الرأي

يسقط البنزين ويحيا السودان!

منعم سليمان

لي صديقة تكره مناداتي لها بلقب طبيبة، حالها حال غالبية الأطباء؛ يُفضلون لقب دكتور على طبيب، وربما يرى بعضهم في لقب “طبيب” تقليلاً من شأنهم، ولا بأس، فالدكتور لقب عالمي حيازي قديم وأصيل أضفاه عليهم المجتمع الذي كان يُقدِّس مِهنة الطب، حين كان الدكتور يستحق ذلك، خصوصاً في بلادنا قبل عهد الأوباش، الذين زعموا إنّهم أتوا لإنقاذنا فأحطّوا بنا إلى أسفل سافلين، وأهانوا الأسماء وبدلوا المقامات وابتذلوا الألقاب، فسمعنا برسائل دكتوراة تحمل عناوين يخجل من التفوه بها سكان الأزقة المظلمة: ومن دكتوراة في “ما يخرج من السبيلين” إلى دكتوراة في “فُساءِ الشيطان” صار اللقب النبيل نابيّاً، لا يُنطق إلاّ وتعقبه عبارة “عدم المؤاخذة”!

وكنت أناديها بالطبيبة، قصداً وإصراراً وتربصاً ممازحاً لها، وقد تغيّر ذلك بعد الثورة، وصرت أناديها دكتورة كما تستحق، فالثورة كما أعادت لنا ثقتنا بأنفسنا، أعادت للمهن والوظائف العامة بريقها وألقها وتقديرها، وصديقتي هذه بارعة في مهنتها وأخلاقياتها وخلقها، وهي مستشارتي الدائمة التي تتحمل استفساراتي المملة التي لا تنقطع، حتى لو كان الأمر يتعلق بشراء قُرص اسبرين من الصيدلية المجاورة. وحدث ذات أنفلونزا حادة نالت من بدني وأوهنت عظمي أن قصدتها – كدأبي- من أجل المشورة الدوائية، وقبل أن أكمل حديثي قالت لي: لا تتناول شيئاً، فأنت إنْ تناولت الدواء ستذهب عنك الأنفلونزا في أسبوع، وإنْ لم تتناوله ستذهب بعد 7 أيام، فبُهت الذي مرض!

ما قالته صديقتي يُمثل حالة تسمى بتساوي النتائج، وهي حالة تعاني منها حكومتنا الحالية، فهي إن رفعت الدعم سيغضب منها جزء من الشارع والمُكوِّنْ الذي يُمثله سياسياً، وإن أبقت عليه أغضبت البعض الآخر ومُكونه، وهي في حيرتها هذي تريد أن ترفع الدعم عن المحروقات ونيل رضا الجميع، وهذا المستحيل بعينه، فلا شيء في هذه الحياة ومُنذ بدء الخليقة حاز على رضا وإجماع كل الناس، خصوصاً وإنّ الأمر الذي يواجه حكومتنا فيه مصالح ماديّة كما ايدولوجية لبعضِ الجهات، لا بُدّ إنها ستحاول الدفاع عنها، ولكن على الحكومة أنْ تعلم أنّ الأمر ليس عرضاً ومرضاً يتعلق بسلامتها الشخصية حتى ترضح وتقبل، بل يتعلق بسلامة وبقاء الملايين من جموع الشعب السوداني، هم أصحاب المصلحة الحقيقيون، لا القلة القليلة من أهل المصالح الايدولوجية البالية، وأصحاب المصالح المادية الطفيلية الذين ينتفعون ويتنزهون بسياراتهم الفخيمة على حساب الكثرة الكاثرة المعدمة!

على الحكومة اتخاذ موقف حاسم وحازم وشجاع من قضية رفع الدعم، فالخزائن خاوية على عروشها، وصفوف الوقود زاحمت الناس في دخول منازلهم، والصناديق الدولية المانحة لها شروطها، ولا توجد دولة في هذا العالم تمنحك وقوداً  لتبيعه أنت لشعبك بأقل من السعر الذي تبيع به لشعبها، فمُهمة الدول أن تعمل من أجل تحقيق الرفاهية لشعبها لا لرفاهية  شعوب دول أخرى!.

وعود على بدء لقصة الطب والأطباء، فإنّ هناك نظرية طبية أخلاقية متعارف عليها ومعمول بها، مفادها: التضحيِّة بالجنين لإنقاذ الأم، وذلك عندما يكون الجنين مشوهاً وضاغطاً على قلب الأم، ويمثل خطراً على حياتها، وليس هناك حالياً ما هو أكثر تشويهاً وضغطاً ويمثل خطراً على قلب أمنا (السودان) مثل دعم البنزين!

يسقط البنزين ويحيا السودان.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى