مخدة مجوك الخشبية
(( شريعه زي دا
اصلو ما معقول
يا تنوم ساكت
ولا تاكل فول ))
ويصمت \”مجوك\” فترة هي اشبه بالسكتة داخل مقام موسيقى وحين يعود \”مجوك\” إلى حالة غنائه المنتشي ويرفع عقيرته بالغناء ويتراقص على طريقته الخاصة
(( كلام طواري
والله امرو غريب
يا تنوم بدري
ولا تركب جيب ))
عادة ما كان \”مجوك\” يمر بنا ونحن نتحلق حول عامود النور وفي هذه الايام دائما ما يكون عامود النور بدون نور، يمر \”مجوك\” عائدا من قيلولته هناك في (المسح) بعد (سوق ام دفسو) في (الحارة خمستاشر)، يمر بنا \”مجوك\” وهو في طريقه إلى الفرن كي يتولى مهام ورديته الليلية تلك التي يقضيها امام فوهة الفرن الملتهبة وهو يدخل او يخرج الصواني، كنا نعرف ميعاد عودته تلك وننتظرها وعادة ما كان صوت غنائه يختلط بصوت أذان جامع (الحارة الرابعة) واذكر ان \”حمدين\” دخل مرة في رهان مع \”ازهري\” حول ذلك الخلط بين الصوتين، صوت الاذان وصوت\” مجوك\” وكسب \”ازهري\” الرهان لانه راهن على الميعاد المحدد لعودة \”مجوك \” الغنائية، فهي عودة دائما في زمن أذان العشاء ولكنها عودة تتنوع فيها اصوات \”مجوك\” المترنمة بعدة ألسن فمرة يغني بلغته الدينكا ويحاول ان يغني اغنية ـ شايل المنقا ـ للبلابل بعربية فيها شيء من لطافة عربي جوبا واحيانا يكتفي برقص صاخب على طول شارع عودته وذلك حين يعود من قيلولته لا ليعمل بل لينثر نشوته في تفاصيل ليل شارع (الجميعاب) وخاصة مع رواد كافتيريا (الشرق الاوسط) ويكون ذلك دائما في ايام الخميس حيث يستغرق \”مجوك\” في الاستمتاع بعطلته الاسبوعية ولا ينسى \” مجوك\” في ذلك المساء ان يخصنا بعشرة ونسة ممتعة قبل ان ينسرب إلى تفاصيل مرتبة لاحقة تخص جولاته قبل النوم.
كان \”مجوك\” ينام في الفرن بعد ان يقلب طاولة الرغيف محولاً إياها إلى سرير بعد ان يفرش عليها الكراتين ومن ثم بطانية عليها خطوط حمراء، هكذا كل يوم ما عدى ليلة الخميس حيث مسموح له بالنوم على عنقريب (حاج سعد) الذي عادة ما كان ينام عليه (أب شاخوره) زميله في الوظيفة الذي يفضل ان يعمل ليلة الخميس كي يقضي ليلة الجمعة مع أسرته بالكاملين.
(( سوقني بعجله
نمشي كمبو
نساهر الليل ))
كانت المخدة التي يضع عليها رأسه حين ينام ومن ثم يسند همومه عليها، مخدة من خشب واضح عليه شغل اليد، وهي جذع منحوت على شكل مثلثين بدون قواعد لأن القاعدة هي الأرض ويربط بين المثلثين عامود خشبي مصقول وهنا على هذا العامود يمكن ل \”مجوك\” ان يسند رأسه، وكانت المخدة من خشب براق يخلط بين البني والاصفر ولا يستطيع \”مجوك\” ان ينام الا حين يسند رأسه على هذه المخدة التي هي اشبه بالككر وقبل ان يقلب الطاولة كان لابد ل \”مجوك \” من وضع يده على تلك المخدة اولاً، لذلك هي دائما ما تكون معه اينما يكون، يضعها في ركن داخل الفرن حين يعمل واحيانا يحولها إلى مقعد ودائما ما يشاهد \”مجوك \” في حالة جلوسه على مخدته امام (ست النفر) بائعة (ام فتفت) والصباح يخلط نهاياته مع بداية ظهيرة كل جمعة وكأنه يجلس على عرش وفعلا لجلسته تلك وضع مميز من حيث انه جالس على شاهق و(فايت الناس مسافة) و ل\”مجوك\” طول مميز ويمشي كسهم وانه دائما ما يجلس وكأنه ينظر للناس من فوق لا على طريقة السياسيين التكنوقراط ولكن على طريقة \”مجوك\”.
(( جوبا بعيده
نمشي كمبو
نساهر الليل
جوبا بلدنا
نمشي كمبو
نساهر الليل ))
كان \”مجوك \” يدخل منطقة نومه وهو يذهب إليها متسلحا بهذه الاهزوجة التي حرضته على إقامة احتفالية صاخبة وراقصة لجمهور كافتيريا الشرق الاوسط بشارع (الجميعاب) وكان ذلك في مساء مبكر، طبعا يوم الخميس، في تفاصيل حياد العصر اشهر\”مجوك\” رقصته وهو يغني
(( سوقني بعجله
نمشي كمبو
نساهر الليل ))
وكان ان فقد ذلك العصر حياده وأكتظت الكافتيريا بالجمهور وقيل إن \”الشيخ ودتندلتي \” قد شطب (الخشاف) المتبقي من تحلية وجبة الغداء وقيل ان رواد الكافتيريا قد تعشوا مبكرا هذا المساء ورقص \”مجوك\” رقصته وذهب.
حمل \”مجوك\” رقصته وذهب مترنما بإغنيته إلى درجة الصخب وهو يحمل مخدته الخشبية متجها إلى الفرن ولم نترك \”مجوك\” يذهب هكذا دون رفقة فرافقناه ولكن دون جدوى في ان يحكي لنا إحدى حكاياته الغريبة وتجربته مع حركة (الانانيا) لأنه كان هناك بعيدا حيث تخلى عن ترنمه ودخل في رقص طقسي حيث اصوات الطبول تحتشد في دواخله وكان وحده هو الذي يسمعها.
جاء \”مجوك\” إلى (الخرطوم) بعد ان سلم سلاحه بموجب إتفاقية (اديس اببا) ولم تفارقه مخدته الخشبية مطلقا، كان يسند عليها سنواته الأكثر من الخمسين، لم نستطع ان نخرجه من تلك الحالة الراقصة التي سكنته وكان يرقص وهو يجهز عنقريب \”الحاج سعد\” ـ عنقريب الخميس ـ ولم ينس ان يضع مخدته الخشبية في إتجاه مرقده على العنقريب وكان شعاع من القمر قد غمر وجهه وهو يسند رأسه ويذهب إلى النوم ومعه اغنية (دينكاوية) شجية خافتة ومتلاشية.
في نومه يستدعي \”مجوك\” عوالم قديمة ويخلط في احلامه بين الأماكن، فها هي (الملكية جوبا) تتبرج في احلامه ويخلط في الرؤى البعيدة بين لهب الفرن ولهب تلك النيران التي تمد ألسنتها الحمراء إلى درجة الاصفرار في ليل معطر برائحة حريق روث البقر وللروائح براح من الخلط والاشتباكات في احلام \”مجوك\”، يخلط رائحة الرغيف الخارج توا من الفرن ومذاق لبن يأتي بكل روائح (المراح) ومن ثم تأتي تفاصيل (المراح) والتي قد تتحول إلى المطاعم التي في (الموردة). ومع كل هذا الذي تتباهى به ذاكرة \” مجوك \” تدخل شخوص في احلامه، تظهر وتتلاشى وتسرب معها التحريض على إتخاذ موقف اخلاقي تجاهها، تجاه شخوص احلام \”مجوك\”، قد يلجأ إلى ذاكرة محارب قديم فيقتل اعدائه الذين لاحظ \”مجوك\” حين تذكر لمحة من ذلك الحلم، لاحظ انهم في تزايد مستمر ولاحظ ايضا ان الاعداء لا يموتون حتى في الاحلام وعادة ما يحاول \”مجوك\” ان يهرب من الاحلام التي تنبع من ذاكرة الحرب ول\”مجوك\” ايضا احلام جميلة فيها تفاصيل الطفولة والصبا وفيها ذلك العبور الاحتفالي إلى مرحلة الرجولة، فيها رائحة المنقا والباباي ولو تلصصت على \”مجوك\” وهو يدخل نومته الصباحية حتما ستسمعه يغني ولو صبرت حتى يستغرق في النوم سترى احلامه وهي تلون وجهه بالتعابير المختلفة وكان \”الاحيمر\” يفعل ذلك ويتحفنا بحكاياته على عامود النور. ول\”مجوك\” احلام ضائعة تناوشه باستمرار منها ان يصبح ترزي على برندات سوق (جوبا) وان يلتقي ب(ماري الزانداوية) في عتمة من عتمات فريق (اطلع بره) ب(جوبا) ول\”مجوك\” حلم صغير لكنه مرعب وهو ان يعرف هل امه \”يار\” ماتت ام مازالت تعيش وخاصة ان الحرب التي كان قد تركها وراءه حين سلم بندقيته واتجه إلى مدينة (جوبا) ليعيش فيها بفكرة محارب من حقه ان يجني ثمار السلام، تلك الحرب فقد توسعت إلى درجة أن الأهالي توزعت بهم المعسكرات والغابات واللامعسكرات ولم يعد احد يعرف أين الآخر.
تفرقت شلة عامود النور، كل في بيدائه واحيانا تلتقي الشلة في الاجازات، وحين عدت مرة في منتصف التسعينات في إحدى عطلاتي من الاسكندرية حيث كنت ادرس هناك وكان لابد من المرور على عامود النور، على الاطلال، فوجدت العامود وقد تغيرت شخوصه فقد شب جيل جديد متحلق حول عامود النور فسألتهم عن \”الاحمير\” فقالوا انه يأتي إلى البيت عادة في ليل متأخر، وتحركت مسافة من عامود النور وهي حتما مسافة أجيال، وكنت مصرا على مراقبة شباب عامود النور الجديد وعلى حضور عودة \”مجوك\” وحين ختم مؤذن جامع (الحارة الرابعة) أذان العشاء تيقنت ان هنالك خلل في مكان ما إذ أن \”مجوك\” لم يرجع من قيلولته ولم يختلط صوت صخبه المنتشي بالأذان. .
قيل إن اللجنة الشعبية اشتبكت مع \”مجوك\” وذلك حين كانت اللجنة تراقب الأفران وتستلم الرغيف لتوزعه على المواطن بدفاتر وبطاقات، وكان وقتها \”مجوك\” داخل الفرن ينتهي من آخر التفاصيل كي يقلب طاولته بالقرب من (المزيرة)، وحين إنتهى خرج من الفرن وهو يحمل مخدته الخشبية. وكان اعضاء اللجنة الشعبية يلتفون حول طاولات الرغيف يحسبون عدد الارغفة انحني \”مجوك\” على إحدى الطاولات وتناول رغيفا وفجأة صرخ فيه احد اعضاء اللجنة:- (( رجع الرغيفه دي ))
نظر \”مجوك\” إلى ذلك الصارخ من موقع المسئولية المتوهم ببرود وكأن الأمر لا يهمه، وقضم من الرغيفة بإرتياح تام، الأمر الذي جعل عضو اللجنة الصارخ يندفع نحو \”مجوك\” بعنف ويريد ان يأخذ الرغيفة من يد \”مجوك\” وحين إقترب عضو اللجنة المندفع نحو \”مجوك\” لم يتردد \”مجوك\” في ان يضرب عضو اللجنة على رأسه بمخدته الخشبية التي تحطمت إلى قطعتين بينما خر عضو اللجنة صريعا وحوله بقية الاعضاء، تناول \”مجوك\” القطعتين من مخدته المتحطمة وخرج وسط صيحات تطالبه بالتوقف ولكن \”مجوك\” لم يتوقف واتجه نحو (المسح) وهو يحمل في يده ما تبقى من مخدته الخشبية وحين بحثت عنه الشرطة لم تجده.
حدثني \”الاحيمر\” عن تفاصيل غياب \”مجوك\” النهائي، هكذا حمل معه مخدته الخشبية، قطعة في اليد اليمنى والأخرى في اليسرى وخرج من الفرن يمشي كسهم في إتجاه اللاعودة، ولم ينس \”الاحمير\” أن يهمس في أذني:- (( تعرف يا حافظ مجوك بكون رجع الغابة ))
وحاولنا في الليلة ان نترنم على طريقة (مجوك)
(( كلام دي
ياهو حرقو
ملكية فوقو ))
ولكنا كنا نحس بنوع من ذلك الغبن السياسي ونتسأل عن تلك الغابة التي رجع اليها \”مجوك\”، أليست هي نفس الغابة التي نعيش فيها الآن؟؟
و(( سوقني بعجله
نمشي كمبو
نساهر الليل ))