يوميات البرقع الاحمر (١)
رشا عوض
الاسطوانة المشروخة حول ان مشكلتنا في السودان هي دولة ما بعد الاستعمار، ودخول هذه الاسطوانة إلى مواثيق لجان المقاومة لا يعدو أن يكون دروشة سياسية أو مؤامرة سياسية!
فالسودان على مدى ثلاثين عاما كان خاضعا لنظام اسلاموي سرديته الرئيسية هي ان الدولة الوطنية التي نعيش فيها هي دولة المستعمر الكافر شكلا ومضمونا، ونحن بحكم اسلامنا يجب أن نقيم دولتنا الاسلامية التي فيها اسلام السياسة والاقتصاد والفن والرياضة والعلم والثقافة لله (المنهج التوحيدي)، بمعنى ان كل هذه المجالات فسقت وخرجت من الدين في الحضارة الغربية على حد تعبير الترابي، وعلى هذا الأساس انقض الترابي على دولة ما بعد الاستعمار وفككها صامولة صامولة! فلم يتبقى من دولة ما بعد الاستعمار لا الهيكل المادي من سكك حديدية ومشاريع زراعية عملاقة كانت عمود الاقتصاد الوطني مثل مشروع الجزيرة، إضافة الى الخدمة المدنية المهنية والجامعات ذات المستوى الأكاديمي المرموق مثل جامعة الخرطوم التي تم تعريبها وبقية الجامعات في اطار التأصيل، واصبح من ضمن هيئة التدريس فيها رموز التطرف مثل عبد الحي يوسف الذي ترأس قسم الثقافة الاسلامية! وبلغ هوس التأصيل لدرجة تأسيس معاهد مثل معهد أسلمة المعرفة! كما لم يتبق من دولة ما بعد الاستعمار ما خلفته من نظام برلماني ودستور وقوانين مدنية تشبه الدولة الوطنية الحديثة، وكانت هناك مجانية صحة وتعليم في دولة ما بعد الاستعمار! تم الإجهاز على كل ذلك واصبح أثرا بعد عين! ودولة ما بعد الاستعمار كانت مساحتها 2589000 كلم2 (مليونان وخمسمائة تسعة وثمانين الف كلم2) تقلصت في عهد الكيزان الى 1882000 كل 2(مليون وثمانمائة اثنان وثمانون الف كلم@)!!!
إذن، الواقع المحسوس الملموس الشاخص أمامنا هو: ليست هناك دولة ما بعد استعمار في السودان الان، بل ان الدولة التي خلفها الاستعمار تراجعت الى الخلف سنوات ضوئية! السودان الآن فيه دولة مسخ هي دولة الكيزان التي تحتاج لمصطلحات جديدة لتوصيفها! وتحتاج ان نكرس جهدنا للانعتاق من اسرها بدلا من مناطحة طواحين الهواء! وعمليات (تشتيت الكورة) التي ظاهرها الفكر وباطنها السياسة الخبيثة!
المشكلة ان حكايات ما بعد الاستعمار هذه منزوعة من سياقاتها التاريخية ومن الاستدراكات النظرية المهمة التي تراكمت حولها، بالعامية السودانية (الموضوع ملفوح من نصو) على غير هدى، فدراسات ما بعد الاستعمار كاتجاه للتحرر من سطوة المركزية الاوروبية في مجال المعرفة وتبعا لذلك في مجالات السياسة والادب والثقافة والاقتصاد، هذا الاتجاه الذي اسس له ادوارد سعيد وفرانز فانون وغيرهم من المفكرين الاسيوين والافارقة وكذلك الاوروبيين، هذا الاتجاه في مجتمعاتنا بالذات اختطفته إما اصوليات دينية او اصوليات قومية انحرفت بفكرة مقاومة آثار الاستعمار السالبة عن المعنى الرفيع ممثلا في رد الاعتبار الحضاري للمهمشين، إلى تكريس التخلف والتهرب من المسؤولية الذاتية عنه وتحويل الاستعمار إلى شماعة ابدية يعلق عليها كل ما حدث وكل ما سيحدث لنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مع تغافل تام لحالة القابلية للاستعمار وما نفعله نحن بأيدينا في تخريب اوطاننا.
عموماً لا يعقل ابدا اقحام مثل هذه التعقيدات الفكرية والنظرية في مواثيق سياسية يفترض ان يكون لكل كلمة مكتوبة فيها محتوى تطبيقي مباشر، فما هو الفعل المباشر المطلوب بالضبط من المواطن السوداني تجاه الكولونيالية في لحظته التاريخية الراهنة؟ أصلا إقحام كل حكايات ما بعد الاستعمار والنيولبرالية والامبريالية في مداولات السياسة السودانية في سياق الظرف السياسي الراهن يصدر عن منصات لا تحفل بتأسيس نظري لبديل سياسي حقيقي وخيارات عملية محسوسة لاخراج البلاد من عنق الزجاجة الذي هي حبيسته الان، بل يصدر بكل اسف وتروج له بكثافة منصات متواطئة سياسيا مع الكيزان الذين كان محور مشروعهم الايدولوجي (القضاء على دولة ما بعد الاستعمار وتحقيق الحرية والاستقلال من خلال الدولة الاسلامية ومواجهة الاستكبار الامريكي والصهيوني والغرب الاباحي الكافر الخ) فماذا كانت ثمرتتهم؟ انها الدولة المسخ الماثلة امامنا والتي جعلت الدولة التي تركها المستعمر نفسها حلما بعيد المنال!! ناهيك عن الحلم المشروع بدولة وطنية مقتدرة تتصدى لبناء الدولة برؤية وطنية، وتتحرك بخطوات مدروسة في اتجاه الاستقلال الفكري والسياسي والاقتصادي.
كل الدول الموجودة في خارطة العالم اليوم ينطبق عليها وصف دول ما بعد الاستعمار، وخارطة العالم المعاصر اصلا رسمها الاستعمار، ولكن في هذا العالم دولا تطورت وحققت انجازات نوعية في التنمية الاقتصادية والبشرية والتقدم العلمي والتكنولوجي، بل هناك دول كاليابان نهضت وهي تحت الاحتلال!!
المطلوب في مجتمعنا هو التخلص من نظرية المؤامرة والتفحص الجاد لمعوقات النهوض الذاتية التي جعلتنا متخلفين بهذا الشكل!
من الطبيعي جدا ان ينخرط كتاكيت الاسلام السياسي الجدد بحماس كبير في “الحنك بتاع دولة ما بعد الاستعمار دا” لانهم محتالين ومؤدلجين بنظرية المؤامرة وليست لديهم أدنى رغبة في مساءلة ذواتهم وتجربة حكمهم والاعتراف بجرائمها المحسوسة الملموسة التي فاقت جرائم الاستعمار، يريدون صرف الانظار عن الواقع الماثل أمامنا وهو دولة الكيزان إلى تهويمات وكلام هلامي يفرق دم الأزمة التي صنعها الكيزان بعيدا جدا! إلى ما وراء البحار!
ولكن غير الطبيعي هو ان ينخرط ماركسيون او افروعموميون في خدمة هذا التضليل الكيزاني واقحامه في مواثيق لجان المقاومة!
بعد تجربة الانقاذ الكارثية لن يأتي إليك كوز مطلقا لحيته ويقول ليك قال الله وقال رسول الله ، الكوز الجديد سوف يأتيك مغلًّفا لأباطيله بورق سلوفان ماركسي!! ويستنفرك ليس للجهاد ضد الكفار والشيوعيين بل لمواجهة دولة ما بعد الاستعمار التي لم يعد لها وجود اصلا في السودان ببركات الترابي وتلاميذه!
كيف السبيل الى التفريق بين الماركسية الحقيقية وماركسية (ورق السلوفان)؟ من السهل جدا التفريق، إذ لا يمكن ان تتحول الماركسية لمجرد برقع احمر تتخفى خلفه اجندة اسلاموية.