في شتاء إنقاذي بارد برودة حكامه تجاه كل المشكلات، اقتلع عبد الصبور المروحة من سقف حجرته الوحيدة وخرج بها إلى دلالة الجمعة وباعها، لتهرب منه الدينارات محولة نفسها إلى أصناف بسيطة داخل كيس بلاستيكي يعلن عن عصر (الشحتفة).
لم يكن عبد القادر يتوقع أن يحدث ما حدث، كانت عيونه تتابع حركات القط على حائط الجالوص القريب من عنقريبه المهتوك، وكان القط يتحرك على الحائط باسترخاء ويموء بكسل يدل على جوعه، وعبد القادر يذهب به جوعه إلى أن يتحسس تلك الفكرة، وهكذا حدث ما حدث.
هذا المساء، احتج برشم على سلوك اللجنة الشعبية بالحي، وامتد هذا الاحتجاج إلى درجة أن استقبلت المنضدة التي يجلس وراءها سكرتير اللجنة الشعبية ضربات قاسية من كف برشم هذا، بالإضافة إلى صرخاته. كل ما في الأمر، أن القادم الجديد على أسرة برشم رفضت اللجنة إدراج اسمه على بطاقة التموين، بحجة أن إضافة المواليد الجدد لابد أن تكون في نهاية العام، الأمر الذي جعل برشم يستعين ببعض الألفاظ البذيئة، معلناً تدخل اللجنة الشعبية في مواعيد تخلق الأجنة.
وقف عبد القادر ينظر إلى القط، تحرك نحوه ببطء شديد، القط كان يموء مجادلاً جوعه، لذلك تمكن عبد القادر من القبض عليه، وما هي إلا ساعة حتى تحول فيها ذلك القط إلى وجبة دسمة دعا إليها عبد القادر بعض ندمائه الذين تولوا المهام الأخرى التي تستدعيها، ولابد منها كي تكون هناك (حلة). طبعاً دون أن يعرفوا بمصير ذلك القط. ومنذ ذلك اليوم الذي حدث فيه ما حدث، ظل عبد القادر يهتم اهتماماً خاصاً بالقطط.
عبد الصبور استطاع أن يتخلص من شبابيك حجرته مستغلاً ذلك الصيف الإنقاذي، خلع الشبابيك من الجدران وحملها على كارو يقوده حمار أقل ما يمكن أن يوصف به هو أنه مصاب بسوء تغذية، كما أنك لا تستطيع أن توصف مطلقاً صاحب الحمار، قبل دخوله إلى حيث زحمة الدلالة، فاجأه جباة ضرائب شرهين، أشهروا في وجهه إيصالاتهم. لم يستطيع عبد الصبور أن يدفع ضريبة على شبابيكه تلك التي اقتلعها من جدران حجرته فرجع بها خوفاً من مصادرتها.
أشجار المهوقني فقدت لحالها، والسبب في ذلك وصفة عملية تقول إن لحى أشجار المهوقني حين تغلي على النار تستطيع أن تعالج داء الملاريا الذي هو منتشر وله حق المواطنة منذ أزمان بعيدة. ولم تملك بعدها أشجار المهوقني إلا أن تحقق تلك المقولة التي تقول إن (الأشجار تموت واقفة).
أثناء ثورة برشم كان سليمان يضحك في داخله، لأن اللجنة الشعبية لم تمهل حذف سبع أوقيات من السكر من بطاقته التموينية، شاطبة اسم ابنه بخيت الذي توفي الأسبوع الماضي بخبث من الملاريا.
حين كانت الصحف والإذاعة والتلفزيون تهتم إلى درجة من التعب في تحليل تفاصيل الغلاء، وأصبح ذلك السؤال الذي يقول: (هل هو غلاء ندرة أم غلاء وفرة؟). بمثابة سؤال أزلي تنافس المتشدقون في الإجابة عليه من خلال ندوات ومؤتمرات وسمنارات ومهاترات رسمية وشعبية. حين كان يحدث كل ذلك الذي يحدث كاد متوكل أن يموت وهو يبحث عن ذلك النادر جداً، وأخيراً ذهب إلى أحد الخبراء الذين بفضلهم اكتسبت الأسواق لون السواد، أخذ ذلك الخبير متوكل إلى ركن قصي في زقاق مهجور، وقال له:
– (شوف يا متوكل أنا عايز أخدمك، توعدني الموضوع دا يكون سر بيني وبينك).
– (جداً سرك في بير).
– (يا راجل بير شنو؟ إنت من زمن الآبار بتحفظ سر؟ ما في زول يعرف يا متوكل، لإنو السرية مهمة جداً، وعلي الطلاق لو إنت ما راجل أخو أخوان وتستحق الخدمة).
– (مشكور، مشكور جداً ربنا يقدرنا على جزاك).
– (أها خلي بالك معاي وتركب تمشي حي البروش بعد الحارة 63، ولا أقول ليك يستحسن تركب تاكسي، وتقول لي بتاع التاكسي ينزلك في سوق أرفع سدرك، شوفتا سوق خمس دقائق بس بعدو. أها الأكشاك العلي يدك اليمين تخليها، في أكشاك على يدك الشمال تمشي عليها تعد الأكشاك الكشك السادس خلي بلك السادس، آخر كشك وراهو في ميدان بتاع كورة القون القريب ليك تخليهو، تمشي على القون التاني. أها القائم العلي يدك اليمين قصادو طوالي في زقاق تدخل بالزقاق ده تمشي طوالي لحدي تلقي قدامك بيت قدامو في تلاتة لساتك، خلي بالك تلاتة لساتك، أها تدق الباب حتلقى الراجل العندو الموضوع).
– (اسمو منو؟).
– (يا أخي عايز بي اسمو شنو؟ ما قلت ليك يا متوكل المسألة دي سرية للغاية. المهم أقول لكن عشان أساعدك، حأكتب ليك مذكرة، هو حيتصرف معاك).
– (كتر خيرك).
– (بعد ذلك وريهو إنت عايز قدر شنو، وما تتكلم معاهو كتير يا متوكل، خلي بالك الموضوع غاية السرية).
وتقود خطوات اللهفة متوكل إلى حيث تلك الأوصاف التي حددها ذلك الخبير.
قلم الحبر السائل من نوع (أبوشفاطة) أو (أبوأمبوبة) أو أي نوع من تلك الأقلام التي أصبح وجود أوعيتها تلك الصغيرة بمثابة ميزانية مالية قد تتفوق أحياناً على سعر القلم نفسه. هؤلاء هم أطفال الابتدائية يملؤون أقلامهم من محبرة على الدكاكين الصغيرة في الأحياء بمبلغ (50) جنيهاً، آسف خمسة دينارات.
في الحي الذي يسكنه عبد القادر لوحظ أن القطط بدأت تختفي رويداً رويداً، بينما ظلت فكرة الأمن الغذائي تسيطر على أعضاء المجلس الوطني، حتى إنها بتلقائية ماكرة وملتبسة بعض الشيء قد تحولت من كثرة تكرارها إلى (الغذاء الأمني)، لاسيما أن مسؤولاً كبيراً في الأمن كان قد نال درجة الدكتوراه في موضوع الأمن الغذائي.
ها هي القرود في جنوب السودان تتقدم المجاهدين في حربهم ضد الكفار كي تفجر الألغام، منحازة إلى كل ذلك النقاء الديني الذي يشع من وجوه المجاهدين، منيراً ظلمة تلك الغابات الحالكة.
عبد الصبور، استطاع أن يتخلص من شبابيكه بأن باعها لأحد النجارين الذي جردها في عقله إلى خشب، ونزع عنها كل ذكريات عبد الصبور معها مقابل دينارات لا تسمن ولا تغني من جوع.
تهرب الحافلات من أفواج الطلبة والطالبات الخارجين والخارجات من المدارس في تلك الظهيرة الحارقة، لأن نصف قيمة التذكرة التي يدفعها الطلبة والطالبات بمثابة خسارة لا تستطيع مطلقاً أن تنحاز للتعليم الذي فقد مجانيته.
التلفزيون يعلن عن قبر يتكلم في منطقة الدخينات، تناقلت هذا الخبر ومن ثم تنافست حوله نشرات الأخبار والصحف. قبلها كانت هناك صورة في إحدى الصحف تظهر فيها لافتة مكتوب عليها: (الدخينات تحذر أمريكا وللمرة الثانية).
قاضي محكمة شوهد وهو يتسول في شارع خفي، كان في حاجة إلى مائة دينار، آسف ألف جنيه.
بوليس حركة يفتعل مشكلة في موقف الحافلات أمام بوستة أم درمان كي يتم تغطية المشكلة بعدد من الدينارات.
في مستشفى التجاني الماحي واجه أحد أولئك المجانين الظرفاء عدداً من طالبات الأحفاد اللاتي قد تم تقديمه إليهن كنموذج للدراسة، نظر المجنون في وجوههن وبعقلية حسابية دقيقة قال: (السؤال بي ميتين دينار).
خرج عصام من الحافلة مقذوفاً وبشدة لأنه كان متآلفاً مع هروبه من أن يدفع أجرة جارتهم وبنتها كما يفعل عادة السودانيون.
اقتحمت عربة البوليس فناء كلية الأحفاد الجامعية للبنات وطارد أفراد ما يسمى بالشرطة الشعبية الطالبات اللاتي يلبسن أزياء لا تنتمي إلى فكرة التوجه الحضاري، كما أن الطالبات اللاتي أطلقن شعورهن داخل فناء الجامعة قد عوملن معاملة خاصة من أفراد الشرطة الشعبية التي أصبحت مهام الحشمة هي إحدى مهامها الحضارية.
تحركت تلك العربة الدخيلة على فناء الكلية وصرخات الطالبات والسافرات اللواتي على ظهرها تختلط بصيحات الناجيات من تهمة السفور، ومما لا شك فيه أن قسم البوليس الذي وصلت إليه العربة قد ضج بكل ذلك الحضور النهاري الجميل.
عبد الصبور، يتخلص من سجادة قديمة ومكواة وتلفزيون معطوب وسريرين وسجادة كانت لجدته من وراءه زوجته، قبلها كان قد تخلص من دبلة خطوبته مقايضاً لها بكيلو لحم ضان.
تلك الفتاة بت القبايل، بت الأصول التي أشارت للعربة الكريسيدا المتهادية في أحد شوارع الخرطوم، الخرطوم بالليل على طريقة (يا عم معاك) كإشارة حميمة، لم تعد هي تلك الفتاة، لأنها أدمنت انتظار تلك الكريسيدا، فخرجت من زمرة ناس (يا عم معاك وتنوعت على أناملها الرقيقة الدينارات).
اهتزت الأرض من إحدى الساعات الأولى من إحدى صباحات 1993م، إنها الأرض قد زلزل زلزالها، علق أحدهم قائلاً: (ها هي الأرض قد اهتزت، فمتى يهتز هؤلاء البشر؟).
نفس ذلك المذياع الذي وصف الزلزال الذي حدث في مصر بأنه غضب من الله، وصف ذلك الذي حدث في السودان وبدون خجل بأنه امتحان من الله.
وصل متوكل إلى سوق (أرفع سدرك)، وتابع وصف ذلك الخبير حتى وصل إلى حيث ذلك الباب الذي أمامه اللساتك التلاتة. طرق الباب، طرق حتى جاءه ذلك الرجل، أعطاه متوكل المذكرة التي كتبها ذلك الخبير، قرأ الرجل المذكرة ونظر إلى متوكل ملياً، ونظر إليه شذراً، وقال:
– (عارف إنو الموضوع ده سري جداً؟).
-(أيوا جداً).
-(طيب عايز كم؟).
-(عايز عشرة).
-(لا عشرة كتيرة خمسة بس، بعدين القطعة بعشرين دينار).
-(يعني ميتين جنيه؟).
-(عليك نور).
-(طيب ما في مشكلة).
كل الأحياء السكنية في العاصمة القومية تنثر الرماد قبل الغروب على عتبات الأبواب وعلى الحوائط أسفلها في شكل شريط من الرماد، ذلك لأن هناك وحشاً بستة أرجل ووجه غريب وأياد أخطبوطية ورأس ذئب وذنب تمساح يتجول داخل العاصمة القومية. يشاهد في أمبدة بينما يكون في نفس الوقت في الدروشاب، حتى الأحياء العشوائية تلك التي تختفي فيها الأبواب وعتباتها وتأخذ فيها الحوائط أشكالاً من الكرتون والجوالات، لم تنس أن تنثر الرماد كي يحيط بمساحتها المتواضعة.
قيل إن الوحش يخاف من رؤية الرماد، الرماد هو الشيء الوحيد الذي يجعل هذا الوحش بعيداً عن الناس. سمع أحد أصحاب المزاج عن هذا الوحش الذي يخاف من الرماد، فعلق قائلاً: (هو دا أصلو وحش ولا حماد؟)، استناداً على المقولة التي تقول: (الرماد كال حماد)، طبعاً الخيل تجقلب والشكر لي حماد.
أقسم (عباس الوناس) أنه شاهد فرح ود تكتوك والحنين والخضر وبله يقفون في صف التأشيرة، سأله نديم حميم في مجلسه:
-(ود تكتوك والخضر والحنين ديل عرفناهم، بله ده منو؟).
رد عليه عباس الوناس قائلاً:
-(مش في مثل بقول يحلنا الحل بله من القيد والمذلة، بس بله ده ذاتو).
دخل الرجل إلى الداخل وجاء يحمل كيساً في يده، متوكل أعطاه (2000) جنيه يعني ميتين دينار، وقبل أن يعطيه الرجل ذلك الكيس، نظر إليه شذراً وبعيون تحاول أن تكثف ذلك الحذر، وقال الرجل:
-(متوكل خلي بالك الموضوع ده سري جداً لأنو الرغيف ما بنبيعو لأي زول).
عبد الصبور تخلص من كل شيء، وها هو أخيراً يبحث عن عتلة لدى الجيران كي يهدم حائط منزله الجانبي لجمع الطوب بين ذلك الركام ويتخلص منه، لأن ألف الطوب قد تجاوز العشرة آلاف دينار، يعني مية ألف جنيه. حتماً عبد الصبور لا يمكنه أن يعيش بلا طعام فهو ليس نورانياً.
ها قد جاء أولئك الذين يحولون المآتم إلى أفراح، إلى أعراس، جاؤوا إلى الحي بعرباتهم وهتافاتهم، لا بأس أنها سيرة عرس الشهيد. اقتحموا صيوان العزاء، دخلوا إلى داخل المنزل، وأخيراً استطاع المذيع التلفزيوني أن يقتلع زغرودة من أم الشهيد تبعها تشنج من الهتافات.
حاجة آمنة لم تستطع أن تزغرد على موت ابنها، ولكنها بدلاً من ذلك كالت التراب على رأسها الكاشف، الأمر الذي جعل المذيع يهرب من أمامها وهي تلاحقه بالشتائم.
بدا وجه عبد القادر يتحور تدريجياً حتى إنه أصبح يشبه وجوه القطط التي أكلها، بينما تناثرت في الشوارع لافتات ضخمة مكتوب عليها: (من يملك قوته لا يملك قراره). أشهر عبد القادر ابتسامة قططية، الأمر الذي جعله حين دخل بسبب فضول رخيص لا يملك القدرة على تنفيذ حتى التجارة البكماء. دخل عبد القادر السوبر ماركت، وحين نظر إلى رجل بدين وعمامته تعلن وبشكل واضح عن وضعه الاقتصادي، كان ذلك الرجل يشتري ويشتري ويشتري، بينما عبد القادر ينظر إليه وبتلك الذاكرة القططية، ويراه ووجهه قد تحول إلى وجه قط، ولكنه أليف. برغم ذلك بدأ يستأنس فكرته أمام هذا القط الذي أمامه.