان كثيرون غيرنا، ومثلما بيّنا؟ ولمَ كل ذاك؟ إن كان يطلب نصرة دعوة، أو انتصار مبدأ، أو رفعة راية، أو صون دولة، أو كرسي وزارة، أو علو ذكر، أو حصول مال، باختصار إن كان هدفه معنوياً مبدئياً حقاً أو كان مادياً تسلقياً محضاً، ففي جميع الأحوال فإن مسلكه سوف يحيده عن مبتغاه ويكون نصيبه كمن سار قبله في ذلكم الدرب أمثال يونس محمود وربيع عبد العاطي. فالسباب والشتائم لا تنصر دولة، ولا تبني قامة ولا تُبلغ مقاماً رفيعاً، ولا تخيف صاحب رأي، والمؤمن لا يزوّر، والمزوّر إن افتضح ذهب خطره وجنى على نفسه كبراقش، ثم أن هذا الطحان الدائم يصيب الكبد والقلب ويشل الروح، فليرح نفسه منه وليلجم هذا الاشتطاط وليسكن لربه قليلاً، وليناجه أن يأخذ بيده فلسنا دائمين، نسأل الله لنا جميعاً تمام الهدى والاتزان وحسن الختام. اللهم آمين..)

(5)

حينما رفع السيد الدعوى ضد الوقيع في المحكمة أشفق الأخير لأنه لم يجد في ساحته مكاناً لنزال محامي الأول، الأستاذ كمال الجزولي، خاصة وقد زال حكمهم الذي كان به يتدثر والذي كان قضاؤه مرهوناً بتوجيه الأمن، مثلما شهدنا في محاكمات الزور التي عقدوها لإذلال الشرفاء، فرضخ للاعتذار. لكن اعتذاره للسر وحده ليس كافياً لبرء جراح الماضي، ولا لفتح صفحة جديدة بريئة من تكفيره وجماعته للآخرين، وتتفيههم للنساء، وتقليلهم من شأن العلماء والقادة والكتاب.. وأول ما يخطر بالبال حين قراءته: ينبغي أن يرفع الآخرون كذلك دعوى ليحصلوا على الاعتذار المستحق!

ولو كانت توبة نصوحة وشمل الاعتذار الجميع، فإن اعتذاره سيكون كلمة طيبة وأهلنا يقولون (الكلمة الطيبة بخور الباطن)، ولكان صلحاً وطنياً مستحقاً وهم يقولون كذلك (المابي الصلح ندمان).

أما اعتذاره المنشور هذا فلا يعدو أن يكون صيحة معروفة أيام صراعات الطفولة يصيح بها المهزوم قليل الحيلة الذي لم يعد يطيق النزال..(الروب)!

ومع أننا عبرنا عن تعاطفنا مع الوقيع في محنته الأولى، أيام كان ينازل ظله، فإننا لا نستطيع أن نتعاطف معه الآن، ونطالبه أن يحوّل الحادثة من استسلام للقانون إلى سلام مجتمعي مطلوب: وأن يبادر بالاعتذار لكل من رماه لو كان حقاً للاعتذار يعبر، أي يبلغ شاطئه في قول القرطبي!

وليبق ما بيننا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى