الرأي

وديتو القروش وين؟”

مروة بابكر

إن كارثة فيضان نهر النيل التي ألمت بالبلاد في خريف هذا العام قد فاقت جميع التصورات. ففي غضون أيام قلائل، وجد مئات الآلاف من الأسر أنفسهم دون مأوى، وانهارت العديد من الطرق الرئيسية التي تربط مدن البلاد، و دُمِّرَت مساحات شاسعة من الأراضي الانتاجية الزراعية. مابين ليلة وضحاها أصبح السودان “منطقة كوارث” وتم إعلان حالة الطوارئ.

حدث كل هذا والسودان يعيش أزمة طاحنة ألقت بكامل ثقلها على كاهل المواطن البسيط وزادته هماً على هم، وتركت الكثير من الانتهازيين في حالة ترقب ينتظرون فيها قدوم القشة التي ستقصم ظهر البعير وتلقي بالبلاد إلى حالة الفوضى. ولكن هيهات !

كما عوّدنا الشعب السوداني في كل نائبة وجلل، انتفض الجميع لمساعدة كل من تضرر في الفيضانات الأخيرة، وقامت العديد من المبادرات التي شارك فيها السودانيون في الداخل والخارج ورسموا بها أجمل لوحات التعاضد والتكاتف والإيثار وحب الوطن.  وما زاد هذه اللوحة جمالًا، هو وقوف غير السودانيين بجانب السودان في هذه المحنة وتنظيم العديد من الحملات في قطر والسعودية والإمارات وغيرها من الدول لتقديم الدعم المادي والمعنوي للتخفيف على المنكوبين.

في وقت اشتد فيه صراع المحاور ومحاولات اجتذاب السودان ليكون طرفًا في النزاعات السياسية الإقليمية، تأتي هذه الحملات الشعبوية لتذكرنا بالقيم الإنسانية المفقودة وتعزز من روح المشاركة الجماعية والتعاون المشترك لتجاوز الأزمات.

اليوم، تُقَّدر الدعومات المادية التي قُدِّمت الى السودان عقب هذه الكارثة الطبيعية بملايين الدولارات. وتزامناً مع وصول جزء منها إلى أراضي البلاد، بدأ الشارع السوداني بتقديم بعض الأسئلة المشروعة على شاكلة:

“كيف سيتم توزيع الدعم؟”

“ماهي خطة وأولويات الحكومة في معالجة الأضرار؟”

و “كيف سيتم التحقق من أن الدعومات قد وصلت لمستحقيها؟”

رغم وضوح سوء الإدارة والفشل في التعامل مع الكثير من الملفات، لا شك عندي في وطنية ونزاهة أعضاء الحكومة الحاليين. لكن للأسف الشديد، درجت حكومتنا الوليدة على أن تتعامل بـ “رد الفعل” لا بـ “الفعل”، فهي لا تقوم بمشاركة الخطط وآليات التنفيذ مع الشعب إلا بعد مطالبة الشارع بهذا الأمر، وحتى بعد المطالبة نجد أن إستجابة المسؤولين ليست بالقدر المطلوب، مما يفتح الباب لكثير من أعداء الثورة لزرع الاتهامات ونشر نظريات المؤامرة التي تؤلِّب الرأي العام ضد النظام الانتقالي (يُـستثنى من هذا وزير الشؤون الدينية والأوقاف نصر الدين مفرح والذي يقدم تنويرا مفصلا كل فترة بموقف وزارته المالي والتحديات والخطط المستقبلية).

إن انعدام الشفافية وغياب الوسائل الرقابية سوف يؤدي لا محالة إلى فقدان الثقة في الحكومة الحالية، وقد بدأت ملامح هذا تظهر بالفعل حيث نشهد انحساراً في مستوى التأييد الشعبي للحكومة وفرقاً واضحا بين التأييد الذي كانت تحظى به العام الماضي وهذا العام.

إن تفاقم الأزمة الاقتصادية قد يلعب دوره في قلقلة الشارع، لكن المكاشفة الواضحة وإشراك الشعب في خطوات المعالجة كان بوسعه امتصاص القلق الشعبي بصورة كبيرة.  لكن هذا لم يحدث، بل بالعكس، نجد أن هناك نمطاً واضحاً في طريقة تعاطي المسؤولين مع قضايا الرأي العام، حيث يقومون فقط بـ “تركها للزمن” آملين أن تخبو تساؤلات العامة مع مرور الوقت.  لكن هذه الاستراتيجية لم ولن تنجح يوماً، فالشارع السوداني أصبحت لديه ذاكرة تراكمية تسجل الأخطاء تباعاً ولا تنسى. وما أشبه “القومة للفيضان” بـ “القومة للسودان” ، حيث وجدت تلك الحملة تفاعلاً شعبيا واسعاً، لكن للأسف الشديد طغى فيها أيضاً غياب الشفافية، فلا أحد يعلم الآن فيما صُرفت تلك الأموال وكيف تم توزيعها.

“وديتو القروش وين؟”

هو سؤال صار يتردد كثيراً في الأسافير، وسوف يتردد مستقبلاً إذا لم تقم الحكومة بتغيير جذري في طريقة تعاطيها مع الشعب.

إن المقدار الكمي لهذ الدعومات لن يبني دولة مهما كان كبيراً، ولا يتجسد الحل في حصر هذه الأموال ولا تلك، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في غياب النظام الذي يُوحد طريقة عمل الحكومة ويؤسس لطرق واضحة تتم بها “مساءلة الحكومة”، وهو أحد المبادئ المعروفة والمتفق عليها في الحكومات الديمقراطية، حيث يتم التأسيس لمكتب مستقل لديه كافة الصلاحيات للوصول إلى الوثائق الحكومية ووظيفته الأساسية هي المراجعة والمسائلة الحكومية.  ليس هذا فحسب، بل تَـسن الكثير من الدول القوانين اللازمة التي تمنح الحق للمواطنين بتقديم طلب رسمي للحكومة لرؤية المستندات التي توثق لمشروع ما أو تحتوي تفاصيل الصرف الحكومي على الخدمات العامة.

إن آفة السودان وعقبته الكبرى تتمثل في النظرة الضيقة للأمور والعمل بنظرية “عَــدي من وَشك” كما نقول بالدارجية، فيتركز جُلُّ همنا في حلحلة تعقيدات اليوم ومصارعة مصاعب المعيشة الآنية حتى نرى يوما جديداً، لكننا للأسف نفتقر إلى التخطيط الاستراتيجي والتأسيس لمشاريع طويلة المدى تُخرج أطفالنا من الحفرة التي نقبع فيها الآن، وهذا في الحقيقة هو لُـبُّ مهمة الحكومات الانتقالية في العالم.

إذا تم التأسيس لنظام حقيقي تسير عليه الحكومة في تعاملاتها الداخلية والخارجية، السياسية والاقتصادية، التعليمية والصحية، وتم بالإضافة إلى ذلك إنشاء وسائل رقابة شعبية، سياسية، وإعلامية واضحة، سوف نصل إلى المرحلة التي يصبح فيها رحيل حمدوك ومجيء حمدوك آخر شيئا ثانويا، فبقاء النظام سوف يحفظ حقوق المواطنين ويحافظ على استقرار نظام الحكم.

إن لم نخرج من هذه الفترة الانتقالية بـ “رغد العيش”، أقل ما يجب ان تنجزه الحكومة هو وضع اللبنات الأساسية لنظام حكومي فاعل وشفاف.

الكلمة الأخيرة في مقال اليوم هي الدعاء بالرحمة والمغفرة لأبنائنا من قوات الشرطة الذين جسدوا في تفانيهم امتداداً لثورة ديسمبر المجيدة واستشهدوا وهم يحاربون من أجل هذا الوطن.

تقبل الله الشهيد الملازم أول/ أحمد عمر سلاطين، مساعد شرطة/ سيف الدين سليمان، رقيب شرطة/ عمر جبارة البشير، وكيل عريف/ علي حسين علي عيسى، وجندي شرطة/ عبد الله محمود الزين.

 

وما بننسى الناس الماتوا

في الجيش، الشرطة، الشعبْ

الصانوا الوطن الأخضر

وفدوهو الروح والقلبْ

وعشانهم نحن نواصل

ونكمل نفس الدربْ

ما شان الشهداء مرقنا

ما بِحكم تاني بلدنا

فاسد أو مجرم حربْ

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى