مرجعية مشتركة واختلاف في الرؤية والأهداف ……….. بقلم : عبدالإله بلقزيز
عبدالإله بلقزيز ……
إذا دقّقنا اليوم في الفارق بين إشكالية الحركة الاصلاحية الاسلامية، منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وإشكالية الحركة الإحيائية الإسلامية، منذ ثلاثينيات القرن العشرين، لتبيّن لنا أنه فارق نوعي لا درجي، أي فارق في نوع الإشكالية وطبيعتها. اشكالية الاصلاحية يختصرها السؤال الفكري المركزي الثاوي في خطابات مفكريها كافة:alt
كيف تتقدم؟ أما إشكالية الاحيائية، فيختصرها سؤال شيوخها ومرشديها ودعاتها: كيف نحمي الهوية؟ ولكل من السؤالين طبيعة خاصة، بالمعنى الأرسطي، ويقود الفكر الى نمط مختلف من التقدير والحكم والاستنتاج والرؤية.
من المفيد أن ننتبه ابتداء الى أن سؤال التقدم يضع صاحبه في موقع الباحث عن طريق الى الانتماء الى عصر سِمَته التقدم. وهو، لذلك، سؤال حركي، آفاقي، مستقبلي (أو تطلّعي نحو المستقبل). ويختلف الأمر في حالة سؤال الهوية، فهذا سؤال دفاعي، نكوصي، وتراجعي لأن مداره على ممانعة ما يجري حوله من تحولات عاصفة. وموطن المفارقة، هنا، أن الفريقين يفكران في سؤالَيهما من داخل مرجعية مشتركة هي الاسلام، ولكن مع اختلاف شديد في الرؤية والأهداف، ففيما دعت الاصلاحية الى اقتحام العصر والتاريخ والانتساب الى حركته وايقاعه باسم الاسلام، دعت الاحيائية الى الانسحاب منه واللوذ بالماضي والتشرنق على الذات بذريعة صونها من التبدد والمسخ باسم الاسلام أيضاً! والفارق بين الموقفين فارق بين خيارين في الحياة والاجتماع الاسلامي، وبين نظرتين الى الحاضر والمستقبل، ثم بين فهمين مختلفين للدين.
وشأن كل سؤال اشكالي يحدد نطاق موارد الجواب عنه، يختلف السؤالان في تعيين مواردهما. عند الاصلاحية، لا سبيل الى التقدم إلا توسل الأدوات عينها التي توسلها من حققوا التقدم، وهم الأوروبيون. واذا كان في تعاليم الدين، وفي تراث الاسلام الفكري والسياسي، ما يسعف قصد السعي في تحقيق هذا الهدف، فليس فيه ما يمنع المسلمين اليوم (في القرن التاسع عشر) من استعارة تلك الأسباب من غيرهم من الأمم الأخرى وإن لم تشاركهم في الدين. أما عند الاحيائية، فلا سبيل الى حفظ هوية الأمة من الخطر إلا بالانفصال الكامل عن مصدر ذلك الخطر، وهو المدنية الأوروبية وقيمها. ولا إمكان لتحقيق ذلك الانفصال الا بالعودة الى “الأصول” والماضي والموروث، والتمسك بها، والاعتصام بحقائقها دفعاً لمكاره العصر..، وتوكيداً للذات المسلِمة و”أصالتها”. لا يكون التقدم، في خطاب الاصلاحية، الا متى أمكن للمسلمين أن يقيموا الدولة الوطنية الحديثة: دولة العدل والحريات والدستور، وأن يجتهدوا في فهم تعاليم دينهم فلا يضعوها حجاباً بينهم والتطور ونواميس الحياة..الخ. ولا يكون صون الهوية، في خطاب الإحيائية، الا متى أمكن اقامة “الدولة الاسلامية” وتطبيق الشريعة، ومتى حوفظ على تراث الاسلام من التأويل الذاهب بالمسلمين الى فرقة وشقاق وصير الى اليقين بأن تعاليم الاسلام صالحة لكل زمان ومكان وأن المسلمين في غناء في أمور دنياهم عن غيرهم من الأمم…
نحن، إذن، أمام مقالتين تقفان من فكرة المستقبل على طرفي نقيض، وكل منهما الى الاسلام يحيل ومنه ينهل. وقد يثير الاشتراك بينهما في المرجعية (الاسلامية) سؤالاً عن الأسباب التي تدفع الى حالة من الاختلاف في النتائج على الرغم من تشابه المقدمات. والحق أن وحدة المقدمات (المرجعية الاسلامية المشتركة) ليست أكثر من وحدة في المبدأ الديني، لكنها ليست من النوع الذي تتولد منه وحدة في منطلقات التفكير وفي الاشكالية ومنظومة المفاهيم، انها تشبه الوحدة العامة التي جمعت بين المعتزلة والأشاعرة ولم تمنع من الاختلاف الجذري بينهما في أصول الدين (علم الكلام)، أو التي جمعت بين الحنفية والحنابلة ولم تمنع من الاختلاف بينهما في أصول الفقه، أو التي جمعت بين الفقهاء والفلاسفة فما منعت خلافاً بينهما في النظر الى موقعية العقل من الدين، أو بين السنة والشيعة وما منعت خلافاً بينهما في مسألة الامامة ولمن تكون وكيف تكون…الخ. وعليه، لا مناص من التدقيق في معنى المرجعية، بإخراجه من الحيّز العقدي الى الحيز الفكري.
في وسعنا أن نسوق دليلاً ثانياً على أن وحدة المرجعية الدينية (=الاسلام) لا تقود، حكماً، الى وحدة الأهداف والوسائل. مر معنا أن الأهداف مختلفة عند الحركتين الاصلاحية والاحيائية (الدولة الوطنية والأمة مصدر السلطة فيها في مقابل الدولة الاسلامية القائمة على مبدأ تطبيق الشريعة). غير أن ما هو أبعد في الاختلاف والتباين بين الحركتين انما هو تصور الوسائل المعتمدة لبلوغ تلك الأهداف؛ إذ هو هنا يتجاوز كونه اختلافاً وتبايناً ليصبح تعارضاً تاماً بين نهجين.
وسائل الاصلاحية تنوعت من التأليف الفكري، الى اصدار المجلات والصحف ونشر مقالات تثقيفية فيها، الى صوغ مشاريع للاصلاح السياسي والاداري والتعليمي وتقديمها للنخب السياسية الحاكمة. وبالجملة، ظل رهانها مستمراً على نشر الوعي الجديد عبر التأليف والمدرسة والصحافة لترقية الفكر وتأهليه، وعلى النضال الديمقراطي لتمكين المجتمع من الحريات والمؤسسات التي توفر له أسباب المشاركة السياسية في صنع مصيره واصلاح أحواله. أما وسائل الاحيائية، فاختلفت. واذا ما استثنينا سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، حيث كان حسن البنا ميالاً الى العمل السياسي السلمي: معترفاً بالدستور ومشاركاً في الحياة الانتخابية، فإن الجيل الثاني من الاحيائية نحا منحى مختلفاً في النهج والوسائل، فلجأ الى العنف في العمل السياسي بعد أن اسبغ عليه المشروعية الدينية بوصفه اياها “جهاداً” ضد “الجاهلية” الجديدة وسبيلاً الى انفاذ شرع الله في الأرض. وحين عادت الحركات الاسلامية الى العمل السياسي السلمي، والى أسلوب المشاركة في الانتخابات، خاصة بدءاً من سنوات الثمانينيات من القرن العشرين، كان مارد العنف قد أفلت من رصده في القمقم وطفق يهدر في ارواح الناس واستقرار الوطن وسلمه المدني، وباتت السياسة تقترن في وعي الأجيال الجديدة من “الصحوة الاسلامية” بالسلاح والقتال.
ما أغنانا عن القول ان هذا التباين الشديد في النهج والوسائل بين الحركتين يرتد الى جملة أسباب تاريخية واجتماعية وثقافية. فاللحظة التاريخية التي وُلدت فيها الفكرة الاصلاحية وتطورت، بين ثلاثينيات القرن التاسع عشر وستينيات القرن العشرين، هي غير اللحظة التي في رحمها نشأت الفكرة الاحيائية وتطورت: الأولى لحظة بناء الدولة الوطنية، والثانية لحظة أزمتها وإخفاق مشروعها. والحوامل الاجتماعية للفكرتين والحركتين مختلفة؛ ارتبطت الاصلاحية بصعود الطبقة الوسطى وانتشار ثقافتها الحديثة في المجتمع، فيما اقترنت الاحيائية بانهيار مركز هذه الطبقة في النظام الاجتماعي وتنامي واتساع نطاق فئات اجتماعية هامشية ومسحوقة ولّدها التطور الرأسمالي المشوّه الذي دمّر الزراعة والانتاج وقذف بالقوى المنتجة الى العطالة وأحزمة البؤس. على أن عاملاً ثالثاً، لا يقل أهمية عن عاملي اللحظة التاريخية والبيئة الاجتماعية، لا ينبغي تجاهله في هذا المعرض هو الفارق بين الخطابين والفكرتين: كانت الاصلاحية الاسلامية حركة فكرية في المقام الأول، وإن خرجت من جوفها الحركات الوطنية، فيما ظلت الاحيائية حركة سياسية حزبية، في المنشأ والتطور، وافتقرت الى التأصيل النظري لدعوتها. من الطبيعي، إذن، أن تكون النظرة الى وسائل العمل مختلفة بين عالم الدين أو المفكر وبين الداعية والمناضل الحزبي… والمقاتل.
من البيّن، إذن، أن مسألة المرجعية “المشتركة” ليست بالبساطة التي يوحي بها بعض المتحدثين عنها؛ فالاسلام مرجعية دينية للأمة كافة، بتياراتها المختلفة. لكن الاسلام عقيدة وليس فكرة سياسية يجتمع عليها الجميع فيكون مرجعية واحدة للناس كافة. ولو كان كذلك، لما حصل بين المسلمين، على امتداد تاريخهم، كل ذلك التراث من الانقسامات والفرق والفتن والحروب الأهلية. وعليه، على التفكير في مرجعية الاصلاحية ومرجعية الاحيائية أن يسلك سبيلاً آخر غير سبيل الدين. وتلك مسألة اخرى ليس هنا مجال التفصيل فيها.