الرأي

مُبادرة رئيس الوزراء.. أي طريقٍ اختاره د. حمدوك

 

أحمد يعقوب

كثر اللغط في الأيام السابقة بشأن مبادرة د. حمدوك حول الأزمة الوطنية، جاء ذلك إبّان المؤتمر الصُّحفي الذي عقده رئيس الوزراء والذي أعلن خلاله أسماء عضوية اللجنة والتي استقال منها من استقال، ومن تبقى آثر الصمت أو تحدث عن عدم مشاورته في أمر الاختيار .

تُعاني أطروحات السيد رئيس الوزراء بشأن مبادرته من عدة إشكاليات؛ وهي إشكالية الفكر السّياسي السوداني ووعيه الجمعي بالأزمات ومآزق الانتقال سواء في 1964 أو 1985، بالإضافة إلى أن العقل السّياسي السوداني عقل يُجانب الأسس الفكرية والأطروحات المعرفية وحقائق الواقع ويحرث في البحر ولا يتعلم من التاريخ أبداً فإذا بالتأريخ يهزأ به ويمهزله.

ما جاء في المُبادرة ونقاطها هي في البدء إعادة كتابة للوثيقة الدستورية! ومعظم النقاط التي تحدث عنها السيد رئيس الوزراء في مبادرته هي سلطات وصلاحيات أعطيت له! وتنتظر منه اتخاذ القرار كأعلى سلطة متخذة للقرار في البلاد وهي من صميم واجباته.

تؤكّد التجارب الثورية تاريخياً؛ أنّ الثورة، بحسبانها قطيعة مع ما سبقها، تلغي الدستور، وتفتح الباب أمام وضع دستور جديد، يستبطن قيمها، ويعكس خيارات الناس وتوافقاتهم حول الشرعية الجديدة التي يرومون تأسيسها؛ ان الأمر ليذهب أكثر من ذلك في هذا السياق؛ حين الحديث عن قضايا استراتيجية في مسألة البناء الوطني أو معالجة جذرية لقضايا مثل الحرب واللامساواة وإصلاح القطاع الأمني والعسكري، إن الأمر برمته إعادة تأسيس وطن محترم من الصّفر وهنا بالضبط تبدأ الثورة. إن آلية بداية حل كل هذه القضايا التي ذُكرت آنفاً وغيرها؛ هي (الانتقال) والأسئلة تُطرح على شاكلة: كيف يتم هندسة الانتقال ويؤطر له في بلد مُتشظي وهش جداً بالنظر إلى قبائليته سواء سياسياً أو اجتماعياً؟ ماهي أولويات الفترة الانتقالية وأهم القضايا التي يجب أن تحدث تغييراً إيجابياً في حياة الناس بعد الثورة؟ كيف نجاوب على السؤال الجوهري والمتعلق بكيفية حكم البلاد؟ ماهي آليات صناعة الدستور الدائم والمتوافق عليه؟ أي منهج ستخوض به القوى السياسية؛ حواراً عميقاً ومتبايناً بطبيعة الحال حول البناء الوطني؟ كيف نُرسي أسس البناء الجديد على الصعد الدستورية والقانونية والسياسية والمؤسساتية؟.

وكأيّ سيرورة من هذا النوع؛ تتعدد الأسئلة حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه الثورة في ترسيم القطيعة مع النظام المُنهار، وبناء آخر جديد على أنقاضه.

تمظْهُرات أزمة الدّولة السّودانية المُتراكمة منذ عقود خلت؛ تجلّت بوضوح في هذه الفترة الانتقالية التي نُعايشها راهناً؛ فالمأزق الذي تعيشه الدولة (التي تعتبر في حالة تشكّل منذ استقلالها) هي أزمة العقل السّياسي السّوداني النّخبوي (يساراً ويميناً)؛ الذي يقف الآن حائراً مابين الحفاظ على الشّروط التّاريخية التي شكّلته كأزمة في حد ذاته؛ وبالتالي كان نتاج هذه الشروط: الامتياز التّاريخي – الذي لايبدو بحال من الأحوال أن الدّولة ستنفك منه قريباً؛ وما بين بناء كتلة انتقال؛ ناسفة بذلك الشروط التّاريخية القديمة لمصلحة الوطن؛ خاصة مع الوتيرة المُتسارعة الآن لصعود قوى جديدة أصبح لها صوت ووجود فاعل في المشهد السياسي المقام على أنقاض دولة ما بعد الثورة بكل شروطها السياسية والاقتصادية والثقافية …الخ.

ومما لا شك فيه أنّ الأزمة التي تعيشها بلادنا هي نتيجة مباشرة للأزمة التي تعيشها الأحزاب السياسية وهي أزمة فكرية، وسياسية، وتنظيمية شاملة، كما أنّها أزمة فهم لمتطلبات الواقع، ومتطلبات التطور، والانسجام معها، إذ أنّها أخذت في أشكالها الحالية، ونهجها وأساليب عملها تلعب دوراً معرقلاً لمتطلبات التطور، وتزيد من تفاقم الأزمة التي تعيشها مجتمعاتنا، فهذه الأحزاب بحاجة ليس فقط لمعالجة أزماتها فحسب، بل ولتجديد نفسها باستمرار في جميع نواحي بنيانها.

والسؤال هل يدرك السيد د. حمدوك هذا الإشكال البنيوي الذي تعاني منه الأحزاب السياسية والتي يروم بها ترميم وإصلاح وإنجاز انتقال سلس.

إن أسوأ السيناريوهات التي تواجه فترة الانتقال في بلادنا وتضعف فرص بناء المشروع الوطني وتُفتت الجهود الرئيسية لبناء تحول ديمقراطي وانتقال سلس والتي لم ينتبه لها رئيس الوزراء في مبادرته؛ هو انقسام الشارع الثوري وقواه إلى أيديولوجيات وتحزبات ضيّقة مع غياب الأجندة والأولويات؛ على سبيل المثال: فهنالك من يطالب بإسقاط الحكومة الانتقالية ومن يطالب بتصحيح مسار الثورة؛ هذا الانقسام في الرؤى والأجندات يوضح إلى أي مدى افتقاد الشارع للقيادة؛ غياب القيادة والبرنامج والرؤية يؤدي إلى تأخير الانتقال ويقلل من فرص التوافق السياسي لقيادة هذه المرحلة المفصلية من تاريخنا في محيط إقليمي ودولي متقلب  المزاج  ومتسارع .

إن التوافق السياسي يحتاج إلى بيئة سياسية واجتماعية وثقافية حاضنة، تلك التي تجعل فرص نجاحه عالية؛ حيث يرتبط التوافق بعملية بناء السلطة أو إعادة تصحيح مسارها، والسعي إلى نسج علاقات سياسية تؤدي في محصلتها إلى إدارة الدولة من خلال أكبر قدر من الإجماع السياسي والاجتماعي حولها. غير أن التوافق أيضاً يواجه بتعقيدات ومخاطر جمة خاصة في بلاد تمتلك نسيجًا اجتماعيًّا قبائليًّا ومناطقيًّا فاعلاً ومؤثرًا، مقارنة بالتركيبة السياسية والاجتماعية في دول أخرى.

إن إرث مؤسسات الدولة القديمة لا يزال موجوداً وهذا الإرث يتلخص في طبيعة التفكير داخل مؤسسات الدولة حالياً، يتجلى هذا الإرث خاصة في طبيعة العلاقات العسكرية المدنية؛ إذ أن المؤسسة العسكرية في بلادنا غارقة في السّياسة حد أذنيها منذ استقلال البلاد؛ إن ملف العلاقة بين المدنيين والعسكريين هو الأكثر تعقيداً في كل تجارب التحول في العالم، والاستثناءات تكاد تكون معدومة. ولا شك في أن هذا الملف أكثر تعقيداً في بلادنا منه في بقية العالم فالبتالي غياب روح الشراكة وانعدام الفهم الدقيق لمتطلبات الراهن سيدخل البلاد في نفق حرب ضروس، فكل من يتوهم أنه يمكن أن يواجه جيشاً غارقاً في السياسة منذ عشرات السنين دون أن تكون مكونات المجتمع داعمة له، تقف حوله وتؤيد رؤاه، فهو واهم؛ فكيف استطاع د. حمدوك أن يتحدث بكل أريحية حول المشكل العسكري والمدني وتداعياته على الانتقال وفي الآن نفسه خلت اللجنة من أي اسم يتبع للمؤسسة العسكرية؟ كيف ينجز انتقال سلس باستبعاد المؤسسات العسكرية والأمنية والتي هي جزء من الأزمة؟ وحيث الارتباط الجوهري بين إصلاح القطاع الأمني والعسكري وحل الإشكال السياسي؟ أضف لذلك أن تأثير هذه المبادرة ستظل محدودة مع وجود استقطاب وعدم تجانس بين النّخب، الأمر الذي يؤدي إلى إعادة إنتاج النظام القديم جزئياً أو كلّياً وثمة قوى مستفيدة من عودة النظام القديم بطبيعة الحال، وجزء من هذه القوى موجودة كأعضاء في الآلية الوطنية التي كوّنها .

هذا مع استبعاد كبير للمثقفين (الفاعلين) وقوى الثّورة والتركيز على قيادات الإدارة الأهلية فمعظم القائمة هي نظّار في تكرار لأسلوب النظام المُباد حول الحوار الوطني في العام 2014.

يظل تأثير الثّورة وتضحياتها الكبيرة محدوداً مالم؛ يُنجز انتقال سلس قائم على كتلة انتقالية تاريخية عبر تسوية تاريخية؛ تعيد ترتيب الأولويات والأجندة وتدفع بها كشرط موضوعي لبناء مشروع وطني متفق حوله. ومبادرة د. حمدوك لن تحقق أي رجاء ولو كان كاذباً فهي جنين ولد ميتاً سواء على مستوى الطرح وعمقه المعرفي أو آليات التنفيذ التي لم تطرح حتى وأُرجئت لأمل آخر كذوب لن يتحقق أبداً “حال الاتفاق على القضايا أعلاه يتم تكوين آلية مشتركة من كل الأطراف لمتابعة التنفيذ وتطوير الاتفاق…..”.

عادة تمتاز المرحلة الانتقالية بدرجة كبيرة من التوجس والخوف وعدم الاطمئنان للآخر المخالف في الرأي والفكر والآيديولوجيا خاصة في سياقنا السوداني هذا؛ الذي شكل مختبراً لتجريب مختلف الأطروحات الفكرية والسياسية، الشيء الذي ترك تأثيرات عميقة على النسيج السياسي المجتمعي من خلال استضمار بنية إقصائية بين مختلف القوى المجتمعية والسياسية، والتي وجدت تعبيرات عنها من خلال بنية تصورية قامت على التخوين الديني أو الوطني أو الطبقي أو القومي. ولهذا فإن مرحلة الانتقال صوب بناء وتأسيس مشروع وطني في حاجة لضوابط تكبح أي انزلاق من شأنه تشتيت الجهود وصرفها لقضايا هامشية، لا تخدم مصالح الانتقال السلس. أعني أن هنالك إشكالين: يتمثل في القيادة وضعفها وبطئها، وضبابية الرؤية وحالة الارتهان للمشاريع الآيديولوجية الحزبية الضيقة على حساب الأجندة الوطنية التي تحتاج لتنازلات.

إن القوى التي تشارك في تدبير المراحل الانتقالية في سياقنا هذا، تعاني من التنافر؛ النّاجم عن طبيعة الأنظمة السلطوية التي تسعى دائماً لتخويف القوى من بعضها البعض وزرع ثقافة الإحباط والتشظي، فهي تستخدم الاختلافات الآيديولوجية لأجل فك كل تقارب للقوى المضادة للنسق السياسي الرسمي حتى تستفرد بكل طرف على حدة، مما يخلق هشاشة لدى قوى المجتمع في مقابل صلابة النظام السياسي والتي تستمد في الغالب من أجهزة الجيش والأمن، ولهذا فإن بناء أرضية صلبة للعمل المشترك يعد مطلباً شرطياً لإنجاح أي تدبير ناجع للمراحل الانتقالية. فأي طريق وقراءة متوافقة مع الواقع سيختارها د. عبدالله حمدوك لمبادرته التي تعاني من انزلاقات في أعمدتها الفقرية.

يتبع …..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى