الرأي

أوان الحزن

(1)
بالأمس فارقت دنيانا الوالدة فاطمة إسماعيل العجيمي، سليلة كبانية أم درمانية تليدة. آباؤها مدفونون ضمن (الشهداء) في الموقف المعروف، وأمهاتها ممن حملن عبء الحياة بعد “الكسرة” فوصف معاناتهن تشرشل في “حرب النهر”. لكن حقيقة أن أم درمان مدينة قامت على أكتاف النساء أمر سبق كرري، وكما قالت اليابانية يوشيكو كوريتا: “رسميا فإن مدينة أم درمان كانت بقعة المهدي، ولكن في الواقع يبدو أن النساء وجدن الحيز لمناشطهن المستقلة في المدينة وقلبنها إلى مدينتهن الخاصة”. كانت “أمي فاطمة” بعض رحيق هذه البطولة الأبوية و”المَقْدَرَة” النسائية.
(2)
في “حي السوق”، حيث شجرة ضخمة أمام دارها ترمز لضخامة العبوة بالداخل كانت تقطن. ترحابها، ضمتها، حديثها، كرم ضيافتها، حكاويها.. كل ما ذهبت لسوق أم درمان أقرؤك يا أمي فاطمة السلام، فهناك حيث كنت أزور حبيبتي “Hadia Hassaballa” كنت أقسم غرض الزيارة إلى شقين وفي حضرتك يطيب الجلوس.
تعطيك الانطباع أنك أثيرتها، بل حقاً كانت تؤثر كل زوارها وترويهم من محبتها ومحنتها، نهلا لا ينضب. كانت طاقة الحب لديها نووية بيد أنها تضم وتجذب، لا تفجر.
(3)
هي امرأة ولدت من رحم المهدية، في بيت عز لتاجر موسر توفي باكراً وكانت أمي فاطمة من زوجته الصغرى، أصغر حتى من بعض أبناء وبنات إخوانها، تعلمت ونشأت على أفكار تقدمية فولجت الاتحاد النسائي باكراً لكنها لم تحدث قطيعة المثقفات الدارجة مع أصولهن، ولا قارفت الحقد بألوانه، وهناك من يجعل للحقد عقيدة: طبقية، أيديولوجية، الخ.
كانت وطنية باذخة، سارت في مواكب ثورة أكتوبر، وأيدت الثورة على الطغيان وغذتها من عصبها حتى ديسمبر المجيدة، (وفي شان الوطن) ربت بناتها وولدها الذي إن لم يكن من رحمها فمن روحها، أمي فاطمة كانت سمحة، خُلقا وخَلقا.
(4)
حينما أصابها المرض اللعين قبل سنوات جزع كل من يعرفها لمعاناتها، لكن مقابلتها الهاشة الباشة كانت تمسح عنت كل من يلاقيها، قابلت الآلام بصبر خرافي، وحينما أصاب المرض الألعن حبيبنا الحقاني كانت تجد وهي في آلامها الأخيرة البراح لتدعو له بالعافية وتشفق على ما أصابه بينما كانت حالتها ميؤوس منها (تيرمنال)، والطيب يضوع من الوردة حتى بعد قطفها وأذان النهاية.
نفس الأمر تكرر يوم تشييعه إذ ظلت تتابع المرئي تدعو وتبكي حتى تعجب طبيبها من أنها في ألمها ذلك الشديد كانت تجد ألماً أشد!
(5)
لا أعرف كيف أصفها، وهي التمثال الأصدق للأنثى: أعمال تشكل الحياة وليس لها رصد، والرمز الأبلغ للأم: تمنح الوجود ولا تذكر حين المجد. ولا أعرف كيف أواسي حبيباتي هادية وهويدا وهالة وأخوهم قاسم، وأنا في وجع أعلم أن الكلمات، كل الكلمات، لا تصنع معه فرقاً.
(6)
كانت من الصالحات سيماهن في وجوههن، براً بالضعيف، وعملاً للمعروف، بنظافة جوهر تطغى على اللسان فلا تؤذي ولا تغتاب. حكت هادية كيف رأت في المنام العم الراحل محمد حسب الله يشكو من شيء أصاب ساقه فلما ذهبوا لقبره وجدوا بعض المعتدين يخبؤون ممنوعات في القبور وقد غرسوا علامة على قبره فنظفوه وأزالوا العدوان.
ويوم أعلنا إصابة حبيبنا الحقاني بالكوفيد اتصلت بي هادية تقول لي: سبحان الله، قبلها مباشرة قالت لي أمي فجأة: لو أرسلت سلامي للإمام هل توصله له رباح؟ تقول: فتعجبنا لماذا الآن، فبررت: لأنه المولد، وزفة المولد مربوطة عندي بالأنصار يمتطون الخيل، لذلك أود أن أبارك للإمام المولد. فكأنما أحست بحسسه، وقد كان أوان ألمها الشديد.
(7)
كنت مع هادية أواسي وأقاسي أيام معاناتها وسفرها الأخير للإمارات، حتى جاءت الطامة التي أخرجتني من ساحة الشعور مرة واحدة، فتركتها بدون أن أمد يدي كما يظن بالرفيق عند الضيق. يا لحسرة يوم في العاجلة ولكأنه القيامة: يفر فيه المرء من أخيه.
اللهم يا مذكوراً بكل لسان ويا مقصوداً في كل آن ويا مبدئاً لكل شان ويا من بيده الأكوان ويا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن ويا مالكاً لكل جرم وعرض وزمان، نسألك أن تكرم وفادتها وقد جاءتك صابرة على الخيرات مثابرة، تكرم وفادة عبادك وتوف عباداتك، ترملت فتجلدت، وعانت الآلام فصبرت، مدت الماعون، وطيبت خاطر المغبون، وربت بنات أكملن الذوق والاستقامة والوطنية. لا نزكيها عليك لكن رسولك صلى الله عليه وسلم قال: وجبت، يعني الجنة، لمن يشهد له الناس بالخيرات. اللهم كما عاشت راضية مرضية اجعل روحها الطاهرة ترجع إليك راضية مرضية فتدخل في عبادك وتدخل جنتك.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى