الرأي

مداهمة عاطفية خاسرة

يحيى فضل الله

  كنت أتحسس دواخلي في ذلك المساء علني أعرف مصدر ضجري وضيقي، ربما لأن خطتي لاقتحام (عفاف) في تلك الظهيرة في كافتريا (القولدن قيت) قد فشلت وربما لأني تراجعت عن تلك الخطة التي كلفتني الكثيف من السهر والطشاشات وخربشة الذاكرة مستحضرا ومستحلبا منها أي لحظة جمعتني ب(عفاف) ، كنت قد أصبت بها تماما وقررت أن أقتحمها معلنا انتمائي إليها فكان أن جهزت مداخلي إليها متوهما بعض الشيء أنها قد تبادلني الانتماء وستخصني بما أخصها به، كنت قد وصلت إلى مباني (كلية الفنون الجميلة) فقد كانت (عفاف) تدرس التلوين هناك، لم أجدها هناك وقالت لي النحاتة (غادة) صديقتها إنها قد ذهبت لتوها إلى كافتريا (القولدن قيت) فواقعت خطواتي الشارع المزدحم بالطلبة والطالبات متجها إلى (القولدن قيت) وقد كنت أحس بارتباك طفيف استعنت عليه بسيجارة برنجي وحيدة كانت قد تبللت بعض الشيء بعرق تسرب إلى جيبي حيث كانت تقبع هناك، وصلت إلى (القولدن قيت) قبل أن أكمل سيجارتي، رأيتها تجلس هناك في الركن الأيمن من الكافتريا ومعها شاب لم أتبين ملامحه لأنه كان يجلس بحيث أرى منه ظهره، اقتربت من مجلسهما. كنت أحس أنني مندفع إليها نوعا ما وما أن اقتربت منها وعرفت من يجالسها أحسست بأن اندفاعي العاطفي نحوها قد بدأ في التلاشي فقد كانت (عفاف) تجالس (عبد البصير)، (عبد البصير البصاص) أو المخبر كما يحلو لصديقي الكاتب القصصي أن يعرفه بهذه الصفة فقد كان (عبد البصير) فعلا مخبرا من نوع خاص فقد جاء إلى وسط الكتاب والفنانين منفلتا من نفس المجالات وقد قيل إنه تنقل في حياته الطلابية من حزب إلى حزب آخر، في بدايته كان ناشطا في الجبهة الديمقراطية ومن ثم انتقل إلى حزب البعث العربي ولاذ أيضا بتنظيمات سياسية إسلامية مختلفة تحول منها إلى وجودية متباهية بلا مبالاة سياسية وترك كل ذلك لينضم إلى تنظيم المستقلين وتمادى في تنقله حد الانضمام إلى تنظيم المحايدين، كان خبر (عبد البصير) قد شاع لأنه حاول أن يستميل كاتبا ناشئا ويحوله إلى مخبر فتملص منه ذلك الكاتب الناشئ بأسلوب يضمن له عدم الأذية و لكن الكاتب الناشئ كان قد سرب إلى بعض أصدقائه من الكتاب والفنانين ماحدث له مع المخبر (عبد البصير البصاص)، كني (عبد البصير) بـ(البصاص) بمرجعية تخص رواية الكاتب المصري جمال الغيطانيالزيني بركاتولقب بالـ(مخبر) بمرجعية قصيدة الشاعر العراقي بدر شاكر السيابالمخبرفكان أن جمع بين المخبر والبصاص فصار في وسط الكتاب والفنانين ينادى اسمه مهموسا – (المخبر عبد البصير البصاص) –، المهم والأقسى في الأمر بالنسبة لي هو أنني تركت أمر مهاجمتي العاطفية لـ(عفاف) واكتفيت بأن أسلم عليها وعلى (المخبر عبد البصير البصاص) وخرجت فورا من (القولدن قيت) وأنا أحمل في كفي أثر لمسات كفها الندية أو هكذا توهمت، خرجت من (القولدن قيت) إلى كافتريا (الكليات التكنولوجية) وأنا مثقل بخيبتي وحسرتي غير المبررة في كوني قد تركتها للمخبر البصاص.

   تسرب خبر (المخبر عبد البصير البصاص) وسط الحضور اليومي المتنوع من كتاب وفنانين بدار اتحاد الكتاب السودانيين بالمقرن، وضربت حوله مراقبة دقيقة وفاحصة وقد أصبح بالنسبة للحضور نوعا من التسلية والاستمتاع بعلائق درامية تذهب حد العبث، كان الحضور يراقب مداهماته للمجالس المختلفة داخل الدار وكيف أنه كان حريصا على تحويل الونسات إلى موضوعات سياسية، الحادة والملتهبة ومحاولته جرجرة النقاش بحيث يكون هو في موقف المعارض الحاد للنظام الحاكم وبالرغم من ذلك إلا أنه كان يحظى بنوع من الارتباك من قبل بعض الكتاب الذين ورثوا ذلك الوسواس القهري تجاه رجال الأمن بحكم التجارب السابقة التي تعرضوا لها وهم في فعاليات تنظيماتهم السياسية فمنهم من يلوذ بالهروب من المجلس حين يقتحمه المخبر عبد البصير البصاص ومنهم من يغير موضوع النقاش إلى موضوع آخر حالما يصل (المخبر البصاص) إلى مجلسه وحرصا على أن لا يتعرض أي من الحضور إلى مداهمات (المخبر عبد البصير البصاص) وهو غافل عنه فقد حرص الجميع على أن يعرف كل فرد حالة كون (عبد البصير) مخبرا وبصاصا وقد كان ولكن كان هنالك شخص واحد حرص الجميع على أن لا يعرف بأمر (المخبر عبد البصير البصاص) ، كان ذلك الشخص هو (الأستاذ الصحفي الكبير) والذي عاد إلى السودان من مهاجر ومنافي عديدة مستبشرا بانتفاضة أبريل 1985، كان (الأستاذ الصحفي الكبير) خارجا تماما عن دراما مراقبة الجميع لسلوك (المخبر البصاص) بينهم وكان ذلك التجهيل مقصودا حتى يتسني للجميع الاستمتاع بهذه المراقبة الدرامية وذلك لأن (الأستاذ الصحفي الكبير) كانت به حدة واضحة وميل غريزي للمواجهة لذلك حرص الجميع أن لا يعرف (الأستاذ الصحفي الكبير) بأمر (المخبر عبد البصير البصاص) حتى يضمن الجميع لذة مراقبة (المخبر البصاص) وهو يتجول بين الموائد والشلل المتناثرة هنا وهناك ويتداخل في نسيج ونسات وحكايات غالبا في حضوره ما تصاب بالطشيش وقد تذهب بعيدا نحو التجريد.

  في ذلك المساء خرجت مرهقا من كافتريا (الكليات التكنولوجية) وكنت أنوي أن أسترخي بالتمدد اليقظ في إحدى مكاتب (دار اتحاد الكتاب السودانيين) بالمقرن منتظرا قدوم بداية الليل بالأصدقاء المختلفين، كنت مرهقا ومثقلا بخيبتي العاطفية وأمر تنازلي عن فكرة اقتحام (عفاف) وخربشة عواطفها علني أستميلها إلى عوالمي، كنت أتوقع حين أصل إلى دار الاتحاد أن أجده خاليا من الرواد لأن المساء لا زال مبكرا ولكني فوجئت بـ(الأستاذ الصحفي الكبير) وهو يجالس بإلفة حميمة (المخبر عبد البصير البصاص) فابتسمت دواخلي لهذه المفارقة الدرامية الحادة التفاصيل، فما كان مني إلا أن أنضم إلى مجلسهما، كان (الأستاذ الصحفي الكبير) يحادث (المخبر عبد البصير البصاص) عن عوالم الستينات، الفترة المفضلة والخصبة في ذاكرة (الأستاذ الصحفي الكبير) وحين تحركت نحو البوفيه لأشرب كوبا من الماء البارد كان (الأستاذ الصحفي الكبير) قد أشعل سيجارته وهو يتلذذ بذكرياته الستينية وحين رجعت من البوفيه وجدت أن (المخبر عبد البصير البصاص) قد مارس خبرته في تحويل موضوع الونسة، فقد كان (الأستاذ الصحفي الكبير) يقدم نصائحه المفيدة والمستمدة من تجربته الطويلة في تضليل رجال الأمن.

) شوف يا عبد البصير يا ابني أهم حاجة إنك لما تطلع من أي حتة وماشي لأي مكان لازم تعمل ألف حساب لأنو احتمال كبير إنك تكون متابع).

وألاحظ أنا بريق عيون (المخبر عبد البصير البصاص) وألاحظ أيضا كيفية تخلصه السريع من بريق العيون وهو يحاول أن يخفي ذلك الانتماء المدسوس وهو يقول:

)فعلا الواحد لازم يعمل حسابو(.

ولا أملك أنا إلا أن أكتم ضحكة صاخبة في الدواخل و (الأستاذ الصحفي الكبير) يعلن وصاياه الحميمة.

)لو ركبت تاكسي أو أتوستوب أو حتى مواصلات عامة أوعك تنزل في المحطة الانت ماشي عليها، لازم تنزل قبلها بي محطة أو محطتين ).

وتبرق من عيون (المخبر عبد البصير البصاص) لمحة توحي بالهم وهو يقول

)بس دي عملية متعبة(.

وأنا أكتم ضحكتي الصاخبة في الدواخل و (الأستاذ الصحفي الكبير) مستمرا في طرح وصاياه بصوته المميز والجهير.

)متعبة إيه يا ابني، المتعب إنك تتعكش في أي لحظة، المهم بقول ليك ما تنزل في محطتك وبعد داك ما تمشي دوغري على المكان الإنت قاصدو، لازم تختار شارع أبعد من الحته الإنت قاصدا، تدخل في زقاق وتمرق بي زقاق تاني وبعد داك تعال للحته الإنت قاصدا ما بالطريق المعروف وبعدين تعمل حسابك ما تتلفت وراءك، لازم تكون حركتك تلقائية(.

وتستمر وصايا (الأستاذ الصحفي الكبير) للـ(مخبر عبد البصير البصاص) وأهرب أنا بضحكتي تلك المكتومة في الدواخل، أهرب بها إلى الحمام وأقفل الباب خلفي وأنفجر ضاحكا وأتماسك وأخرج من الحمام وأعود لأجد (الأستاذ الصحفي الكبير) وقد تمادى في وصاياه حد أن يحكي حكايات وقصص عن كيفية أساليب التخفي وتضليل رجال الأمن وأهرب بضحكتي المكتومة في الدواخل وأفرغها هذه المرة في زقاق خلف البوفيه وأعود وأجد الوصايا مستمرة وأستمر أنا في الهروب بضحكتي إلى مكان خفي حتى أفجرها وهكذا يوصي (الأستاذ الصحفي الكبير) (المخبر عبد البصير البصاص) ويمده بنصائح غاليات وأنا أهرب بضحكتي المكتومة في الدواخل وقد لاحظت أن هنالك نظرة معينة تحاول أن تخفي مهام (المخبر البصاص) السرية، هي نظرة ماكرة البراءة وكنت قد أفرغت الكثير من الضحكات المكتومة في الدواخل في ذلك المساء قبل أن يحتشد الدار بالرواد.

 

   أقل من شهر كانت قد راودتني مجددا فكرة اقتحام ومداهمة (عفاف) عاطفيا وكنت قد قررت أن أبدأ خطتي لهذه المداهمة في ظهيرة الغد ولكني حين وصلت فيما بعد الثامنة مساء إلى (دار اتحاد الكتاب) وجدت (عفاف) تجالس عددا من الكتاب والتشكيليين فقررت اقتحامها ومداهمتها في هذا الليل المتباهي بنسمة خريفية تحرض على البوح فكان أن جلست بقربها وحين كانت (عفاف) تتحدث بصوتها الرنان عن علاقة زراعة النفايات وظاهرة انتشار السرطان نظرت إلى عينيها بنوايا العشق والوجد فكان أن وجدت في عينيها تلك النظرة الماكرة البراءة التي كانت في عيون (المخبر عبد البصير البصاص) فاقتلعت نفسي المنهزمة من ذلك المجلس وحملت خيبتي العاطفية واتجهت راجلا إلى أمدرمان.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى