الرأي

أجسام البغال وأحلام العصافير!

منعم سليمان

لا يُخفى على أحٍد الفترة العصيبة التي تمر بها بلادنا حاليِّاً، وقد وصلت حد أن تكون أو لا تكون. هذا الأمر يُرسخَ بدواخلي شعوراً عميقاً بالقلق والخوف، فنحنُ في مفترق طرقٍ شائكة، قد نختار الطريق الذي يوصلنا إلى مبتغانا حال استشعرنا المسؤولية وأحسنا التصرف، وإلاّ فالتمزق والضياع، وقطعاً لا طريق يؤدي للإنقلاب، فليس هناك مجال لبندقيةٍ واحدة بل بنادق كثيرة ومُتعددة الاتجاهات، فإمّا الوصول أو التوهان والتشتت – ويا ألطاف الله كوني!

لا أتحدث هنا عن الأزمات الاقتصادية الموروثة، بل عن  السياسية -المسكوت عنها- والتي تطفو على السطح كلما ضربت البلاد ضاربةً أو نزلت عليها نازلة، فلا تطرح قضية نفسها على الساحة؛ إلا وكشفت الأزمة السياسية عن وجهها، فمن قضية السلام مروراً بالتطبيع إلى رفع الدعم عن المحروقات، وضح جلياً أن من نحسبهم جميعاً؛ قلوبهم شتى!

قد يقول قائل إنّ الاختلاف سنة الحياة، أو لولا اختلاف الآراء لبارت السلع، وأقول له: أحسنت، ولكن أقوالك هذه تصح إذا كانت بلادنا تعيش أوضاعاً طبيعية، شأنها شأن بقية دول العالم، ولكنها تمر الآن بظروفٍ استثنائية بالغة التعقيد، وتركيبة سياسية مختلة هي إفراز طبيعي للتكتل السياسي الفوضوي الذي حدث إبان الثورة، لكونه لم يكن استراتيجياً مؤهلاً للحكم؛ بل مرحلياً لإسقاط النظام البائد، وكان ينبغي أن تُعاد  الأمور إلى نصابها وتتم هيكلة التحالف وفقاً للأحجام السياسية لقوى الثورة، وشخصيِّاً أعرف زوجان أسسا لافتة إبان الثورة – مشكور سعيهما- فكان أن وقعا على إعلان الحرية والتغيير فأصبحت لافتتهما الزوجية عضواً رسمياً بـ (ق.ح.ت)، لها ذات حقوق الأحزاب الجماهيرية العريقة، ونفس صوتها وتصويتها، فهل يستوي أن نساوي حزباً كالأمة أو الإتحادي أو المؤتمر السوداني بجماهيرهم العريضة بـ(زوج وزوجته) قررا أن يُترجما قصة حبهما الطويلة إلى فعلٍ ثوري؟!

لا شكّ أن ثورة ديسمبر العظيمة بكل ألقها وزخمها وتضحياتها، افتقدت القائد السياسي المحنك، وبغيابه نما على سطح حيواتنا “تجمع المهنيين” الذي أثبت في أول (محكٍ) بعد الثورة إنه كان قائد الضرورة لا المستقبل، وهو حقيقة لم يكن ولن يكون قائداً سياسياً بسبب طبيعة تركيبته التي يفترض إنها نقابية، وقد أدى ما عليه وكان ينبغي أن يعودَ تلقائياً إلى دوره الطبيعي بعد الثورة، ولكنّه تجمعاً سودانياً، وأغلب ما هو سوداني يلهث خلف الأضواء والمناصب وتغره الشهرة واللقطة بزخمها الإعلامي، وهو زخم صنعناه له نحنُ؛ أيام كُربتنا، والمرء عندِ كربته يرى حسناً ما ليس بالحسنِ، أو كما قال الشاعر الجهبذ، فصدّق التجمع وتضخم وانتفخ، فوقع كما ارتفع، وانتهى إلى النحو الذي نراه الآن، تجمعاً للهتيفة وفاقدي البوصلة السياسية والوطنية وثُلّة من (الألتراس) الرياضي، فصار بالنسبة لجمهور الثورة كما الخمر بالنسبة لجمهور العلماء ضرره أكثر من نفعه!

إنّ عبارة “تصحيح مسار الثورة”، صارت فرط استخدامها في غير مكانها وأغراضها من قبل بعض الذين تمسحوا بمسوح الثوار؛ عبارةً للخنى والخيانة، فتصحيح المسار الثوري لا يبدأ إلا بتصحيح الحاضنة الثورية، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج، والتصحيح في اللغة يعني تصويب الخطأ، وتصويب خطأ (ق.ح.ت) لن يتم إلا بغربلتها من أعلاها إلى أسفلها؛ وإعادة تشكيلها على أسس جديدة، كل حسب وزنه على الأرض، مع ضم الفاعلين الجدد بالجبهة الثورية، وهم ثوار حقيقيون ثاروا قبل ثورتنا الظافرة، وقدموا تضحياتٍ كبيرة من أجل هذا الوطن، فالثورة لم تبدأ في ديسمبر، بل بدأت قبله بكثير، وما ديسمبر إلا فعل تراكمي لنضالاتٍ امتدت 30 عاماً، والذين يريدون أن تظل الثورة مؤرخة به دون غيره، لا يدافعون عن الثورة وإنما عن امتيازاتهم التي تحصلوا عليها بعد الثورة، وهيهات، وهيكلة (قحت) على أسس جديدة أصبح ضرورة، وحقيقة يجب ان يستوعبها ويستعد لها الصغار ويستيقظوا من أحلام العصافير.

أجسام البغال وأحلام العصافير!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى