مروي الجيش و”الدعم السريع”: من الحب إلى الرعب
أعفى البرهان في 2019 قوات حميدتي من الخضوع لقانون القوات المسلحة بجميع فقراته
د. عبد الله علي إبراهيم
كان يوم الأربعاء الماضي يوماً للرعب من مدينة مروي في شمال السودان، بعد أن ظلت أغرودة عذبة لأكثر من نصف قرن على شفاه السودانيين. فلم يكن قول الموسيقار العذب عبدالكريم الكابلي عنها حين عمل موظفاً بمحكمتها:
“فيك يا مروي شفت كل جديد”.
لينصرف إلى ما شهدته في ذلك اليوم من نذر الحرب بين القوات المسلحة و”الدعم السريع”. الذي رآه الكابلي كان عيوناً لحسناء أرقت منامه وخدوداً لها شوت فؤاده. أما أربعاء مروي في الأسبوع الماضي فأشفقت نذر الحرب بين القوات المسلحة و”الدعم السريع” اللائحة فيها، الناس على الوطن.
في يوم الأربعاء الماضي تحركت قوة من “الدعم السريع” من الخرطوم في طريقها إلى مروي، وانضمت لها قوة أخرى من بلدة الدبة قاصدين بلدة “فتنة”، غرب مطار مروي. وبحسب الرواية أن لـ”الدعم السريع” في “فتنة” أرضاً بمساحة 25 فداناً رغبوا في جعلها معسكراً آخر من معسكراتهم. وكان اشتراها لهم إسماعيل سليمان عمدة الهواوير ومن أنسباء محمد حمدان دقلو. والأرجح أن العمدة اشتراها لصالح “الدعم السريع”، وبمالهم. واعترضت القوات المسلحة رتل الدعم العسكري عند مدخل مروي التي بها قاعدة عسكرية بمطارها الذي يقال إنه وجدت فيه قوة من الجيش المصري. وهذه المرة هي الثانية التي تحول القوات المسلحة دون “الدعم السريع” وبناء معسكر لهم في مروي. فسبق، بحسب رواية وثيقة الصلة بالمنطقة، أن منعت القوات المسلحة بناء معسكرهم هذا في مروي في مارس 2021. وذاع وقتها عن عبدالرحيم دقلو، شقيق “حميدتي” ونائب قائد “الدعم السريع”، قوله إنه سيدخل مروي عنوة. وثارت الثائرة في وجهه. وعاد ليعتذر بقوله “مروي الكرم والشجاعة ما في زول بدخلها زندية أو بضراعه (ذراعه)”. وبالنظر إلى ما وقع من “الدعم السريع” يوم الأربعاء الماضي في مروي، لا يبدو أن دقلو الأخ ممن يمتنعون من دخول البلاد “زندية”. ومع ذلك ربما بالغ من أذاع أن وجهة “الدعم السريع” احتلال مطار مروي لطرد القوة المصرية منها، التي شاع أن مصر تكيد له وتريد إقصاءه من الميدان السياسي.
وجاء خبر مروي يوم الأربعاء الذي أرق الأمة وشوى فؤادها في بيانين للجيش وآخر لـ”الدعم السريع”. فخرج الناطق الرسمي للجيش على الملأ يدق ناقوس الخطر، في قوله حرفياً، لأن السودان في منعطف زلق. ونسب الناطق الرسمي هذا الخطر لقوات “الدعم السريع” التي تخاطر بحشد قواتها لترتكز في الخرطوم والمدن الأخرى. ومصدر الخطر أنها لم تحصل في كل ذلك على موافقة القوات المسلحة، أو مجرد التنسيق معها. وخالفت “الدعم السريع” بذلك مهام ونظام عمل قواتها متجاوزة القانون وتوجيهات لجان الأمن في المركز والولايات. وحذر الناطق الرسمي من أن استمرار “الدعم السريع” في هذه المخاطرات سيقود إلى انفراط عقد الأمن. وأكد أن الجيش يدعم “الاتفاق الإطاري” الذي جرى توقيعه بين القوى النظامية (قوات مسلحة ودعم سريع) مع “قوى الحرية والتغيير” وطائفة معها لاسترداد الحكومة الانتقالية التي أطاحها انقلاب القوتين عليها في 25 أكتوبر 2021، لعامين ثم الانتخابات. وحذر الناطق الرسمي للجيش القوى السياسية التي استبطأت خطوات الجيش لاستكمال حلقات هذا الاتفاق، ألا تزايد على مواقف القوات المسلحة.
من الجهة الأخرى، نشرت قوات “الدعم السريع” بياناً لتوضيح موقفها حيال خبر مروي. فقالت إن ما قامت به واحتج عليه الجيش هي مهام وواجبات تضطلع بها كقوات قومية، وأنها مما كفله قانونها بالتنسيق مع القوات المسلحة. فإنها إنما تنتشر لتؤدي واجباتها لتحقيق الأمن والاستقرار بوجه الاتجار بالبشر، والهجرة غير الشرعية، ومكافحة التهريب والمخدرات، والجريمة العابرة، وعصابات النهب المسلح. وتلقى هؤلاء الأشرار أينما وجدوا. فلا غرابة بالنتيجة إن وجدها الناس في مروي تقوم بواجباتها كما قامت بها في مواضع أخرى من القطر.
ضرس بيان القوات المسلحة المعلقين، فانزعج محمد محجوب هارون الأكاديمي والصحافي، لقول الناطق الرسمي إنه “يدق ناقوس الخطر”. فأثار الخواطر والمخاوف، في قوله، من موقع الافتراض فيه التحكم في الأوضاع الأمنية. فقوله بـ”احتمال انفراط عقد الأمن” مما يصدر عن “مراقب للوضع” لا قوة نظامية مسؤولة لا عن الدفاع عن المواطنين فحسب، بل بث الطمأنينة في نفوسهم في الموقف العصيب أيضاً. والتمس من الجيش أن يتفتق عن قدرات قيادية أفضل مما أظهر ببيانه. وعلق آخر أن بيان الجيش غريب في أطواره. فهي ربما المرة الأولى للجيش يعلن عن وقوع تمرد في صفوفه لا عن القضاء المبرم عليه. أما قول الناطق الرسمي للجيش إن مثل مخاطرات “الدعم السريع” بتحريك قواته جزافاً مما “سيقود إلى مزيد من الانقسامات والتوترات”، فمما يصح قوله حيال حزب سياسي، لا عن جيش ثانٍ مسلح حتى أسنانه. وبدا البيان مما يقوله السودانيون في تقطع السبل أمام أحدهم، فيقولون إن فلاناً “يدي النقارة عصا ويدي الحلة (القرية) عيطة”. فلا يكاد يسع فلان هذا الوقت للتبليغ عن مصيبته فيشفع دق الطبل بالعصي باستصراخ القرية معاً وفي الوقت نفسه.
أما بيان “الدعم السريع”، من الجانب الآخر، فكان لئيماً في معنى أنه لم يعبأ بقول الجيش إنه خرق قانوناً بتحريك قواته جهة مروي، أو أي جهة أخرى. فقال، كمن يقرر بجفاء حقيقة يستغرب أنها غير معلومة للجيش (matter of fact)، إن “الدعم السريع” قوة نظامية تضطلع بواجبات عليها أحصتها وكفلها القانون وبتنسيق مع القوات المسلحة. ولا يرى “الدعم السريع” سبباً لانزعاج الجيش من وجوده في مروي في حين لم ينزعج لوجوده في مواضع لها أخرى معلومة يحارب الاتجار بالبشر والنهب المسلح وتهريب المخدرات، إلخ. ولن يجد قارئ قانون “الدعم السريع” المجاز في المجلس الوطني لنظام الإنقاذ عام 2017 ما يختلف فيه مع بيان “الدعم السريع”. فـ”الدعم” بحسب القانون “قوات عسكرية قومية التكوين تهدف لإعلاء الولاء لله والوطن” (المادة 7). وتتبع وزارة الدفاع، ولكن تحت “إمرة” القائد الأعلى للجيش، رئيس الجمهورية، الذي وحده هو من يعين قائدها (المادة 10).
ولم يعد هذا القائد، رئيس الجمهورية، فينا بعد الثورة. ولم يحل أحد بدلاً عنه بعد. ولا تخضع “الدعم السريع” لقانون القوات المسلحة لعام 2007، ولا تكون تحت إمرتها إلا في حالات الطوارئ، أو عند الحرب بمناطق العمليات (المادة 5). ولرئيس الجمهورية وحده أن يدمجها مع القوات المسلحة و”تخضع حينئذٍ لأحكام قانون القوات المسحة لعام 2007″ (المادة 5). وقال القانون صريحاً إن مال “الدعم السريع” حرام على الدولة “فلا يجوز توقيع الحجز القضائي على الأصول الثابتة والمنقولة الخاصة بالدعم السريع” (المادة 23).
وكأن هذا الاستقلال الكبير لـ”الدعم السريع” عن القوات المسلحة ما كفاه. فإذا بالفريق عبدالفتاح البرهان يزايد عليه خلال فترة رئاسته للمجلس العسكري في 30 يوليو (تموز) 2019 بعد فض اعتصام القيادة الدموي في 3 يونيو (حزيران) من السنة نفسها، فصدر عنه مرسوم دستوري رقم 34 ألغى المادة (5) من قانون “الدعم السريع” لعام 2017، وأعفى “الدعم السريع” من الخضوع لقانون القوات المسلحة بجميع فقراته. فبنتيجة هذا التعديل لم تعد “الدعم السريع” تخضع لقانون القوات المسلحة حتى في حالات الطوارئ أو عند الحرب. علاوة على تحصينه من الدمج مع القوات المسلحة والخضوع لقانونها. وكانت صلاحية الدمج في قانون 2017 للقائد الأعلى ورئيس الجمهورية. وهكذا تنازل البرهان ومجلسه العسكري، بافتراض حلولهما محل القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئاسة الجمهورية، عن سلطتهما دمج “الدعم السريع” ضمن القوات المسلحة طوعاً في حين تلح عليه الآن وتشترط حصوله خلال عامين. ولا بد أن هذا الترتيب كان بمثابة مكافأة لقوات “الدعم السريع” لدورها المرموق في فض اعتصام القيادة، وحماية لها من الألسن التي حملتها مسؤولية ذلك الفض العنيف، أو اغتابتها به.
لا خفاء هنا أنه لا أساس لحجة القوات المسلحة عن خروج “الدعم” على قانونها. ربما صلح هذا الزعم كذريعة. ومن الصعب، والوضع على ما عليه من خلو العلاقة بين القوتين المسلحتين الأعظم و”المتحامرتين” من قانون حاكم، التفاؤل أن هذا “التحامر” لن ينفجر حرباً في يوم قريب. وتستدعي السلامة من مثل هذا الوضع بين قوتين مسلحتين تدخلاً مدنياً ذكياً على خلاف ما تعتقد القوات المسلحة وكثير من خصوم قوى الحرية والتغيير. فهما على عقيدة وجوب ابتعاد المدنيين بالمرة عن الخوض في أمر الإصلاح العسكري والأمني. وبالطبع لن يكون هذا التدخل من مثل توزع المدنيين مصطفين مع هذه القوة أو تلك، كما هو حاصل منذ ذاع خبر المواجهة في مروي. هو بالأحرى تدخل يضع لهما من موقع الاستقلال والإرادة قواعد اللعبة التي بلا قواعد الآن، في ما ستكون عليه علاقتهما في سودان جديد صار فيه الحكم المدني حقيقة لا تقاوم كعودة الجيش بدعمه السريع إلى الثكنات. ودون هذا الدور يتحول المدنيون إلى الوساطة بين القوتين المسلحتين، وهو النشاط القائم على قدم وساق منذ يوم الأربعاء. وليس هذا غير مجدٍ فحسب، بل إنه خمول.
رأينا من مروي “كل جديد” في عشق البنات والأرض صدح به الموسيقار عبدالكريم الكابلي منذ الخمسينيات الأخيرة. ونتفاءل بأن يكون جديدها الشديد المؤرق اليوم باباً يفضي من الهول إلى عشق جديد للبنات والرجال والوطن.
*نقلا عن اندبندنت عربية