ما وراء البترول والجان المسلم

“يا بترول سودانا يا نونو
بكرة تكبر وتقوم سنونو
يكتر خيرنا ونكرم غيرنا
وكل حبيب يجيب ماعونو”
هذه الأهزوجة للمنولوجست (جعفر عزالدين) قفزت إلى ذاكرتي وأنا أشاهد (البشير) رئيس الجمهورية يرقص أمام جماهير المجلد وبابنوسة والخوي احتفالاً بالبترول، هذه الأهزوجة سمعتها وأنا طالب بالثانوية العليا فيما بعد منتصف السبعينيات وتحديداً بعد العام 1967م أو في نفس هذا العام، وكانت الأهزوجة من ضمن فقرات احتفال بالبترول أيضاً منقولاً عبر الراديو من خشبة المسرح القومي بأمدرمان.
قفزت إلى ذاكرتي هذه الأهزوجة الضاحكة جداً، وقتها كان (النميري) يداعب أحلام الشعب السوداني باستخراج البترول، وأذكر تلك الزجاجة التي عرضها (أب عاج) من خلال التلفزيون، وأظنها قد وضعت في مكان عام بالخرطوم -لا أذكره- كي يتفرج الناس على هذه النعمة، نعمة البترول.
وأذكر تلك المقولة (كردفان الغرة أم خيراً برة) وكانت قد أضيفت إليها كلمة تدل دلالة بينة على وجود البترول في كردفان، فأصبحت المقولة (كردفان الغرة أم خيراً جوة وبرة).
وأذكر فيما أذكر أن فن الكاريكاتير قد احتفى بالبترول أيضاً، وظهرت على رأس السوداني تلك العلامة التي تشير إلى عرب دول البترول.
ظهر العقال على رأس السوداني، وفي لهث كوميدي محموم عرض الفنان المسرحي (محمد شريف علي) مسرحية (في انتظار البترول)، وأصبح اسم شركة (شيفرون) على كل لسان، وكنت قد سمعت حكايات بعض سائقي اللواري الذين سرقوا ونهبوا معدات الشركة، بل إن صديقي المبتور من خلاف (آدم تترون) قد أضاف إلى بطولاته في النهب المسلح عدد أكثر من (200) بوكس كاشف كان قد نهبها من (شيفرون) حسب رواية (اللمين كباشي) شيخ النشالين مبتور الكف، وقيل إن هذه البكاسي المنهوبة قد دعمت سوق الإسبيرات.
على كل، ها هو (البشير) يرقص الآن في نهايات التسعينيات احتفالاً بإنجاز حكومته الحصول على هذا الكنز، ومن ورائه نشاهد (النميري) و(سوار الذهب) و(الترابي) يدشنون بحضورهم الذي لديه أكثر من معنى تاريخي وسياسي وعبثي هذا الاحتفال.
كنت أتوقع أن تقوم هذه الحكومة التي وزعت الفردوس على شهدائها حتى أن سيد شهداء الإنقاذ (الزبير محمد صالح) قد منح قصراً في الجنة، وقيل أيضاً في عرسه (عرس الشهيد) إنه تزوج بسبعين من بنات الحور.
أنا لا أتخيل، ولكن هذا ما شاهدته في التلفزيون وسمعته عبر راوٍ في هذا الاحتفال الغرائبي، أقول: كنت أتوقع أن يكون إنجاز الإنقاذ للبترول عبر ذلك الجان المسلم بدلاً عن الاعتماد على شركات أجنبية حتي لا يعتبر هذا الإنجاز من ضمن ما هو وافد أجنبي استناداً على مشروعية المشروع الحضاري لدولة السودان العظمى.
فقد حدث في بداية ما يسمى بـ (المجلس الوطني)، وفي إحدى جلساته كان قد تقدم أحد الأعضاء باقتراح يتماشى مع ذلك الهوس الذي يحكم تفاصيل هذه الدولة العظمى، والتي كانت قد أشهرت حلمها بقيادة كل العالم من جاهليته إلى النور.
قدم أحد الأعضاء اقتراحاً يقول إن بالإمكان استخدام الجان المسلم في عمليات استخراج البترول، وقد قمعت همهمات الاستهجان من بعض الأعضاء باستدلال العضو مقدم الاقتراح بآيات من الذكر الحكيم، خاصة سورة (الجن) لدعم اقتراحه الذي تمت تثنيته. وأنا أسمع خطاب (لبشير) في هذا الاحتفال كنت أتوقع أن يشكر من ضمن ما شكر من شركات كندية وماليزية وأرجنتينية أن يشكر أيضاً هذ الفعالية –الجان المسلم– إلا أنه لم يفعل، مما يدلل على حبة موضوعية وعقابيل من تفكير علماني قد تسللت إلى ذهنه، وبالرغم من ذلك فها نحن نسمع بلواء يدعى (حماة البترول).
وأخيراً ها هو البترول يتم استخراجه في السودان، وها هم رموز الخراب يلتفون حول هذه الغنيمة (جعفر محمد نميري) ذلك الذي راهن قديماً على هذا البترول، وأدلى بعدد من التصريحات الخائبة حول أمره.
ترى هل يمكن أن نقول إن عودة نميري إلى السودان ذلك الذي لفظه من خلال انتفاضة شعبية وكان هناك مطلب شعبي يقول: (رأس نميري مطلب شعبي)، أقول: هذه العودة -وقد شاهدت في التلفزيون الوفود التي استقبلت نميري وهناك لافتة مستفزة مكتوب عليها (وجع وجع أب عاج رجع)- خيبة مركزية من خيبات الشعب السوداني، ومن تداعيات تلك الخيبة أن نشرات الأخبار العالمية اتفقت على وصفها –العودة– من خلال هذه الجملة التي تحمل في نسيجها نوعاً من الاستنكار ومن تلك الدهشة (يبدو أن الشعب السوداني متسامح أكثر من اللازم)، وقد قيل إن النميري في القاهرة -ومن خلال إصدارة تخصه واحتفال وهمي بثورة مايو- قد أعلن إلغاء قوانين سبتمبر وهو خارج السلطة أو هو في سلطة متوهمة، هذه القوانين تساوي الدم الذي غرقت فيه البلاد.
ترى كيف تذوق السودان هذه العودة؟ وما هو متأكد منه أنه لم يسع أحد للحصول على تلك الرأس التي كانت مطلباً شعبياً، أخاف من مغبة أن نوصف بأننا شعب ضعيف الذاكرة. ترى هل بقيت في هذا الشعب رغبة أن يتذكر؟
أهازيج عذبة كثيرة احتفت بانهيار سلطة نميري، أذكر منها تلك الأهزوجة التي خرجت بها مظاهرة من شارع الأربعين بأمدرمان، هذه المظاهرة سارت حتى وصلت القصر الجمهوري، حيث انضمت إليها فرقة النحاسيات ودست أنغام آلاتها الجهيرة وناعمة الأصوات بين الغناء الجماعي التلقائي وأصوات الدلوكة والمغنيات، وكانت الأهزوجة تقول:
“طلعنا فوق الجبل
وسهرنا آخر سهر
يا الطوارئ حكمك فشل
والترابي قالوا انتحر
وانميري وقع البحر”
ولكن ها هو (الترابي) يقف جنباً إلى جنب مع (النميري)، يلتفون حول الغنيمة، لا مجال للدهشة إذ إن (الترابي) حليف أساسي للنميري، بل إنه استثمر هذا التحالف بخلق مؤسسات اقتصادية لحزبه الذي له قدرة الحرباء في التلون.
ها هم يلتفون حول الغنيمة، ولكن يبدو لي أن الغنيمة الحقيقية التي يلتفون حولها هي هذا الشعب السوداني. ها هو (سوار الذهب) بينهم، ذلك الذي سلم السلطة للشعب الذي زمجر في وجه سلطة (نميري) وأطاح بها، ليغيب (جعفر النميري) مطروداً (14) عاماً من البلاد، ويعود إليها الآن وينضم إلى رموز الخراب الذي كان هو أول صانعيه. وها هو صانع خراب جديد يرقص الآن على جثة أحلام الشعب السوداني.
يقال إن (سوار الذهب) له علائق مع هذا الحزب الحرباء، وقد مكنه هذا الحزب من قيادة مؤسسة ذات دور ضليع في شبكة عنكبوت هذا الحزب (هيئة إحياء النشاط الإسلامي)، تم ذلك بعد أن تخلى عن السلطة. وأسمع أيضاً -والعهدة على ذلك الراوي الخفي- أن لـ (سوار الذهب) دوراً فيما يسمى بقوانين الانتخابات في الفترة الانتقالية، خاصة فيما يتعلق بمقاعد الخريجين. على كل، ها هم (البشير)، (نميري)، (الترابي)، (سوار الذهب) يحتفلون بالبترول، من حق (البشير) أن يرقص، ومن حقي أيضاً أن ألاحظ تلك الوجوه الكالحة التي احتل الجوع والعطش والمرض والفقر والجهل نظرات عيونهم الطيبة.
ترى هل صحيح أن الشعب السوداني شعب متسامح أكثر من اللازم؟ بعد ما هو مكتوب أعلاه كمنولوج لراوٍ مراوغ، عبرنا وعبرتنا الأزمنة بين القرنين، قرن انصرم وقرن حالي نعيشه ويعيشنا، وفي متاهة البترول الحالية، (عباس الوناس) وهو جالس على طوبة من نوع البلك في ضل نهار به رقراق بجانب صف البنزين الحلزوني المخترق حتى زقاقات الحي الجانبية. كان (عباس الوناس) يتجول بين صف البنزين وكمامته على فمه وعلى رأسه يرتدي طربوشاً ورقياً مصمماً من كروت الاتصالات للشركات المختلفة، يعلن (عباس الوناس) عن مهنته الجديدة كبائع رصيد متجول بين هذا الصف الذي أصبح دائماً حتى إنه خلق أسواقه الصغيرة المختلفة، وذلك من حيث أن الصف يقع بين تقاطعات عديدة تربط بين أحياء سكنية مختلفة.
جلسة (عباس الوناس) تحت تلك الطوبة هي أحد مراكز راحته واستراحته من تجواله من بداية ذلك الصف الحلزوني وحتى نهايته، ومن نهايته وحتى بدايته، وهو يوزع على جمهور الصف، نساء ورجالاً، كروت الاتصالات بفئاتها المختلفة.
وبين كل تلك الحركة الدؤوب كان (عباس الوناس) يوزع قفشاته وحكاياته وتعليقاته الساخرة، والتي تأخذ من كل خاطرة عابرة وأزمة طاحنة وظاهرة طافحة، تأخذ من كل ذلك بنصيب يستلطفه جمهور الصف المتنوع.
كنت أنا الذي أضاعت عليه الكورونا الكثير من استعذاب التفاصيل، وقذفت بي إلى عذاباتها ذات الملمح العبثي والسريالي حد الفانتازيا. كنت أنا -وبمكيدة استراتيجية تفوق معيار مكيدة أن ترتدي كمامة- من مدمني ذلك الصف الحلزوني، مع أنني لا أملك أي سيارة أضعها في هذا الصف الذي عاقرته وأدمنته، كل ما في الأمر أنني وفي إجازتي السنوية في هذا العام 2020، عام الكورونا، كنت قد استأجرت شقة، فكان أن (تحلزن) عليها صف البنزين.
لذلك كانت مكيدتي الاستراتيجية هي أن أتخلص من فوبيا الكورونا والحبس وتقفيل الكباري وحظر التجول والحصول على تصريح مرور، وفوق كل ذلك من الملل تحديداً، مكيدتي كانت بالانغماس في تفاصيل وحياة هذا الصف التي قد تستمر إلى الساعات الأولى من الصباح وبورديات مختلفة، وكانت متعتي في هذا الصف هي متابعة (عباس الوناس) في تجواله المرح بين جهور الصف وحلقات الونسة التي كان يفجر فيها مقدراته كممثل قديم.
هذا الصباح تفقدت (عباس الوناس) بين جمهور الصف هنا وهناك، ولما لم أجده تجولت قليلاً، هأنذا أراه بطربوشه الورقي المزين بألوان كروت الاتصالات المختلفة وقد جلس يستريح ويدخن وهو جالس على تلك البلاطة، وفي ذلك الضل الرقراق وحين اقتربت منه هم واقفاً كي يعطيني ما أريد من رصيد، وبدلاً عن ذلك وجدني وقد جلست بقربه على الأرض وقاذفاً إليه بسؤال تحريضي كي أدخله في حكاية:
– وبعدين مع البترول ده يا عباس؟
تنحنح (عباس الوناس) ومد لي سيجارة، وحين امتنعت أشعلها هو وقال:
= أنا ما حلمت بالغزالة.
– ياتو غزالة؟
= ما غزالة إسحاق أحمد فضل الله.
– جاتك كيف؟ وعلاقتها شنو بالبترول؟
= جاتني في المنام، جاتني في رؤيا، ما هي طوالي بتجي في الرؤيا والأحلام، وقالت لي: يا عباس الوناس أنا مرسلني ليك الجان المسلم، تتذكر الجان المسلم؟ والجان المسلم ده تحديداً هم الكانوا شغالين مع الإخوان المسلمين في استخراج البترول من فترة التسعينيات، وكنا نحن شرعنا في تنفيذ عمليات استخراج لبترول بعد مطالبة نواب في المجلس الوطني، بس الحصل الجماعة ديل ضربوا قروشنا وجابوا كفار من الصين.
الغزالة قربت مني ووسوست لي في أضاني:
-إنت ما ملاحظ العلاقة بين المؤتمر والوطني والحزب الشيوعي الصيني؟ عشان كده الجان المسلم قال ليك قول للناس الوهم دي إنو أزمة البترول في السودان هي أزمة وراها الجان المسلم، وحيقفل أي بلف أو مصافي لانسياب البترول.
أها تعرف الغزالة دي تاني وسوست لي في أضاني وقالت لي:
-مالك مخلوع كده؟ يعني إنت ما عارف إنو الجان المسلم ده الكان بستخرجوا في البترول ديل هم ذاتهم كتائب الظل؟ وتبسمت الغزالة حتى بانت نواجذها واختفت.
وفجر (عباس الوناس) ضحكته الممتدة حد التنغيم، وهو ينهض واقفاً، ونظر لي بعيون مبتسمة قائلاً:
-حلوة الغزالة؟
وذهب رشيقاً حول صف البنزين الحلزوني، ولم تمض لحظات حتى فجر (عباس الوناس) بين جمهور الصف كرنفال تجواله المرح، وهو يتراقص وسط الجمهور الذي لم يملك إلا إضافة أصواته المتنوعة لأهزوجة (عباس الوناس) في تضادها الساخر:
“بكرة بدل الجالون
نصرف ألف
وحتى الكارو
نقوم شلف”..