الرأي

ما يدمي القلب كثير

رباح الصادق
مِنْ منن (الديمقراطي) الخاصة بالنسبة لي إتاحتها التواصل مع قمة صحفية استقصائية كالأستاذ عبد الرحمن الأمين القمر الذي كم أضاء لنا الليالي السود، فحينما كان صندوق “الإنقاذ” الأسود يحكم على المعلومات فلا ندرك إلا ما يتيحه صراع أفيالهم الزنيمة الذي يسرب للصحف من فساد المتقاتلين بمقدار ما يردي خصمه، كان عبد الرحمن ربما الوحيد القادر على اختراق الحلقة الشريرة بوسائل أردت تدابيرهم كما فعل عثمان دقنة بالمربع الإنجليزي العصي. واليوم نداول بعض ما جاء في دراسة شارك فيها الأمين أصدرتها منظمة النزاهة العالمية في مايو 2020م.
أسفرت الدراسة عن تقرير بعنوان (النزاهة التجارية في السودان) تقصي فجوة الفوترة في سبع سنوات فقط (2012م-2018م) وهي سنوات المسغبة الكبرى بسبب النضوب الجزئي للنفط، والثورات المتتالية، وصفوف البحث عن النقود (في الصرافات والبنوك) والخبز والوقود. كانت المنظمة تقارن بين أرقام بنك السودان التي تعطيها الحكومة، وأرقام إدارة الاتجاهات الإحصائية للتجارة التابعة لصندوق النقد الدولي المجمعة من شركاء السودان التجاريين.
ووجد التقرير أن فجوة التجارة بلغت 30.9 بليون دولار من أصل 65 بليون معلن عنها رسمياً، فالرقم الحقيقي لصادرات السودان كان 95.9 بليون دولار.
فصل التقرير الغش في الفواتير الذي ارتكبه نظام الإنقاذ في السنوات السبع المذكورة بالتركيز على سلعتي النفط والذهب. فوصف كيف أن السودان كان لا يزال ترتيبه الـ(42) في قائمة مصدري النفط عام 2018م أي أننا لم نخرج من النادي النفطي كما ذكروا لنا وهم يولولون، والمفقود (بالغش في الفوترة فحسب) يساوي فقداً سنوياً يبلغ 249.4 مليون دولار: “وهو يتفوق 3 مرات على إنفاق الدولة على الخدمات الاجتماعية في عام 2017 والبالغ 89.3 مليون دولار”! أي أنهم كانوا يبكون الانفصال بينما يسرقون مال النفط الذي لا يزال يتدفق إلى جيوبهم ويكتفون بقتلنا ودهسنا حينما نقول لا.
نفس الشيء ينطبق على تجارة الذهب التي زادت بعد انفصال الجنوب بنسبة 114%، ولكن سرقات الفوترة فيها بلغت 97% من حجم الذهب المعلن، و47.7% من القيمة المعلنة، إذ سرقوا بالحذف في الفواتير 4.1 بليون دولار.
هذه السرقات حدثت أوان “التحاريق”، فما بالك بسرقات “الدميرة” أيام النفط المتدفق بلا رقيب قبل الانفصال؟
كل هذا ندركه بظواهر كثيرة حتى إنْ لم نكن نملك الأرقام وليس في نشره جديد يدهش كثيراً. لكن الأهم برأيي فيما جاء في التقرير الملاحظات الدقيقة لمنظمة النزاهة العالمية حول المشاكل الهيكلية التنظيمية والقانونية والإدارية في قطاعي النفط والذهب. فتركة الإنقاذ ليست مجرد شخوص، هي تركة هياكل وقوانين معيبة مفصلة على قدر سياسة التمكين وعلى طول احتياجات الغش والفساد، وكذلك ثقافة “كشكش تسد” التي تجعل من المنصب العام سبيلاً للتدخل لمصالح خاصة، وتعطي سلطات مطلقة لأشخاص والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة. لذلك فإن تركيزنا في قراءة ذلك التقرير لا ينبغي أن يقتصر على ماضٍ أليم كلنا نعرفه، وقاومناه بالعصب والدم والدموع، بل على ما ينبغي فعلاً لتفكيك تلك التركة الزنيمة بقوانينها الشائهة وثقافتها الذميمة، لصالح ثقافة الشفافية والنزاهة المرجوة.
لاحظت المنظمة في تقريرها عدداً من الفراغات الإدارية والقانونية في قطاع النفط حيث لا يوجد تفريق واضح بين الأدوار التجارية وغيرها فيما بين وزارة النفط والتعدين، وشركة البترول الوطنية سودابت، وغياب الشفافية في التراخيص وامتيازات التنقيب، وإتاحة التدخل السياسي، وغياب الرصد الدقيق للصادرات وحجمها في كل قطاع مما يتيح التلاعب في الفواتير، وغيرها من المآخذ التي تضر بالنزاهة وتجعل النفط الذي لا يزال يتدفق بحجم مقدر عرضة لحالة “شالوا الدودو”.
أما في قطاع الذهب، فليست هناك إجراءات واضحة لملكية الأراضي ومنح امتيازات وحقوق التنقيب لشركات التنجيم الأجنبية في الغالب، مما أدى لصراعات وللتنجيم غير الرسمي، وتغيب الشفافية في مفاوضات منح حقوق التعدين وفي منهجية العطاءات، وهناك منافذ للتدخل السياسي، وافتقار لرصد كامل لمواقع الموارد الطبيعية “مما يضع الحكومة في موقف تفاوضي ضعيف عندما تبرم عقود امتيازات أو استكشاف للشركات الأجنبية” وفقما قال التقرير. إضافة لغياب التناغم بين وزارة التعدين والشركة السودانية للموارد المعدنية مما يؤدي لتداخل الأدوار الإدارية والرقابية، مع المنافذ المحتملة للفساد بسبب مشاركة نافذين في كل مستويات سلسلة الإمداد وكل ذلك يضير بالنزاهة ويؤثر على الاستقلالية المؤسسية.
ورأت النزاهة العالمية أنّ التشريعات معيبة في نصوصها، فبعضها “مصممة لأغراض ذميمة” علاوة على ضعف تنفيذها قومياً وولائياً، بالإضافة لانعدام التدقيق المحاسبي للوسطاء والمستشارين فضلاً عن ضعف حفظ الملفات، وعدم الكفاءة في تنفيذ طرق التخليص الجمركي وضعف القدرات الفنية لمراقبة تطبيق المكافحة التجارية لغسيل الأموال، وضعف تبادل المعلومات للتجارة العابرة للحدود، وفقر المدونات الخاصة بالإنتاج والواردات والصادرات، واعتبرت كل ذلك فجوات تضعف النزاهة التجارية لقطاع الذهب في السودان.
أختتم التقرير بتوصيات منها فيما يتعلق بإصلاح الجمارك التوصية بتخصيص موارد لتنفيذ المادتين 198 و199 من قانون الجمارك لسنة 1986م (المادة 198 متعلقة بالتهريب والجرائم المماثلة، و199 مختصة بجرائم جمركية أخرى خاصة فيما يتعلق بالغش في الفواتير وتزويرها)، وأوصى التقرير هيئة الجمارك السودانية بتقييم مناطق تجارتها الحرة واحتمالات الغش في الفوترة وتهريب السلع والمنتجات عبر مسارات متعددة، خاصة فيما يتعلق بتجارة الذهب والسلع ذات القيمة العالية. وأن تقوم الإدارات ذات الصلة بتكوين فرق لدراسة الغش والتحايل الجمركي، والتهرب الضريببي وغيرها من الجرائم المالية. مع تفعيل الأدوات المتاحة لتقييم المخاطر المحتملة لرصد الفوترة الخاطئة للصادارت، وإنشاء سجل ملكية للمنافع العامة.
كما أوصت المنظمة لتجفيف منافذ الفساد في قطاعي النفط والذهب القيام بإصلاح في قطاع التعدين بما يتوافق مع مبادرة الشفافية ومنظور صناعات التعدين بإفريقيا، واستحداث آليات لزيادة الإفصاح عن العقود، والعطاءات، ومناهج المشتروات وحصص حكومة السودان في اتفاقيات الامتيازات. وتعديل قانون الثروة النفطية لسنة 1998 وقانون الثروة المعدنية والتعدين لسنة 2015م بالنص على إلزام كل الكيانات المتعاقدة بالكشف عن المنتفعين بأعمالها. وإلزام المسؤولين الحكوميين المشاركين في تنفيذ القانونين بعدم امتلاك أي أسهم أو مصالح مالية في أي كيان تعاقدي ذو صلة بقطاع التعدين. إضافة لتبني سياسة شاملة لتنظيم قطاع الصناعات الاستخراجية لكشف منافذ الاحتيال والتهرب الضريببي، تشترك في وضعها الوزارات الحكومية وكل ذوي الصلة والمجتمع المدني لإعادة تصميم الإطار القانوني والتشريعي المتعلق بقطاع المواد الاستخراجية.
أشار الأستاذ عبد الرحمن الأمين في ندوة إسفيرية بعنوان ” استعادة الأموال المنهوبة.. بين تباطؤ الحكومة، والتعقيدات الخارجية” إلى “فجوة اللصوص” وقال وهو يتابع الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في استرداد أموالنا إن غياب الإرادة السياسية يدمي القلب! وأقول.. إن ما يدمي القلب كثير، فكيف تظل قوانين معيبة صممت خصيصاً لسياسة التمكين سيئة السمعة تحكم نشاطنا الاقتصادي حتى الآن؟ وكيف لم نوقع على سيداو حتى الآن؟ .. وكيف؟
بالله عليكم.. أوقفوا نزيف قلوبنا أيها الأحباب في الحكومة الانتقالية.. أوقفوه!
وليبق ما بيننا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى