استنارة

إخاء الأديان في كلام الفلاسفة[1]

محمد حبش*
نخصص هذا الفصل للحديث عن عدد من أعمدة الحكمة في الحضارة الغربية الذين قاربوا ما ندعو إليه من إخاء الأديان، ولو لم يستخدموا المصطلح إياه، ولكن دراساتهم كانت تتجه لبناء إيمان متسامح لا يزعجه وجود الديانات الأخرى، ولا يسمح بانتشار رياح الكراهية والبغضاء الدينية.
ومع أن حركة نقد الدين وإصلاحه كانت جزءاً أساسياً من عصر النهضة وما تلاه من عصر الأنوار، ولكن من المبالغة أن نقول: إن الفلاسفة الأوروبيين كانوا يتجهون إلى إخاء بين الأديان، حتى على مستوى المذاهب الإنسانية، فقد ظلت الديانات في تصورهم جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل.
ويجب القول، إنه حتى في حركات الإصلاح الديني بكل أشكالها لم يظهر ما يكفي للحديث عن إخاء الأديان، ولم تظهر الحاجة الملحة لإخاء الأديان، فأوروبا ظلت في نظر غالبية الأوروبيين نادياً مسيحياً، والانقسامات المسيحية المتلاحقة كانت توفر في الذهن الشائع ظاهرة الأديان المتعددة، وكان الحديث عن التوحد والإخاء والتقارب يتم عادة تحت راية المسيح المخلص وفي سياقه. كما أن العلاقة مع الإسلام ارتبطت للأسف بصدامات عنيفة لم تتوقف منذ الحروب الصليبية ثم الحروب التركية في أوربا وأخيراً عصر الاستعمار. ويمكن القول: إن الأمور بدأت تأخذ منحى آخر منذ مطلع القرن العشرين مع انتشار وسائل المواصلات الحديثة، وبعد أن تكرس لقاء الشعوب والأمم كحتمية تاريخية واجتماعية، حيث ظهرت تيارات كثيرة تطالب بإخاء الأديان، وتبنت الأمم المتحدة عدة مبادرات تتصل بذلك، وأطلقت هيئات مهمة محاولات جدية لإقامة هيئة الديانات المتحدة ولكنها لم تجد طريقها بما يكفي لإحداث التغيير الاجتماعي بشكل جذري.
ويلزم القول أن هؤلاء الحكماء لا يمثلون بالضرورة الديانة المسيحية ولا اليهودية، وربما كانت لهم مواقف سلبية من التراث المسيحي، ولكنني أعتبرهم في النهاية مفكرين مسيحيين يحملون رؤية إخاء الأديان وكرامة الإنسان، وتحدث بعضهم بحرية واحترام عن الإسلام، وكانوا يطرحون آفاقاً للعيش والتكامل بين أتباع الديانتين قائم على أساس الاعتراف والاحترام بالرسالة المحمدية، وتقدير آفاق التكامل والإخاء بين الإسلام وبين القيم الحضارية التي تم تقديمها عبر أوربا بوصفها نادياً مسيحياً، لا يزال يؤسس الأحزاب المسيحية، وينص على المسيحية ديناً للدولة، ويحافظ على الصليب في صدر تسعة عشر علماً من أعلام الدول الأوروبية.
. الدين الطبيعي
شاع مصطلح الدين الطبيعي في القرن الثامن عشر في سياق المحاولات النقدية التي طرحها العلم التجريبي على المسلمات الاعتقادية المسيحية، ووجوب إصلاحها، ويرى واضعو المصطلح أنه يمكن الوصل إلى الأهداف النبيلة للدين عن طريق البحث في المشترك الإنساني، وغايات الطقوس والممارسات، حيث يمكن استخراج نسق ديني طبيعي يتناسب مع الجغرافيا والديموغرافيا والموروث الديني بعد إصلاحه. ويجب الإشارة هنا إلى الفيلسوف ديفيد هيوم (1711-1776م) الذي كتب (محاورات في الدين الطبيعي)، ومع أن رسالته لا تهدف إلى الإخاء الإنساني بين الأديان، بل لا تتجه إلى أي هدف اجتماعي، وهي محض إرواء للمعرفة وسفر إلى الحقيقة، ولكنها على كل حال تعزز الفكرة من وجه آخر، فهي تقترح دوراً أكبر للضمير ورغبة الكمال بوصفها تجلياً دينياً، يساعد في تحرير الدين من اللاهوت.
وفي معالجة مباشرة لمفهوم الدين الطبيعي، يقول هيوم: «الدين الطبيعي دين عقلاني ولا يتوكأ على الوحي، وفي مقابل الدين الطبيعي هناك الدين الوحياني الذي يعتمد على الوحي والإلهام الإلهيين»[2].
كما أنه يؤكد أنه بالإمكان رصد مشاعر الناس نحو الكمال وموقفهم من الفضائل والرذائل لنصل إلى قواعد للدين الطبيعي، إن ميل الإنسان نحو الكمال المطلق ميل فطري يتم أحياناً عبر الاعتقاد بالله اللامتناهي، كما يتم أيضاً على شكل ميل نحو رغبة جامحة بسمو الذات، إنها محاولة لرفع الإنسان نفسه من التراب الأرضي إلى السموات اللامتناهية. وتؤسس فكرة الدين الطبيعي لقدرة الكيان الاجتماعي على تخير قيم مفيدة للمجتمع، من القيم المشتركة ومشاعر الضمير، يتم منحها طابعاً قدسياً وروحانياً يحقق ما تحققه الغريزة الدينية، ويحمل الناس على إنتاج دين مفيد يحقق لهم السعادة والمحبة.
ولا يخفي هيوم شكوكه تجاه الديانات التوحيدية بوصفها احتكاراً للحقيقة قد يتسبب في الكراهية والحروب، ويرى هيوم أنَّ الدِّيانات التعدُّدية أكثر تسامحاً من التوحيد؛ فالشعوب متعدِّدة الأديان يسود بينها التسامح وثقافة العيش سويًّا، في حين أنَّ هذا لا يحدث مع الدِّيانات التَّوحيديَّة التي ترى أنَّها وحدها التي تحوز الحقَّ المطلق، وما عداها من أصحاب الديانات الأخرى فهم على وهم وضلال. وأنَّ من واجب هؤلاء الموحِّدين إرشاد هؤلاء الضالِّين إلى طريق الحقِّ وإجبارهم على اعتناق ما يؤمنون به، ومن ثمَّ يتكدَّر مناخ السلام العامِّ ليسود الصراع والحرب وسفك الدماء[3].
ولكن ذلك غير واقعي، فقد مارس الرومان والإغريق الوثنيون أشد البطش بحق الفلاسفة التنويريين، فقد تم إعدام سقراط بالسم لأنه عارض آلهة أثينا، وحكم بالإعدام على بروتاجوراس وإنكساجوراس وأرسطو الذي فر إلى خلقيس وقال: لن أسمح لأثينا أن ترتكب جريمة أخرى بحق الفلسفة.
وفي الواقع فإن التسامح والتعصب سياق اجتماعي أكثر مما هو نسق فلسفي.
. الدين الأخلاقي
يمكن تسمية هذا النزوع الفلسفي الدين العقلي، أو الدين العالمي، أو الدين الحر، وهي مصطلحات تكررت في جهود فلاسفة الإصلاح الديني، ويمكن نسبة هذا النوع من الإصلاح الديني إلى الفيلسوف إمانويل كانط (1724-1805م) وقد كتبه في سياق دراساته العميقة عن الدين والإنسان، وبشكل خاص في كتابه (الدين في حدود مجرد العقل)، وهو يهدف إلى جمع القوى الإيجابية من الدين والأخلاق والعدالة لصياغة سلوك أخلاقي ينسجم مع العلم والحرية والعدالة.
ويؤكد كانط أن الأخلاق قيم إنسانية حقيقية، ويتعين على الدين أن ينظم وعيه بما يتناسب مع القيم الأخلاقية، والدين الذي يرفض العقل والواقع سيصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود. إنّ الوهم والتعصب الديني هو الموت الأخلاقي للعقل، ودون العقل لن يكون هناك دين ممكن. ومن هنا كان كانط يطرح فكرته الشاملة: وكيف يتأتى لنا الخروج من الدين الطقوسي الشعائري إلى الدين العقلي الكوسمولوجي؟ من دين يحمل بعداً تاريخانياً يخص طوائف معينة أو شعوباً خاصة إلى دين عقلي كوني صالح لكل شعوب العالم البشري؟
«إنّ الدين الخلقي الذي يدعو إليه كانط ليس مأموراً به من لدن سلطة قيدية، ليست له أسرار وطقوس ومعجزات، ليست له سجلات أو مزامير داود، ولا كتب مقدسة ولا ألواح موسى، ولا يخضع لسلطان الأحبار والكهنة ورجال اللاهوت والقساوسة والرهبان، إنه دين أخلاقي بامتياز مؤسس على الأخلاق الفاضلة، مخالف تماماً لكل العقائد والملل والنحل التاريخية التي نقرأ عنها الفرقة والاختلاف والغلبة والحروب والصراعات والفتن والتنافر بين البشر. إنّ تأسيس الإيمان على الأخلاق يجعل علاقة الله بالبشر علاقة أخلاقية، الله هو المشرع الأسمى للقانون الأخلاقي فينا، إنه دين يجنب البشرية كلّ أنواع الحروب والصراعات التي تمخضت عن العقائد الدينية ذات المنحى التاريخي. إنّ الدين الطقوسي هو دين العبيد يمارسونه في دور العبادة، ولكنهم لا يحذقون معناه، ولا يستكنهون مغزاه، أمّا الدين الصحيح، فهو دين الأحرار يؤمنون بمقدرات نفوسهم، فقط بالإرادة الخيرة التي هي مخلص العباد من كلّ تصورات خرافية، حينما نستوعب مدارك وعينا الذاتي، نستطيع أن ننير طريقنا دون أن ننتظر مهدياً منتظراً أو مخلصاً موعوداً. يتساءل كانط ما إذا كان بإمكاننا أن نفرض معتقداً دينياً بقوة السيف والقهر والقسر؟ ليجيبنا قائلاً: إنه على كلّ مؤسسة دينية أو سياسية أن تترك المواطن حراً في أن يختار ما يشاء من القيم الأخلاقية الخاصة به»[4].
ومن الواضح أن إمانويل كانط دعا إلى التعامل بإيجابية مع كل الأديان في جوهرها، ولكنه طالب بثورة ضد كهنتها، وطالب بإصلاحها لتنسجم مع الحاجات الحقيقية للإنسان، وهو لذلك يرفض أفكار احتكار الحقيقة واحتكار الخلاص التي كانت سائدة بقوة في أوربا، ويدعو إلى نوع عقلاني قائم على قيمة الحرية في إخاء الأديان والوعي بما بينها من مشترك أخلاقي وقيمي، وفي كل السياقات فهو يعتبر التجربة معياراً وافياً للتحقق من القيم الأخلاقية، ويعتبر الضمير أو الواجب كافياً لمعرفة الله، ورأى أن الإيمان ضرورة أخلاقية للشعب على الرغم من عجز العقل عن الحسم فيما يتصل بالغيب.
وفي مقاربة مباشرة لإخاء الأديان والتأكيد على أنها تسعى لغاية واحدة، تتحد في أهدافها وتختلف في هياكلها يقول إمانويل كانط في أهم كتبه وأشدها تعقيداً، (الدين في مجرد حدود العقل):
«أن يقوم المصلي بالمشي إلى الكنيسة موافقة لأحكام الشريعة، أو أن يقوم بالحج إلى المقدسات في لوريتو، أو في فلسطين، أو أن ينقل تراتيل صلاته إلى السلطة السماوية باللسان كما يفعل أهل التيبت من خلال عجلة صلاة، أو مهما كان البديل عن العبادة الخلقية لله، فذلك كله واحد وله قيمة متساوية، (وبغض النظر عن الشكل الخارجي) يصبح به المرء مرضياً عند الله…. أن تتناغم مع أفضل خير للعالم»[5].
ويمكن أن ندرج في هذا الباب الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650م) أبا الفلسفة الحديثة الذي أكد على المعنى الأسمى للأخلاق، وأكد أنه بإمكان الدين أن يرتقي في خطابه إلى ما وصفه بالأخلاق العليا الكاملة دون الحاجة إلى تجليات، وأن الأخلاق هي أعلى مراتب الحكمة. وهكذا فإنه يدعو إلى وعي مزدوج، حيث إن الشك سيوصلك إلى الوعي بالله، فيما تكون الأخلاق المجتمعية العليا هي قيم الدين الذي يحتاجه المجتمع.
وفي السياق نفسه يمكن أن نقرأ كيركغور (1813-1855م) أيضاً الفيلسوف الوجودي المؤمن الذي دعا قرّاءه إلى الانسحاب من «العبادة الرسمية» إذا أرادوا تجنّب الاشتراك في ممارسات تعادل السخرية من الله.
وقد أوضح كيركغور أن النسق الأخلاقي الصحيح هو ما ينتجه المجتمع ويلتزمه الدين وليس العكس، فاللاهوت عليه أن يلتزم بالخيار الأخلاقي الذي يقره المجتمع وينسج قصائده اللاهوتية على هذا النسق وليس العكس، وهي كلمة لها نظائرها الكثيرة في الأدب الإسلامي، وقال ابن القيم: الدين خلق ومن فاقك في الخلق فقد فاقك في الدين.
. دين القيم
أما الفيلسوف جورج سانتيانا (1863-1952م) فقد دعا إلى فلسفة القيم، وتمكن في تجريد فكرة الدين الطبيعي بتحقيق وفاق بين الديانات الرومانية القديمة وبين الإيمان المسيحي، ويصر على سمو القيم المسيحية ويقول: لا شيء يضاهي المسيحية في جمالها بشرط أن لا تفهم حرفياً، وكان يتحدث بشكل خاص عن فكرة الجحيم التي يؤدي فهمها الحرفي إلى إساءة الظن بالخالق وإشاعة جو من الرعب وعدم التسامح في الأرض، ولذلك فإنه رأى حتمية التأويل المجازي لنصوص الكتب المقدسة، وأن الدين يتموضع في منطقة وسطى بين الخيال من جهة والحقيقة من جهة أخرى. وأكد أن الإصرار الحرفي على المسيحية أدى إلى ظهور بروتستانتي عنيف وتالياً ظهور حركة متنامية من الإلحاد، ولو كانت المسيحية تجاوزت عقدة ظاهر النص لكانت حضناً جامعاً للأجيال الآتية التي تزداد عنها بعداً.
ويقترب سانتيانا من إخاء الأديان حين يروي بأسف ظاهرة التحول الديني التي يستتبعها دوماً موقف من التنكر للدين القديم، وكذلك من الأديان الأخرى المخالفة، ويعتبر ذلك لوناً من بؤس الأخلاق، ويدعو إلى احترام الأديان على الرغم من الخلافات الجوهرية بين نصوصها، ويدعو إلى اكتشاف المشترك الكثير في قيمها ومبادئها مما يتسق مع الدين الطبيعي.
وفي وعي مباشر لمعنى الجمال والقيم في ظاهرة تعدد الأديان كتب سانتيانا: «إننا لا نرى هذا الكمال إلا في أجزائه…. إن بعضنا لا يحاول أبداً أن يدركه في كليته، مع أن حياتنا بأسرها ليست إلا عبادة لهذا الإله المجهول، وكل صلاة حارة لنا إنما نرفعها إلى إحدى صوره، حقاً إن المثل الأعلى للكمال يتفاوت، ولكنه لا يتفاوت إلا بتفاوت طبيعتنا»[6].
وقد أوضح الفيلسوف الروسي تولستوي منزلة القيم كمحور للتفكير الديني بقوله: ارتكاب الخطيئة عمل إنساني، أما محاولة تبريرها فهو عمل شيطاني.
. دين العدالة
ظل سؤال العدالة أكثر الأسئلة التي تؤرق فلاسفة الإيمان، فالعالم مسرح لأمم كثيرة وأديان شتى، ومعظم هذه الأديان تلتزم نصوصاً تبشر بنجاة الأمة المرحومة وهلاك سائر الأمم، ولا شك في أن احتكار الخلاص لأي أمة دون سواها هو انتهاك للعدالة الإلهية، وتكذيب لحقيقة الحب الغامر من الله لخلقه، وهذا سؤال قديم في الفلسفة، يجيب عنه أهل السلف بجواب واحد هو التسليم.
وحتى نزيد الأمر وضوحاً فنحن نتذكر في هذا السياق القصة الشهيرة لتحول أبي الحسن الأشعري إلى مذهب أهل السنة بعد أن عاش سبعة عشر عاماً مع المعتزلة، وكان من أبرز دعاتها، ولكنه استفاق عند سؤال المصير الذي طرحه على أبي علي الجبائي: ما قولكم في ثلاثة إخوة أحدهم صالح مستقيم والآخر خاطئ منحرف والثالث مات طفلاً، فما مصائرهم؟ وكان جواب الجبائي إن الصالح إلى الجنة والطالح إلى النار والطفل لا حساب عليه، فيقول الطفل فلم لم تمنحني الأجل لأسابق أخي الصالح، فيجيب الله: لقد علمت أنك لو عمرت لاخترت طريق العصيان فتوفيتك برحمتي صغيراً، فكان أصلح لك، فيقول العاصي: ولم يا رب لم تتوفني صغيراً وقد علمت أنني سأختار العصيان؟. لم يكن لدى الجبائي جواب لهذه المسألة، وعاد يعتصم بقوله بخلق القرآن ومجازيته، وكانت صدمة بالغة لأبي الحسن الأشعري الذي اختار الخروج من المذهب كله، والعودة إلى حرفية النص، وقلب السؤال رأساً على عقب، فالعدل هو ما ورد في الكتاب، وما فهمته من الظلم فهو آفة في عقلك، والحل هو التسليم والتفويض وراحة البال، وهي العقيدة التي انتهى إليها الغزالي بعد جولاته اللاهبة بين المذاهب والأفكار والفلسفات، وكتب:
نهاية إدراك العقول محال وسائر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من سعينا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ويمكن القول إنه ما من فيلسوف من فلاسفة التنوير إلا وطرح هذا السؤال بصيغ شتى، وقد اتخذ الإصلاح الديني موقفاً لافتاً على يد الفيلسوف ليبنتز (1646-1716م) الذي كرس حياته للدفاع عن وجوب الإيمان بعدالة الإله، وتأويل كل نص يوهم أن الله يختص بعض الأمم بنوره وهديه دون بعض، أو أن الله يقر في ملكه بالشر، وهي فكرة أساسية في مبدأ إخاء الأديان، فشأن الله أن يكون رباً للعالمين، وأن يستوي عباده عنده، ولا شك في أن اصطفاء أمة من الأمم على سواها أو ديانة على سواها أو نبوة على سواها يعتبر انتهاكاً لمبدأ العدالة الذي يراه ليبنتز رأس التوحيد وجوهر الإيمان. وقد أطلق ليبنتز مصطلح الثيوديسيا على مشروعه التنويري، وهي تعني حرفياً تبرير الله، ويمكن فهمها عبر تركيب الكلمة ثيو أي الله وديسيا وتعني العدالة، أو بمعنى آخر كيف يرضى الله في مملكته بالشر؟ وكيف يمكن تفسير ما يجري في الكون من مظالم ومآثم، في الدنيا وفي الآخرة، لا يظهر فيها العدل ولا الإنصاف؟ ولا شك في أنه على رأس هذه الأسئلة اختيار الله قوماً للهدى وقوماً للضلالة، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
يقترح علينا كانط ثيوديسيا تأويلية من نوع جديد في مقابل الثيوديسيا الدوغماطيقية لليبنتز بنفيه قدرة العقل النظري على تأويل معاني العدل الإلهي كما عند ليبنتز؛ فيذهب كانط إلى أنه ينبغي لمحاولات التأويل هذه أن تقصد العقل العملي لإنجازها، لأنه وحده من يملك فكرة سابقة عن كل تجربة وعن كل تعقل نظري، فالإله من منظوره مسلمة مسبقة عن كل حكم. ومن هنا، ومن كون الإنسان هو سؤال الفلسفة ومدارها، أصبحت الثيوديسيا غاية تأويلية لتفسير عناء الإنسان وليست نظرية للوجود.
«ويذهب كانط إلى أن تاريخ الطبيعة ابتدأ بالخير، لأنه من صنع الله؛ بينما تاريخ الحرية ابتدأ بالشر، لأنها من صنع الإنسان الذي يتجذر فيه الشر كنزوع، خلاف الاستعداد للخير الذي يمليه واجب الضمير. ومن ثم يسترشد بسفر أيوب في الكتاب المقدس بحثاً عن مجاز حي لتأويلية العقل العملي؛ حيث أيوب الرجل الصالح الذي رزقه الرب رزقاً واسعاً في ماله وبنيه، إلا أن الرب شاءت حكمته أن يفقده كل هذا في ملحمة تراجيدية، يجد كانط مغزاها في مطلب البراءة الذي ينشده أيوب من محنته، في مقابل دجماطيقية أصحابه الذين ادعوا أن في بلائه تأديبه على خطاياه التي ادعوها واتهموه بها؛ «هكذا سبيل كل الناسين الله.. إذا أخطأ إليه بنوك دفعهم إلى يد معصيتهم»، فيرد عليهم: «كيف تعزونني باطلاً؟ فأما التوبيخ منكم فعلى أي شيء يبرهن.. هل الخير من الله نقبل والشر لا نقبل؟!»؛ وبعد أن وصل بلاؤه إلى ما انتهى إليه وما زال باراً في عيني نفسه، كشف الرب عنه بلاءه وزاد في كل ما كان له قبلُ ضعفاً. والأمر نفسه يتكرر في سياق علم الكلام الإسلامي، فنرى المعتزلة أقرب ما يكونون إلى ثيوديسيا ليبنتز، وقد ساقهم مفهوم العدل الإلهي إلى القول بأن الله لا يستطيع فعل الشر لأن ذلك ما تأباه طيبته وحكمته، فإن الخير الذي يفعله لا بد أن يكون أصلح الممكن، وإلا لما كان الله خيّراً كامل الخير ولا حكيماً كامل الحكمة؛ والقول بأن هناك خيراً ممكناً لم يرد الله فعله هو انتقاص من كمال الله، مما استتبع بالضرورة قولهم بوجوب الصلاح والأصلح على الله. ولاقى ذلك انتقادَ أهل السنة، لكون الله لا يجب عليه شيء في حكمته وشرعه. وقد دافع المعتزلة عن آرائهم على نحو مماثل لليبنتز، فأجابوا بقولهم: إن الشر لم يرده الله ولكن لم يكن منه مناص، لأن ما نعرفه أنه منزه عن أن يخلق إلا أصلح العوالم الممكنة»[7].
ومع أن هذا الموقف يتضمن دفاعاً متيناً عن العدالة الإلهية، وتفسيراً لأعمق صفات الكمال في المولى إلّا أنّ الأشاعرة وهم الإسلام الشعبي لم يطق تأويل ذلك، واختار التسليم الكامل دون مناقشة، وفي ذلك يقول اللقاني في (الجوهرة):
وقولهم إن الصلاح واجب عليه زور.. ما عليه واجب
ألم يروا إيلامه الأطفالا وشبهه فحاذر المحالا
ومع أن الثيوديسيا فلسفة غربية محضة، ولكن يمكننا أن نعتبر المعتزلة عموماً وكذلك ابن سينا وابن رشد ونظراءهم من فلاسفة الإسلام مؤسسين لهذا المبدأ الاعتقادي، وما يتبعه من إحسان الظن بسائر العباد، وتأويل ما ورد من النصوص في هلاكهم وعذابهم والتنكيل بهم في الآخرة، على أنه من باب المجاز الذي لا يراد ظاهره.
وفي مقاربة مباشرة لليبنتز يتحدث فيها عن العدل الإلهي كقيمة عاذرة تجعلنا ننظر لجميع الأديان باحترام وإخاء يقول: «لقد أدركنا بعد طول توهم أن الصينيين القدماء أهل إيمان، وأن الكونفوشية ليست إلحاداً ولا وثنية، يبدو كان أجدر بروما أن تتفهم الأمم الكبرى قبل أن تتهمها، من الأفضل أن نعتبر الله أكثر محبة للبشر من البشر، أعرف أشخاصاً قد عبروا بصرامة أنه لا يمكن الخلاص من الخطيئة إلا لمن يتفق معنا في الاعتقاد، ولكنهم مخطئون تماماً…. لقد شرح فيدليوس وزنغليوس هذا الأمر بوضوح وأكدا نجاة الصالحين من عبدة الأصنام… وهذا يشمل كل ذوي النوايا الطيبة من جميع الأديان الذين لم يتلقوا تعليماً مسيحياً صحيحاً…. ولكن الأكثر حكمة هو أن نعتقد أن الله لا يمكن أن يعمل شيئاً لا يكون مليئاً بالخير والعدالة»[8].
إن أصول الدين وقيمه العليا تؤكد أن الله محب لخلقه، وفي المفهوم الإسلامي فهو أشد حباً للإنسان من أمه وأبيه، وأن الإيمان بالحب الإلهي لعباده أصل في الاعتقاد فكيف يسوغ أن نتصور ظاهر النصوص الواردة في التنكيل وأهوال الجحيم والخلود في النار، إن هذا التناقض لا يمكن تجاوزه إلا عبر إحالة هذه النصوص إلى حقل المجاز الذي لا يراد ظاهره.
. الدين المدني
هو الدين الذي دعا إليه جان جاك روسو (1712-1778م)، ومع أنه لا يتحدث عن دين محدد وطقوس خاصة، إلّا أنّه يتحدث عن قدر ضروري من اشتراطات المجتمع لتمدن الدين، بحيث يتوجب تقديم قدر من التسامح بين الأديان، والتوقف عن استهداف بعضها بعضاً إنذاراً أو تبشيراً.
ويتحدث جان جاك روسو عن المسيحية بوجه خاص التي نادى بإصلاحها جوهرياً لتتمكن من المشاركة في بناء الحياة المدنية، حيث يرى روسو أن المسيحية رسالة رحمة وغفران، وقد وجدت لتضطهد ولو أرسلت جنوداً مسيحيين مخلصين في مواجهة ما، فستكون رغبتهم الموت لا النصر.
وتتقاطع هذه الرؤية إلى حد ما مع موقف نيتشه الذي كان يزري على المسيحية غلوها في الحديث عن الحب والسلام، ويمكن القول: إن روسو ونيتشه يعتبران المسيحية الحالية ديناً للكهنة وليس للمدينة.
ويقسم روسو الدين إلى أربعة مستويات: دين المواطن، ودين الإنسان، ودين الكاهن، والدين المدني.
في دين المواطن تتطابق الديانة مع القانون، ويكون الإمبراطور إلهاً ونبياً ومشرعاً، ويعتبر نموذج ذلك الديانات الوثنية الرومانية الأولى، التي دمجت الإلهي بالقانوني بالحكومي، وحين عارض سقراط هذه الرؤية تم اعتباره هرطوقاً يستحق الإعدام، وصادق على ذلك الكاهن والملك. أما دين الكاهن فهو صورة تناقض لا يستقيم مع المجتمع المدني، مرجعيتها الغيب وينبغي أن تكون صلاحياتها في الغيب، ولا يجوز أن تخرج من الكنيسة بأي حال. أما دين الإنسان فهو يقتصر على الروحانيات والسمو الأخلاقي والزهد والعزلة، وإحياء ما في داخل الإنسان من فضيلة وقيم، ولكنه كذلك لن يشارك بفعالية في الحياة المدنية، ومن هنا يحدد روسو رؤيته عن الدين المدني.
وفي مقاربة مباشرة لوعي روسو بالدين المدني القائم على إخاء الأديان يقول روسو:
«إن هذه الرسالة المنزلة من الخالق المطبوعة بقداسة الرب.. لا بد أن تدعونا إلى شعائر وأخلاق…. أما إن كانت لا تعلمنا سوى أمور سخيفة غير معقولة، ولا تلقننا سوى كراهية إخواننا في الإنسانية والفزع من أنفسنا، ولا تصور لنا الخالق إلا غاضباً ناقماً متوعداً متحيزاً معادياً للإنسان داعياً إلى الاقتتال والتناحر مستعداً على الدوام للقهر والتدمير، مذكراً بلا ملل بالعذاب وآلامه، متباهياً بمعاقبة حتى الأبرياء فلن يميل قلبي إلى هذا الرب المخيف…. وسأقول لأنصار هذا الدين: إلهكم غير إلهنا، هذا الذي يبدأ باصطفاء شعب واحد مقصياً سائر البشر لا يمكن أن يكون أبا الإنسانية جمعاء، هذا الذي يعد لعباده عذاباً لا نهاية له ليس الإله الرحيم الذي دلني عقلي على وجوده»[9].
فالدين المدني عند روسو هو شروط اجتماعية وبيئية يتعين على القيادات الدينية إنجازها في وعي الرعية حتى يمكن لهذه الرعية أن تشارك بفعالية في الحياة المدنية، وهو الدين المنبثق من العقد الاجتماعي والمنسجم مع أطراف العقد الاجتماعي، ويجب أن يكون بسيطاً وسهلاً، ويجب أن يرتبط بالقيم الأساسية التي يتوافق عليها أطراف العقد الاجتماعي.
ويستعرض روسو بشكل مباشر تهافت العقائد التي تحتكر الخلاص والجنة ويستسخف هذه الآراء القائمة على الجهل، ويشير أن أوربا فيها ثلاثة أديان: اليهودية والمسيحية والإسلام، وإنه لأمر مخزٍ أن تتصارع هذه الأديان فيما بينها وهي تدعو إلى حقيقة واحدة، إن اللغات وحدها سبب كاف لانعدام التفاهم والتكامل، ويشير إلى أن كل أتباع ديانة لا يعرفون لغة الديانة الأخرى التي نزلت فيها كتبهم، ويشير إلى أن العرب لم يعودوا يتحدثون بلغة محمد أصلاً، فكيف يمكن أن نحاكم عقائد تنتمي إلى حضارات متناقضة لغوياً وتاريخياً واجتماعياً، ثم يتجه مباشرة إلى وعي فطري مدهش يكاد يتطابق مع عقيدة المسلمين في نجاة أهل الفترة، فيقول:
«ثلثا سكان الأرض ليسوا يهوداً ولا مسلمين ولا نصارى، وكم من ملايين البشر لم يسمعوا باسم موسى ولا عيسى ولا محمد، (فكيف نحكم عليهم بالكفر والهلاك؟) في ربوع أمريكا الشاسعة تسكن أمم عظيمة لم تسمع بعد بعيسى ولا محمد، …. هم يسخرون منا ونحن نحتقرهم….. وكل واحد يرى الحق في شريعته ويرى في الباقي سخافات، إذاً شرائع الآخرين على الرغم من غرابتها ليست بالضرورة شاذة كما نعتقد، وما نراه معقولاً في شريعتنا لا يكون حجة على غيرنا»[10].
ثم خطا روسو في الصفحات التالية من كتابه (دين الفطرة) خطوة جريئة صادمة للكنيسة الغربية فتحدث عن ثلاثة أديان سائدة في أوربا، فاليهودية أقدمها وهي أشدها رسوخاً وثباتاً، ولكنها تؤمن برسالة واحدة، أما المسيحية فهي تؤمن برسالتين، ولكن الإسلام وحده يؤمن بالرسالات الثلاثة، وهو أكثر واقعية وحضوراً لتحقيق اتحاد بين الديانات يحقق أهدافها، ولكنه يأسف بعد ذلك، أن هذه الكتب مكتوبة بلغات قديمة وأن العرب أنفسهم لم يعودوا يتحدثون بلغة محمد، ومن الطبيعي أن تنشأ الخلافات باستمرار، وإذا كان المقصود اللقاء على النص فلن نلتقي أبداً، ولكن إذا كان المقصود هو الدين المدني الذي يبني المجتمع فكلنا يستطيع أن ينتخب من قيم الدين ما يثري مجتمعاتنا، ويجعلها أكثر غنى واتساقاً وتطوراً.
ويقدم روسو دليلاً عقلياً غاية في البرهان والإقناع فيقول: لو ثبت بالفعل أن ديناً واحداً يوصل إلى الحقيقة ولا يقبل الرب سواه، فإن هذا يفرض على الإنسان دراسة كل الأديان في الأرض والسفر إلى منابعها واللقاء بكهنتها ودراسة كتبها وتفاسيرها وشروحها، حتى يتمكن من القول بأن هذا الاعتقاد هو الأصح، وإلا فكيف تقضي على غير معلوم؟ إن الجزم بأن هذا الدين هو الحق دون دراسة سائر الأديان هو لون من الكذب الواضح والغرور والتعمية والمحاكمة البليدة والباردة التي لا تستقيم معها عدالة، ثم يوجه خطابه إلى تلميذ له يخاطبه بقوله: «انظر يا ولدي إلى أي سخافة يقود الاستعلاء والتكبر والتعصب، عندما يعتقد كل أحد أنه على حق وأن الآخرين في ضلال، أشهد أنه إله الرحمة… لقد طويت الكتب جميعاً وعدت إلى أبسط التعاليم…. وفتحت كتاباً واحداً لا يغلق أبداً ويظل بين عيني أقرؤه في صفحات هذا الكون الناطق باستمرار، وهو عقلي الذي يقودني لمحبة الخلق وفعل الخير»[11].
لقد كانت كلمات روسو بالغة البساطة والتأثير، وغايتها تأكيد قيم الإيمان وقدرته على الانخراط في الحياة المدنية بإيجابية وفاعلية، وإعلاء مقام العقل والمجتمع الذي بات أوضح من الوحي في بناء المجتمع السليم والحياة المدنية، وكأنه يردد قول أبي العلاء:
أيها الغر إن خصصت بعقل فاسألنه فكل عقل نبي
ويمكن القول إن إميل دوركايم (1858-1917م) كان ينادي بالإصلاح الديني نفسه، من دون أن يستخدم مصطلح الدين المدني، ولكن قراءته الاجتماعية كانت تتصل بضرورة تقديم نسخة من الدين قابلة للمشاركة الفعالة في الحياة، تتجاوز شروط الكهنة، وتعلي من شأن المشاركة المجتمعية، وتتجاوز المستوى الروحاني والغيبي الذي تطالب به الأديان.
. دين التسامح
أطلق فولتير أشهر فلاسفة فرنسا سنة (1776م) في كتابه الشهير: (مقالة في التسامح) قراءة دينية مختلفة ومناقضة لليقينيات التي كرستها الكنيسة خلال أكثر من عشرة قرون حكمت فيها الشأن الديني والسياسي، وقد تأثر أبلغ التأثر بمقتل جان كالاس، وهو مواطن فرنسي بروتستانتي قتل ابنه لأنه ارتد إلى الكاثوليكية، ثم تم قتله وأفراد أسرته بعد ذلك بوصفهم أقلية بروتستانتية في مجتمع كاثوليكي. بطبيعة الحال ليست حادثة قتل المرتد كالاس حادثة فردية عارضة بل كانت واقعاً يتكرر، وقد ظهر بشكل متوحش في مذبحة بارتليمي (1572م) حيث قتل أكثر من سبعة آلاف وخمسمئة بروتستانتي في هياج كاثوليكي صاخب في فرنسا في يوم متوحش شهير[12].
في رسالته في التسامح دعا فولتير إلى التوقف عن كل أنواع ادعاء الحقيقة واليقينيات والقبول بالإنسان والأديان كما هي لا كما نحب أن تكون، والتوقف عن سؤال الكهنة في شؤون الحياة والتحول إلى سؤال العلم والبرهان الموضوعي. وتشبه هذه الدعوة التي أقدم عليها فولتير ما كتبه الفيلسوف الإسلامي أبو بكر الرازي حول وجوب التوقف عن نزعة الأمة الناجية والمختارة والمعصومة، وكذلك الرسالة الخاتمة والمهيمنة والغالبة، والتحول إلى منطق أمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم، ونبي بين الأنبياء وليس نبياً فوق الأنبياء ودين بين الأديان وليس ديناً فوق الأديان.
لم يتوقف فولتير عند ظواهر التعصب الديني وما يتلوه من المكر والعدوان بل بحث في الجذور عن الأساطير المؤسسة للتفوق الغيبي والاختيار الرباني والاختصاص المعصوم، واعتبر أن الدين الذي هو قيمة سكينة وفضيلة يتحول على الفور إلى نزعة عدوانية حالما يتم تدريسه بصفة الدين الغالب والناسخ والخاتم والحتم والمهيمن والمختار والحق الذي يدمغ الباطل.
ويركز فولتير نقده على الممارسات المسيحية العنيفة، ومنها الحروب الصليبية الطاحنة التي مجدها الكهنة ولم يعبؤوا بروح المسيح ورسالته القائمة على السلام والفداء: «أقول هـذا بمرارة ولكنها الحقيقة، نحن المسيحيين كنا الجلادين والمضطهدين والمجرمين، اضطهدنا من؟ إخواننا، فمنذ القرن الرابع الميلادي نحن من دمر مئات المدن، فعلنا ذلك والصليب أو الإنجيل في أيدينا، ولم نتوقف عن إراقة الدماء، وإشعال الحرائق منذ حكم قسطنطين إلى حدود فظائع اللحميين الذين يسكنون جبال سيفين»[13].
ولا ينسى فولتير التأكيد على الجانب الضروري في الإيمان: «لماذا يشككون في الله ولولاه لسرقني خادمي وخانتني زوجتي»، وفي تعبير أكثر مباشرة يقول: «إذا لم يكن الله موجوداً لوجب اختراعه. يجب أن نؤمن بالله حتى تكون زوجتي أكثر وفاء لي، وخادمي أقل رغبة في السرقة»[14].
ومن المدهش أن فولتير اعتبر أن التعصب الديني وما يجره من عنف دموي هو مرض المسيحية الأوربية تحديداً، وكان يدعو إلى قراءة العالم خارج حدود القارة الأوربية، وقد دعا قراءه فلنخرج من دائرتنا الصغيرة ولنتأمل ما بقي من كوكبنا، فالسلطان الأعظم (العثماني) يحكم في سلام عشرين شعباً من كل الديانات… لقد كان هـناك أقباط ومسيحيون تابعون للقديس يوحنا ويهود وزرادشتيون وبانيانيون، ولا تشير الحوليات التركية إلى أي تمرد كان وراءه دين من هـذه الأديان، اذهـبوا إلى الهند وبلاد فارس وبلاد التتار فستلاحظون وجود التسامح ذاته والهدى نفسه![15] لقد شرح فولتير في كتابه (أحوال الأمم) التي تجاوزت عقيدة احتكار الخلاص، وباتت تؤمن أن الله للجميع، وتحدث بإعجاب عن الصين وروسيا في قبول الأديان الأخرى، حتى إنه شرح بإسهاب أن الدولة العثمانية تحتضن عشرين ديناً في ثناياها، وأنها باتت مستعدة لقبول التنوع الديني، وأن السلطان نفسه هو الذي يتوج البطاركة في مملكته وهم على غير دينه وعلى غير ملته[16].
كانت رسالة فولتير بسيطة وسهلة، وهي أن علينا أن نخرج من هذه القوقعة المريضة وننطلق إلى عالم آخر، يمتاز بالحب والتسامح، {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البَقَرَة: 115].
ويشيد فولتير برسالته بالدول الجديدة وشكل بناء العالم الجديد بعيداً عن أوهام التعصب، ويخص منها كارولينا وفلادلفيا وبنسلفانيا، وهي ولايات أمريكية قبل قيام الاتحاد الأمريكي، ويقول: هذه الدول ستربح المستقبل، لقد وضعت أنظمة تسمح للناس باختيار ما يشاؤون، ومنعت الدولة من التدخل في حياة الناس، ومنعت أي فريق من احتكار الخلاص، وبات الجميع يصلون كما يشاؤون، وأكد فولتير أن الله قد منح الحق الكامل لكل إنسان بالوصول إلى الجنة عبر الطرق التي يختارها ويريدها، ولم يفرض على الناس سلوك الطريق التي يريدها الكهنة!!
ثقافة الكراهية ليست مجرد معلومات غيبية غبية نستمعها عند المذبح في صلاة الآحاد، ولا هي مجرد ترانيم نقرؤها في مزامير داود، ولا هي كذلك مجرد روايات نرويها في خطبة الجمعة، إنها في الواقع كارثة قاتلة، ستحملك على الكراهية في الآخر، ويمكن ببساطة أن تجعل من الهائجين مشروعاً انتحارياً ينتقم للإله من العصاة المارقين المتمردين الذين لا يقبلون هديه ونوره.
لقد قيل لفولتير مراراً: مالك ولاحتكار الخلاص؟ ولماذا ترغم الله أن يدخل ملكوته من لا يحبهم؟؟؟ هذه نصوص أنزلها الرب، لا اجتهاد فيها، وهي تتصل بيوم الدينونة، وحين نكره إنساناً على اعتقاده الفاسد فنحن لا نفعل أكثر مما فعله الرب، وهي مسألة تختص بيوم الملكوت فلماذا يا فولتير تقحمها في الدنيا؟؟ نحن نستطيع أن نتعايش ونتجاور متحابين أو متكارهين، فليس كل البيوت تعمر بالمحبة!!
يصرخ فولتير غاضباً: «إن الحق في التعصب حق همجي، إنه حق النمور المتوحشة!! بل يفوقه بشاعة، النمور تمزق بأنيابها لتأكل، أما نحن فقد أفنينا بعضنا من أجل دقة تأويل نص في الكتاب المقدس!!»[17].
ويشير فولتير إلى الواقع الذي تعيشه إسبانيا وفرنسا وإيطاليا على وجه التحديد بأنه ينوس بين اتجاهين: (داعشي وسلفي) الأول: الإيمان أو السيف!! وهذا في الواقع مخجل للإنسانية، يلغي الإيمان كله ويكرس احتقار الإنسان، أما المذهب الثاني فهو: آمن بما شئت، ولكنني سأكرهك وأحتقرك حتى تدخل في إيماني، آمن وإلا أبغضتك.. لن أحبك أيها المسخ وأنت تحاد الله ورسله؟ سأكرهك بقدر إيماني، وسأؤذيك بقدر ما أستطيع حتى تدخل في الدين الحق!! وإلا ستكون مكروهاً من جيرانك ومقاطعتك وأهلك!!
في الرد على هذا التساؤل كتب فولتير:
«عندما تذهب سفيراً إلى ألمانيا أو السويد أو الدنمارك أو روسيا هل ستقول أمام الصدر الأعظم: جلالتكم ستكتوي بنار جهنم إلى أبد الآبدين لأنك على غير عقيدة الحق؟ أي منطق هذا؟؟ فإذا كنت تراه عدو الله فلماذا تذهب إليه أصلاً؟؟ وأي علاقات ناجحة سنبنيها لبلادنا ونحن نعتقد في الآخرين هذا؟ أي امرئ نستطيع أن نعاشر؟ أي واجب من واجبات الحياة المدنية سننجز ونحن نعتقد بأنا نتعامل مع محكوم عليهم باللعنة الأبدية؟؟
هل هكذا تتصورون الله؟؟؟ هل سيقول الله في الآخرة لكل عظماء التاريخ وحكمائه: كونفوشيوس وصولون وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وتيطس وأبقتاتوس وغيرهم من الحكماء والعظماء.. ابتعدوا عني أيها المسوخ!! اذهبوا إلى جحيم الأبد… أما أنتم يا أحبائي جان شاتيل ورافاياك ودامايان وكارتوش (وهم مجموعة من القتلة الذين سفكوا دم البروتستانت باسم الرب وكانوا مشهورين بالتقوى) أنتم يا من صحت عقيدتكم وصلاتكم اجلسوا عن يميني، وشاركوني في ملكوتي وغبطتي!!»[18].
وفي قراءة بالغة الدقة يتحدث عن اليابان التي عاشت أديانها الاثنا عشر متجاورة متسامحة، لا يجور بعضها على بعض، ولكن حين وصل المبشرون وقدموا وعياً مختلفاً للإيمان قائماً على احتكار الخلاص والدينونة، ووصم الآخرين بالجهل والخذلان والعمى والضلال، ووصف آلهتهم بالمخادعة والدجل، تسببوا في فوضى أهلية صاخبة دفعوا حياتهم ثمناً لها، وأغرق الدين المسيحي في الدماء، وأغلق اليابانيون إمبراطوريتهم في وجه العالم، ولم يعودوا ينظرون إلينا إلا باعتبارنا وحوشاً ضارية شبيهة بتلك التي طهر الإنجليز بلادهـم منها[19].
وربما كان نص فولتير هذا بالغ الأهمية لتفسير المذبحة الضارية التي ارتكبها اليابانيون ضد المبشرين المسيحيين في يوم مشهود عام (1622م) على يد الملك الياباني هيديوشي، الذي أعلن أن المبشرين متآمرون قدِموا من الخارج، وهم خطر على وحدتنا وهويتنا ولا يحق لهم التهجم على آلهة اليابان!
يبقى موقف واحد لفولتير على عكس هذا النسق من التسامح، وهو المسرحية التي كتبها بعنوان (محمد النبي) وقد عرضت في مدينة ليل بفرنسا (1741م) وفيها يتحدث فولتير بمنطق منحاز ضد الإسلام، ومع أن اسم المسرحية (محمد)، ولكن فولتير أنكر فيما بعد أن يكون المقصود بها الرسول الكريم، وإنما هو اسم رمزي ليهاجم به المسيحيين اليعاقبة الذين قاموا باغتيال هنري الثالث على خلفية خلاف بين الكاثوليك والبروتستانت.
وفي مقام لاحق يقول فولتير: إن محمداً أدى خيراً كثيراً لمعاصريه، وتأثير دينه كان كبيراً، وعلينا الاعتراف بأنه ألغى الوثنية من قارة آسيا كلها.
. الدين الاجتماعي
يمكن نسبة هذا التصور من الإصلاح الديني إلى عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (ت 1917م) وهو أشهر علماء الاجتماع الأوربيين، حيث طالب بقراءة سوسيولوجية للدين بوصفه إنتاجاً مجتمعياً، وفي مرحلة تالية حاجة مجتمعية يجب أن يحكمها المجتمع، وأن تكون في خيره ومصالحه بغض النظر عن مصالح الكهنة وإطلاقياتهم ويقينياتهم.
يؤكد دوركايم الحاجة إلى الدين، فإن الإنسان حين يكون أمام ربه يكون لديه إيمان بالحياة، وحماسة للحياة، وهي حماسة لا يجربها في الأوقات العادية، حيث تكون لديه قوة أكبر لمواجهة مشاق الوجود، ويكون قادراً على القيام بأمور عظيمة ويبرهن عليها بسلوكه….. ويصف دوركايم نشوء الدين بأنه يكون تجمعاً مجتمعياً في البداية ثم لقاء حول طوطم، وهو ما يعبر به عن الذات الجاذبة للقداسة، ومن ثم فإن تشكل القيم والواجبات والممارسات ليس منفصلاً عن التفاعل المجتمعي، إنه مصدر الحياة الأخلاقية للجماعة. إن المجتمعات باتت مسؤولة عن الأديان ولا يمكن للمجتمع أن يتبنى الدين وهو يجدف ضد مصالحه، وإن المجتمع أو ما يسميه العقل الجمعي ملزم في التحكم بالقيم الدينية، وتقييمها اجتماعياً.
وبذلك فإن دوركايم بتأسيسه لفكرة الأصل السوسيولوجي للدين، بات يحمل المجتمع بهيئاته الفاعلة المسؤولية الكاملة عن حماية الدين كقوة أخلاقية وتربوية، ومنع تحوله إلى منشأ للكراهية والأحقاد ضد المختلف الديني.
وفي عبارة مباشرة يوضح دوركايم رؤيته في التوظيف الاجتماعي للدين:
«إن واجبات الدين وواجبات الأخلاق تشترك في أنها تلزمنا أخلاقياً….. وفي المجتمعات البدائية فإن الوعي بالدين قد اتخذ طريقاً خاطئاً، لقد بات أهم الواجبات الدينية ليست تلك التي تنظم علاقة الإنسان بالمجتمع، بل تلك التي تنظم علاقته بالآلهة، فليس الأهم أن يحترم الجار ويساعده ويعاونه بل الأهم هو القيام بالواجبات الدينية وتأديتها بشكل دقيق، وحتى لو لزم الأمر التضحية بالنفس في سبيل الآلهة…. ولكن الأديان تطورت فيما بعد وأصبحت أكثر وعياً بالحاجة الإنسانية…… وقد تطور ذلك اجتماعياً حتى صارت مهمة الدين حماية الأخلاق، فالنظام الخلقي لم يشرع للآلهة وإنما شرع للناس»[20].
. الدين القومي
وقد طور العالم الأمريكي روبرت بيلا (1927-2013م) هذا المفهوم، ودعا إلى دين قومي يعتمد بشكل أساسي على الرموز الوطنية، ويطالب بإطلاق القداسة والطهرانية على الأمجاد الوطنية، وقد شرح ذلك في الحالة الأمريكية، ويعتقد أن وثيقة إعلان الدستور وتضحيات الآباء المؤسسين وشهداء الحرية في الولايات المتحدة يمكن أن تتحول بشكل أو بآخر إلى قيم دينية إيجابية ضرورية للشعب الأمريكي.
ومع فارق التعبير والظواهر، ولكن تصور روبرت بيلا يمكن فهمه من جهة الممارسات بشكل أعمق فيما بات يعرف بديانة الزوتشي التي كرستها ممارسات الحزب الشيوعي الكوري وطقوسه، فقد بات الشعب يمارس طقوساً وبكائيات وغنائيات يومية على أطلال الأحداث الوطنية الكبيرة التي شهدتها البلاد، وقبور الآباء المؤسسين، وصار لهذه الأطلال والقبور بعد روحي وديني وعجائبي، حتى أقام النظام الكوري نصب الزوتشي في وسط العاصمة وحدد لها نواباً في البرلمان للدفاع عن قيم الزوتشي بوصفها المعاني النبيلة التي تحشد مشاعر الأمل والتضحية.
ويجب التأكيد أن بيلا لم يقصد أبداً إلى التخلي عن المسيحية، ولكنه قصد إنتاج لون من المسيحية يندغم في الرموز الوطنية، ويؤسس لمسيحية أمريكية تجمع بين روح المسيح وسموه الأخلاقي وبين كفاح الآباء في الأرض الأمريكية المقدسة. وتظهر هذه الفكرة بقوة في المجتمعات الإسلامية في أندونيسيا وماليزيا وأمريكا بحيث يطالب فريق من المسلمين في هذه البلاد بالاكتفاء بالأصول والشعائر الإسلامية فيما يتعين التحول إلى القيم والرموز الوطنية وكتابة فقه جديد وتاريخ جديد يناسب البلاد التي يقيمون فيها بعيداً عن اختيارات الصحابة والمذاهب الإسلامية التقليدية.
. الدين الإنساني
أما الدين الإنساني، فهو في الواقع محاولات لترتيب قيم الدين المختلفة على محورية الإنسان، بحيث تكون الشرائع في خدمة الإنسان، وليس الإنسان في خدمة الشريعة. والإنسانية عند سقراط ليست ديناً وإنما هي رتبة لا يبلغها إلا النبلاء. وهذه القيمة مركزية وأساسية في القرآن الكريم ويمكن فهمها بوضوح من خلال متابعة قصة الخلق ومكان الإنسان فيها، حيث تدل الآيات الكثيرة التي شرحت قصة الخلق الأول أن الله أمر ملائكته جميعاً أن يخروا لآدم ساجدين، وهو سجود تسخير وطاعة يتعين من خلاله مكان الإنسان المتقدم ومركزيته في الشريعة والحقيقة، وبذلك فإن الذاريات ذرواً والحاملات وقراً والعاصفات عصفاً وكل ما خلق الله من ملائكة مقربين قد سجدوا سجود طاعة وتسخير لآدم، ومن الجدير بالذكر أن هذا التكريم هو للإنسان ذاته، وذلك قبل أن تنزل الكتب وتأتي الأنبياء وتظهر الأديان.
وقد تحدث في الدين الإنساني عدد من الفلاسفة ومن أبرزهم لودفيغ فويرباخ (1804-1872م). ومع أن فويرباخ يعرف عادة بأنه فيلسوف المادية، ولكن المدهش أن دراساته كلها تكاد تكون في الدين، ولكن موقفه المتشدد تجاه الكاثوليكية دفع كثيرين إلى تصنيفه فيلسوفاً للمادية المناهضة للدين. أكد فويرباخ أن الدين أقوى غرائز المجتمع، ولكن لا بد من تجاوز الفهم الحرفي للدين، ولا بد من تجاوز رؤية اللاهوتيين والكهنة الذين يقدمون الدين على هيئة وصفات ووصايا بعيدة عن الحاجات الإنسانية للمجتمع، لقد أبدى فويرباخ إعجابه بالبروتستانتية لجهة أنها ركزت على الإنسان، فاعتبرت المثل والغاية والقدوة في يسوع، واعتبر ذلك رحيلاً من الميتافيزيق إلى الفيزيق، أو بمعنى آخر وفق تعبيره «إن الأنثروبولوجي هو سر حقيقة الثيولوجي»[21].
لقد كان يرى أن الثيولوجيا هو أسلوب الكنيسة التاريخي لبناء القيم الإنسانية في المجتمع، ولكن اللاهوت تحول إلى غابة من الطقوس والإكليروس غارق في الميثولوجيا، تتركز أهدافه في الغيب ولا تلتفت إلى عالم الشهادة، وهو يرى أن هذا هو جوهر الثورة البروتستانتية على تغول الكهنوت. ويتحدث عن جوهر العبادة الذي يحدده اللاهوت في البحث عن الله، فيما يرى فويرباخ أنه البحث عن الإنسان، وأن يسوع نجح في تنزيل القيم السماوية إلى قيم إنسانية أرضية، وقد اكتفت البروتستانتية بهذا، وتجاوزت كل شروط الكهنوت، فأصبح البحث عن الله هو البحث عن الإنسان نفسه، وأن التوجه إلى الله ليس إلا التوجه للمرآة، حيث يبدو الإنسان في سائر التفاصيل في النهاية، وأن الإنسان يبحث عن ذاته في البداية في ذات خارجة عنه، ولكنه حين يكتشف ذاته يتضاءل اتصاله بالغيب تدريجياً، وتغدو المسألة بناء للذات الإنسانية، وحين تكتشف النور الذي في قلبك فستعلم أنه في كل قلب نور، إن الدين في حقيقته هو سلوك الإنسان نحو ذاته، وهكذا يتحول إلى قراءة الذات الإنسانية السامية من خلال تجارب الصلاة والروح.
والحق أنّ هذا المعنى سبق إليه هيغل أيضاً (1770-1831م) فقال: «لا يجب أن يقتصر الدين على العقائد الجامدة ولا ينبغي تعلمه من الكتب ولا يجب أن يكون لاهوتياً بل بالأحرى أن يكون قوة حية تزدهر في حياة الشعب، في تقاليده وأعماله واحتفالاته، وعليه أن لا يكون أخروياً بل دنيوياً إنسانياً، وعليه أن يمجد الفرح والحياة الأرضية وليس الألم والعذاب وجحيم الحياة الأخرى»[22].
ويميز هيغل بين نوعين من الدين: الدين الموضوعي وهو اللاهوت، والدين الذاتي الذي تحول إلى حياة دينية تشرق فيها معاني الدين لتعزز الإيجابية والأمل في الحياة.
ومن المؤكد أن فويرباخ وهيغل كذلك معترضان أشد الاعتراض على احتكار الخلاص أو احتكار الحقيقة التي يتبناها اللاهوت، وأنهما يؤسسان لدين يقوم على الإنسان أصلاً، ويرفض الزيادات اللاهوتية، ويعمل ليعيش الناس في طمأنينة ومحبة وسلام. بل يمكن القول إن اعتراض فويرباخ ليس على احتكار الخلاص بل على فكرة الخلاص نفسها، حيث يجب أن يكون الخلاص شأناً دنيوياً محسوساً، وليس شأناً ميتافيزيقياً يرسمه الكهنة بعيداً عن حاجات الإنسان وقوانين العدالة.
وإذ نشير إلى التعليل الفلسفي للدين الإنساني الذي قدمه فويرباخ، وهو تعليل يقترح في النهاية نمطاً من وحدة الوجود تشبه تلك التي تبناها الصوفية في الإسلام وبشكل خاص ابن عربي وابن سبعين، فإننا نشير أن الجانب الأكثر وضوحاً في محورية الإنسان هو الجانب الاجتماعي بعيداً عن اللاهوت، حيث يكون الإنسان في سعادته واستقراره وتحقيق ذاته هو الهدف الحقيقي للأديان.
«إنّ نقد فويرباخ للإيمان، في المعتقد الديني المسيحي، هو بناء جديد لأخلاق النزعة الإنسانية الجديدة، من هنا فالإيمان ليس له إذاً أيّ معنى فاضل، إنّ الفضيلة لا توهب دينياً بل تؤسّس عملياً، ومن خلال الفعل الإنساني»[23]. إنّ الإنسان هو قاعدة الأخلاق التي هي أساس أفعاله.
ومن المؤكد أن الاتجاه الإنساني يعتبر مذهباً قوياً في كل دين، ويخوض الإنسانيون باستمرار حوارات صاخبة مع التيارات التي لا تلتزم محورية النص وتتراجع بالإنسان إلى الوراء، وتقتصر في وعيها برسالة الدين على تنفيذ مقتضى حروفه ونصوصه.
وفي الهندوسية يمكن القول: إن الشاعر الهندي رابندانات طاغور كان من أبرز دعاة بناء الدين على المنطق الإنساني، واحترام الروح الكامنة في الإنسان باعتباره انبثاقاً من الخالق سبحانه، وتجلياً لكماله وإرادته:
«إن الهدف الأساسي للأديان ليس دخول الإنسان الجنة، بل دخول الجنة إلى الإنسان، والإنسانية هي معنى أسمى من الأوطان والقوانين والأديان، وسنكون متوحشين إذا وافقنا على التضحية بإنسان من أجل غاية، مهما سربلناها بالقداسة والنبل……. ومهما يكن من شيء فلن أرتكب الخطيئة الخطيرة، خطيئة فقد الإيمان بالإنسان»[24].
وفي الإنسانية يقول غاندي: الإنسانية محيط، وليس من العقل أن تحكم ببؤس المحيط إذا صادفت بعض قطرات قذرة.
[1] – مقتطف من الفصل الرابع من كتاب إخاء الأديان، لمحمد حبش، الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلاحدود للنشر والوزيع.
[2] – خاني، محمد فتح الله علي، فلسفة الدين عند هيوم، ترجمة حيدر نجف، ص57
[3] – عبد الرحمن، سامية، الدين والمعجزة في فكر هيوم التجريبيّ، مجلة الاستغراب، عدد 18 لعام 2019م.
[4] – مقال لكمال طيرشي، نشرته مؤمنون بلا حدود 9 تموز/يوليو 2020م.
[5] – كانط، إمانويل، الدين في مجرد حدود العقل، ترجمة فتحي المسكيني، ص273
[6] – سانتيانا، جورج، الإحساس بالجمال، ترجمة محمد مصطفى بدوي، نشر المركز القومي للترجمة، القاهرة، 1970م.
[7] – مقال حسن أسعد، نشرته مدونة المحطة كانون الأول/ديسمبر 2018م بعنوان: ثيوديسيا الشر: بين المدارس النقدية والعقلية.
[8] – ليبنتز، أبحاث جديدة في الفهم الإنساني، ترجمة الدكتور أحمد فؤاد كامل، ص364.
[9] – روسو، جان جاك، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، ص101.
[10] – روسو، جان جاك، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، ص109.
[11] – روسو، جان جاك، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، ص118
[12] – تذهب بعض الروايات إلى أن ضحايا المذبحة تجاوزوا ستين ألفاً.
[13] – فولتير، قول في التسامح، ص75 ولم يظهر لي قصده بكلمة اللحميين، هكذا ترجمها سعيد بنكيران، ولكنني اطلعت على ترجمة أخرى لكتاب فولتير لهنريت عبودي طباعة دار البتراء، وقد أسمته رسالة في التسامح، وقد ترجمتها ص80 بآكلي لحوم البشر، والعبارة نفسها تقريباً مع فوارق طفيفة في الترجمة، وقد أشارت المترجمة أن سيفين هي جبال في وسط فرنسا.
[14] – الطويل، توفيق، قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام، ص28
[15] – من الغريب أن السيد بنكيران ترجمها: الله يحكم في سلام عشرين شعباً، بينما ترجمتها هنريت عبودي: السلطان الأعظم، وواضح أن المقصود هو ما ترجمته هنريت وليس بنكيران.
[16] – فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنريت عبودي، ص34
[17] – فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنريت عبودي، ص47
[18] – فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنريت عبودي، ص167
[19] – فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنريت عبودي، ص39
[20] – دوركهايم، إميل، التربية الأخلاقية، ترجمة السيد محمد بدوي، ص10
[21] – الخميسي، عبد اللطيف، فلسفة الدين وجدل اللاهوتي والأنثروبولوجي عند فيورباخ، نشر مؤمنون بلا حدود، عدد كانون الأول/ديسمبر 2015م.
[22] – رجب، محمود، الاغتراب سيرة مصطلح، ص119.
[23] – الخميسي، عبد اللطيف، فلسفة الدين وجدل اللاهوتي والأنثروبولوجي عند فيورباخ، نشر مؤمنون بلا حدود، عدد كانون الأول/ديسمبر 2015م.
[24] – طاغور، رابندانات، البيت والعالم، ترجمة د. شكري محمد عياد، ص8
*مؤمنون بلا حدود.
*باحث سوري متخصص في الشريعة و العلوم الإنسانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى