الرأي

محاورة حول اللغة المصرية القديمة (الرانكمتية) مع الأخ عمرو أحمد خالد

د.محمد جلال أحمد هاشم
شكرا لهذا التسجيل الأستاذ الصديق عمرو أحمد خالد. استمعت إلى التسجيل الطويل الذي يفوق الثلاثين دقيقة وفيه تناقش مع شخص اسمه صابر مواقف وآراء تُحيلُها لي. أدناه بعض ردود على ما ورد في تسجيلك. ودمت.
يا صديقي لكم ظلمت نفسك وظلمتني عبر وصفك بأني مسجون في الإثنية. في رأيي أنك تحتاج لتقرأ بعض كتبي. فأنا كنوبي متصالح مع حقيقة أنني أفريقي أسود على قدم المساواة مع كل السودانيين الذين أنظر إليهم بوصفهم أفارقةً سودا. هذا كلام ما كنت أحتاج أن أشير إليه لولا حديثك عني بوصفي رجلا مسجونا في إثنيته النوبية. وهو طبعا حكم مرسل لا يقف على أي قدمين على الأرض. لقد ظللت أكرر كثيرا، كثيرا، السنوات خلت، أنني لا أتكلم فيما لم أكتبه. وهذه فضيلة علم تعلمتها عن يدٍ، وآخرون معي، من أستاذنا بروف. عبدالله علي إبراهيم، ونحن إذَّاك طلبةُ فصله بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بشعبة الفولكلور.
بخصوص الامتيازات التي تتحدث عنها عن نوبيي الشمال، هنا أراك أيضا في حاجة لقراءة ما كتبته في هذا المجال. لقد كتبت قبل عشرات السنين أنهم كانوا واجهة هذه الحضارة لسبب بسيط وهو لأنهم الوحيدون الذين كانوا وقتها وإلى زمن قريب ينسبون أنفسهم لهذه الحضارة، دون باقي المجموعات الإثنية الأخرى (راجع كتابي: جزيرة صاي .. قصة الحضارة). هذا من بين أسباب أخرى تعرضتُ لها. هذا مع قناعتي التامة بأن جميع الشعوب السودانية ينتمون لهذه الحضارة. هنا عليك مراجعة سجالاتي مع النوبيين الذي يحاولون حصر هذه الحضارة فيهم فقط.
يا صديقي كما لو أراك هنا تتكلم عني بغير علم ودون أن تكون قد اطلعت على ما كتبته في هذا المجال.
موقفي من اللغة المصرية (وتسميتك لها بالرانكمتية) هي لغة غير سودانية. وهذا موقف أجمعت عليه كل الدوائر العلمية والأكاديمية، ما يعني أن جميع العلماء المختصين يتفقون في هذا. وهي طبعا لغة ميتة منذ أكثر من 1800 سنة. أما رأيك بأنها هي اللغة السودانية الحقيقية، فهذا مجرد زعم لا تسنده أي حجة علمية يمكن مناقشتها. هذا هو رأيي وقلته لك من أول وهلة، ولا زلت متمسكا به لأنه موقف علمي وليس شخصي. وكان هذا هو سبب رفضي للمحاولة التي قمت بها عبر مقابلتك للقراي حتى يتم تضمين هذه اللغة في المناهج. فهذا هو الذي رفضتُه بشدة، ولا أزال أرفضه بموجب موقفي الذي أوضحته لك.
أما أن يكون هناك تيار اجتماعي سوداني يسعى إلى إحياء اللغة المصرية القديمة بوصفها لغته، فهذا تيار أيديولوجي وليست لدى أي اعتراضات عليه، برغم إيماني بأنه مسعى خاسر ويعبر عن أزمة هوية. ولكن برغم هذا قلت لك بأنني سوف أتعاون معك ما أمكنني ذلك، طالما كان تعاوني يتمثل في تقديم المعرفة الفنية بوصفي لسانيا.
ثم كأني أراك تنطلق من لحظة اكتشافك للغة المصرية القديمة بوصفها لحظة اكتشاف هذه اللغة. وهذا شيء غريب لأنك تعتمد على كتابات ألن قاردنر. فكما تعلم، هذه لغة قام شامبليون في عام 1827م بحل رموزها. فكيف تقول ما معناه “بعد اكتشاف الرانكمتية” وما شابه من تعابير؟
وبخصوص أن هذا التيار يعكس أزمة هوية، فهو رأي عبرت عنه في كتابين ثم في مقالات، بجانب المحاضرات. فبعد أن تداعت الهوية العربية للمجموعات النوبية المستعربة بوسط السودان (أو من يسمونهم بالمجموعة الجعلية الكبرى)، جراء الهوس والاشتطاط الإسلاموعروبي الذي حدث خلال الستين عاما الماضية وبلغ قمته في زمن الإنقاذ، نفرت قطاعات معتبرة من الأجيال الصاعدة من هذه الإثنيات من هويتها العربية وخلعتها. هنا لجأت هذه القطاعات إلى التاريخ، فإذا بهم يصطدمون بالنوبيين النيليين على وجه التحديد الذين قاموا بطريقة غير رسمية بتسجيل كل ذلك التراث الحضاري باسمهم الإثني وليس الاسم الحضاري. هنا انقسم هذا التيار الذي بدأ يبحث عن هويته بين معابد ومدافن حضارات وادي النيل إلى قسمين. الأول صارع ولا يزال يصارع النوبيين في نسبة تلك الحضارة، ذلك بادعاء أن النوبيين لا علاقة لهم بها، ذلك تأسيسا على أن المرويين (الكوشيين) والنوبيين هما شعبان للغتين مختلفتين. وبما أن مواطن خالعي الهوية العربية هي نفسها مواطن المواقع الأثرية التي خلفها المرويون والكوشيون (مناطق المجموعة الجعلية الكبرى)، فهذا يعني أنهم هم سلالة تلك الحضارة وأهلها الذين يستحقون الانتماء إليها دون غيرهم، وبالأخص دون النوبيين. وبهذا وقعوا في شرك اعتقال الحضارة إثنيا الذي وقع فيه عوام النوبيين قبلهم. أما القسم الثاني، فقد اطَّرح كل المواقف والآراء العلمية التي تقول بأن اللغة المصرية هي لغة تختلف عن اللغتين المروية (الكوشية) والنوبية، وقاموا ببناء تصور أيديولوجي، أي غير علمي، مفاده أن تلك اللغة هي اللغة السودانية الأصلية والتي هي نفسها اللغة الكوشية وبالتالي نسبوا أنفسهم إليها. وبهذا وقعوا في نفس الشرك الذي وقع فيه عوام النوبيين عندما ذهبوا إلى أن اللغة النوبية الحالية (بحسب المتكلم إذا كان يتكلم المحسية أو الأنداندي، أو الميدوب، ذلك لأننا الآن لدينا حوالي 6 لغات نوبية) هي نفسها اللغة المروية، وهي نفسها اللغة المصرية التي كان يتكلم بها رمسيس وتوت عنخ آمون إلخ. وقد سعد بعض خالعي هويتهم العروبية بحقيقة علمية، ألا وهي تشابه اللغة المصرية القديمة مع اللغة العربية وباقي اللغات السامية، فانطلقوا من هذا التشابه إلى نتيجة أيديولوجية بحتة (ما يعني أنها غير علمية بالمرة) مفادها أن العامية العربية السودانية  Low Arabic قد تنزلت من الرانكمتية، وليس من اللغة العربية العالية High Arabic.  وقد نشب الصراع واشتد بين هؤلاء بقسميهم من جانب وبين عوام النوبيين النيليين من جانب آخر. فكان أن أطلق بعض النوبيين مسمى “كوَّاشة” (نسبةً إلى كوش) على خالعي هويتهم؛ من جانبي، قمت بإطلاق مسمى “نوَّابة” (من نوبة) على المجموعات النوبية التي خاضت في هذا الصراع البيزنطي. وختمت بأن كلا التيارين ينتميان إلى عملة واحدة وأن كل تيار هو الوجه الآخر للعملة نفسها. ثم من بين هذين التيارين الأيديولوجيين، انبثق تيار ثقافي جديد (أي غير أيديولوجي) جعل من المعلومة العلمية همه، دون أن يحصر نفسه في مشاكسات النسب الإثني إزاء تلك الحضارات، معتمدا النسب الحضاري لها، بما يجعلها مفتوحة لجميع الأفارقة، وغيرهم، ذلك باعتبار أن حضارات وادي النيل هي ملك إنساني عام وتقبل كل من يستشعر الانتماء إليها.
هذا هو رأيي باختصار في المسألة يا صديقي. ولعلمك، هذه سجالات قد خضتها عبر الأسافير، ما يعني أنك من المفترض أن تكون قد ألممت بجانب منها، ذلك طالما جعلت من هذه القضايا مركز اهتمامك. ولكني بكل أسف لم أشعر بأنك قد اطلعت عليها. ولكنك مع ذلك امتلكت جرأة جديرة بالإعجاب في التحدث عني بغير علم، كما لو كنت قد اطلعت على خالجة النفس مني والفؤاد.
ثم إني لست بمتحفظ تجاه ما تقوم به، بل لدي موقف علمي تجاهه وليس موقفا إثنيا، ويتلخص موقفي في أن إحياء لغة ميتة دونه خرط القتاد. وبرغم هذا لست من يقوم بتكسير المجاديف. وكما قلت لك، إذا كان الحفاظ على اللغات الحية المهددة في السودان غير متاح وفق الإمكانات والسياسات الحالية، فكيف يمكن أن نوجه جهودنا، على قلة إمكاناتنا، إلى إحياء لغة ميتة منذ أكثر من 1800 سنة، ثم هي بإجماع العلماء، أكرر: إجماع العلماء، الأحياء منهم والأموات، لغة غير سودانية.
والله يا أستاذ عمرو أحمد خالد أنا محتار مما تقوله عني. ياخي أنا متين كان عندي موقف سلبي تجاه مشروعك ثم راجعته وقمت بتغييره؟ يا ابني أنا عضو في مؤتمر الآفروعمومية Pan African Congress – Sudan منذ 40 عاما، ولعلمك أنا أول من قام بتأسيس هذا الجسم بوصفه الفرع في السودان. كأني أراك تعتمد اكتشاف الأشياء بزمن اكتشافك لها. يا صديقي رأيي الزمان هو نفسه رأيي الحالي! وهو قد شرحته لك أعلاه! وهو على النحو التالي:
أولا، اللغة المصرية التي تسميها رانكمتية هي ليست لغة سودانية، وهذا بإجماع العلماء. وأن اللغة المصرية القديمة تختلف اختلافا تاما عن كلا اللغتين المروية والنوبية. وعليه، لا مجال لأن تتحدث عن الرانكمتية (اللغة المصرية القديمة) وأنت تعني الكوشية، أو النوبية.
ثانيا، بوصفي أحد اللسانيين الذين تم تدريبهم على دراسة اللغات، أنا على استعداد لمساعدة أي إنسان له اهتمام باللغات، الحية أو الميتة، طالما كان ذلك على أساس تقديم معرفتي الفنية العلمية. وعلى هذا الأساس أعلنت لك استعدادي لمساعدتك. وقد كان بسبب إعجابي الكبير بالجهد الذي بذلته كيما تعلِّم نفسك اللغة المصرية القديمة وبطريقة ذاتية، ثم تقوم بتأليف كتاب ضخم فيها. فهذا جهد جدير بالإعجاب.
ثالثا، بالرغم من اختلافي معك في أن إحياء لغة ميتة وجعلها لغة حية هو عملية أشبه بالمستحيلة وأنها تحتاج إلى إمكانات دولة، فضلا عن أيديولوجيا شعبية طاغية، إلا أنني لا ولن أبذل لحظة من زمني وجهدي في محاربة تيار كهذا. رابعا، التزامي، كنوبي، تجاه اللغة الأم بالنسبة لي هو لم ولن يقف عائقا دون الإيفاء بالتزاماتي تجاه دعم ودفع العمل في باقي الجبهات الإثنية السودانية من حيث تطوير لغاتها ومساعدتها على الحفاظ على تراثها. وهذا ما تشهد به كتبي وأبحاثي ومسوحاتي الميدانية الأكاديمية.
خامسا، وأخيرا وليس آخرا، أراك تستخدم مصطلحات ساهمتُ مع آخرين قلة ويعدون على الإصبع الواحد أو الأصبعين في ترسيخها وتقعيدها، مثل مصطلح “الإسلاموعروبية” الذي قمت بتدشينه قبل حوالي 40 عاما؛ ثم كذلك مصطلحي “الهامش” و”المركز”، وذلك للرد على مواقف لي ابتنيتها من خيالك. وكتبي وأبحاثي تشهد بهذا. ولهذا أشرت لك أنك تحتاج لتقرأ بعض كتبي وأبحاثي.
ثم بما أنك أحلت لي هذا التسجيل، فلا أقل من أن تشرح لي ملابساته ومن هو هذا الصابر الذي تخاطبه بشأن أفكاري ومواقفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى