الرأي

مقاربـات البرنامج الحزبي وإكراهـات الحكومة الانتقالية.. حـزب الأمة القومي نموذجاً.

محمد الامين عبد النبي
شُكلت الحكومة الانتقالية الجديدة التي يغلب عليها المشاركة الحزبية بعد توافق سياسي، وفق برنامج ما تبقى من الفترة الانتقالية لمواجهة تحـديات الانتقال، وقد بـرز جـدل كيفية التوفيق ما بين البرامج الحزبية وبرنامج الحكومة وانسجام الوزارة كأهم التحديات، وفي خضـم هذا الجدل أثير تساؤل كيف ستتصرف وزيرة الخارجية الدكتورة مـريم الصـادق نائبة رئيس حزب الأمة القومي حيال موقف الحزب ضد التطبيع مع إسرائيل وموقف الحكومة الذي ذهب خطوات في اتجاه التطبيع؟ هذا الجدل في ظاهره صحي ومطلوب ولكن إذا تعمقنا في مناقشة هادئة للاشتباك بين مقاربات البرنامج الحزبي وإكراهات الحكومة خاصة حزب الأمة القومي، يلزمنا البحث عن طبيعة الحزب باعتباره حزب برنامجي ديمقراطي بلا قيود أو تحيـزات أيدلوجية، ينتهج القومية والديمقراطية والانفتاح المبصر في تحقيق غاياته وأهدافه، سيرشدنا التحليل العميق الى انتفاء أي تناقض وتضارب، فتجربة الحزب حبـلى بالمواقف المتزنة في مساحات الديمقراطية والتي قارب فيها بين مواقفه السياسية القائمة على التدخلات التكتيكية التي تتسق مع مرجعيته ورؤيته الإستراتيجية، مثل قبوله خـوض سباق انتخابات 2010 والانسحاب منها بالتنسيق مع القوى الوطنية عندما أدرك أنها تكرس للاستبداد وتفتقد لمقومات الانتخابات الحرة والنزيهة، وأيضا مقاطعة انتخابات 2015 الصورية كموقف وطني لذات المبررات التي تعطي الطغيان شرعية وفي الحالتين كأن موقفه مؤثرا بنزع غطاء الديمقراطية على الممارسة الديكتاتورية. وكذلك طرح الحزب مشروع الخلاص الوطني الذي حدد ضـرورة التغيير كهدف إستراتيجي وسائله وتكتيكاته الحوار القائم على تفكيك دولة النظام المباد لصالح دولة الوطن والثورة ذات المقاصد الواضحة وقد عمل على الخيارين باتزان حتى تحقق التغيير عن طريق ثورة ديسمبر المجيدة.
لقد تلقى الـرأي العام السوداني الاتفاق السوداني الأمريكي في نهاية عهد الإدارة الأمريكية السابقة بشيء من القلق وقراءة مضمونه كصفقة (رفع العقوبات الاقتصادية واسم السودان من قائمة الـدول الراعية للإرهاب مقابل التطبيع مع إسرائيل)، هذا الاتفاق كانت تداعياته انقسام داخل الحاضنة السياسية، فتبنى الحزب موقفا متزنا حيث رحب بتحسن العلاقة مع أمريكا ورفض التطبيع، كان حينها الحزب داعما للحكومة الانتقالية وليس جـزءا منها.
الآن بعد أن شـارك الحزب في الحكومة الانتقالية بعد التعديلات في الوثيقة الدستورية لتضمين اتفاق جوبا للسلام، والتي أكد الحزب على سعيه بالمشاركة إلى استعادة دور الأحزاب السياسية المحوري في إنجاح الفترة الانتقالية، وذلك بما يتكئ عليه الحزب من إرث وتجربة وأفق سياسي للعمل من داخل إطار النظام الانتقالي.
فما هـو موقف الحزب بعد مشاركته وتوليه ضمن الوزارات حقيبة الخارجية؟ ذهب كثيرون إلى أن هذا الموقف يمثل إحراجا للأمة القومي، فهل يضطر إلى مسايرة موقف الحكومة، ويصادم ثوابته ومرجعيته المقاصدية والوفاء لقضايا الأمة والإنسانية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ويدخل في صراع مع الحكومة وينتهي به المطاف للانسحاب منها؟
ولكن الحقيقة المجردة أن الحزب رفض خطوة التطبيع هذه في بدايتها عندما أقبل عليها رئيس مجلس السيادة كحدث فردي معزول عن المشورة والتوافق السياسي، ولكن عندما ارتبط ملف التطبيع باستحقاقات وشروط الإدارة الأمريكية لرفع العقوبات واسم السودان في قائمة الـدول الراعية للإرهاب وتحسين العلاقات الثنائية بين البلدين بما يحقق مصالح السودان، انخرط الحزب في نقاش واسع مع الحكومة والحاضنة السياسية أفضى إلى أن قرار التطبيع من عدمه شأن ينظر فيه المجلس التشريعي والقـرار الديمقراطي.
هذا الموقف تبناه رئيس الوزراء بموافقة حزب الأمة القومي وكل القوى السياسية، وهذا ما أكد عليه الحبيب الإمام الصادق المهدي طيب الله ثراه في أكثر من مناسبة، فإرجاع المسألة إلى ديناميات العمل التشريعي هـو اعتراف بنتيجة الممارسة الديمقراطية. هذا الموقف يفتح الباب واسعا أمام الحزب وهيئة شئون الأنصار – التي تتوافق معه في المرجعية الفكرية والأخلاقية – لإدارة حـوار جاد حول جـدوى التطبيع وإلى أي مدى يصادم المصلحة الوطنية، وإقناع أعضاء المجلس التشريعي (المأمول تشكيله قريبا) للعدول عن الخطوة والارتقاء إلى رغبة الأغلبية في التعامل مع هذه المسألة.
كما أشـرنا آنفا ليس هناك تناقض بين موقف الحزب من التطبيع وإكراهات الحكومة التي فُرضت عليها تفاهمات التطبيع.. فالحزب أعلن بوضوح في بياناته ترحيبه ودعمه الاتفاق السوداني الأمريكي حول قضايا رفع العقوبات الاقتصادية وشطب اسم السودان من قائمة الـدول الراعية للإرهاب مع تحفظه على ربط الاتفاق بالتطبيع، عطفا على موقف الحزب الداعم للحكومة الانتقالية حتى تكمل مهامها الدستورية وتأكيده على احترام الممارسة الديمقراطية، وبالتالي فإن تحلل الحزب من تدبيـر الحكومة، وتشبثه بموقفه المبدئي حول القضية الفلسطينية ورفض سياسة التطبيع قد يبدو ظاهريا تمايـزا بين برنامج الحزب وبرنامج الحكومة، ولكن الذي يتابع مواقف الحزب في المعارضة والحكومة يدرك أنه تمييز (ليس تمايز) ما بين العمل في الحكومة المسؤولة عن قراراتها وفق صلاحياتها الدستورية وسياستها الخارجية المعتمدة من مؤسسات الدولة التي ينفذها المسؤول الحكومي التزاما بقرارات الحكومة، وبالتأكيد الحزب لا يتحمل القرارات التي لا تصدر عنه بل يتخذ القرارات والمواقف التي يراها وينظم الفعاليات السياسية التي تعبر عنها. هذا مع الأخذ في الاعتبار أن التطبيع ضمن تقديرات الحكومة لمصلحة الدولة وحكم الضرورة فلا يقف الحزب ضد المكاسب التي قد تجنيها وفي ذات الوقت يحذر من الأضرار الناجمة ويعبر عن موقفه داخل جلسات المجلس التشريعي.
وهذا الوضع ليس غريبا إذا نظرنا إلى التجارب الماثلة بالمنطقة العربية في التوفيق ما بين مقاربات البرنامج الحزبي وإكراهات السلطة، فحزب الله اللبناني تحول مفهومه للمقاومة عدة مرات حسب موقعه في المعارضة أو الحكم، وحركة حماس الفلسطينية أقدمت على تحولات في خطاب المقاومة حسب وضعها تجلى ذلك في حملتها الانتخابية وانخراطها في الحكومة، وكذلك حزب العدالة والتنمية المغربي في موقفه المناهض للتطبيع وقبول قرارات الملك بالتفاهم مع إسرائيل رغم التباين الواسع داخله.
من نافلة القول أن البرامج الانتقالية قائمة على التوافق السياسي وفي مجملها برامج تكتيكية تخضع للتنازلات الكفيلة بحماية الفترة الانتقالية من الشطط والتطرف والاستلاب، وفي ذات الوقت وضع التدابير التي تخدم الهدف الإستراتيجي وهو بناء التوافق حول المشروع الوطني الديمقراطي، ويرجع ذلك بالأساس إلى تعقيدات وإكراهات ومثالب وعدم اليقين والأخطار التي تمر بها مراحل الانتقال عموما وتُهـدد النسيج الوطني والاجتماعي وكيفية إدارتها بحصافة لصالح الأهداف الوطنية الإستراتيجية في ظل تـوازن القوة، دون ولـوج الخط الفاصل بين الإستراتيجي والتكتيكي في فكر ومنهج الحزب والتزود برؤيته التاريخية وقدرته على التعامل مع المتغيرات والتحولات الانتقالية.
كما أن أشكال العمل الحزبي في أي مرحلة يجري الاتفاق عليها بين القوى الوطنية، وذلك بغية ضبـط إيقاع الفترة الانتقالية وبلورة رؤية مشتركة للعمل السياسي من شأنها تصـريف المشروع الوطني الديمقراطي بتوافق وانسجام.
خلاصـة القـول أن الموقف المعلن للحكومة على لسان رئيس الـوزراء هـو أن مسألة التطبيع من عدمه شأن يخص المجلس التشريعي، وأكد على ذلك رئيس مجلس السيادة، هذا الموقف يتسق تماما مع ما يطرحه حزب الأمة القومي وبقية الأحزاب الرافضة للتطبيع ومطالبة بالاعتراف بالحق الفلسطيني والالتزام بالشرعية الدولية ووقف الاستيطان وإقرار اتفاقية السلام بين الدولتين وتحجيم العدوان الإسرائيلي على دول المنطقة، بمعنى أن أي تراجع عن هذا الموقف يمثل مـأزق الحكومة الانتقالية على المستوى السيادي والتنفيذي أولا، وليس مـأزق الحزب الذي كسب الحكومة لصالح موقفه حتى اللحظة، وعند اتخاذ المجلس التشريعي قراره الديمقراطي (مـع أو ضـد) بالتأكيد فإنه قرار ملزم لكل القوى التي تؤمن بالديمقراطية وأولها حـزب الأمة القومي. (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).
\\\\\\\ع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى