الرأي

ما هو أبعد من تبرئة سانجو والصياد وبقية رفاقهم

ماهر أبوالجوخ
أصدر قاضي محكمة الخرطوم شرق يوم الاثنين 6 مارس 2023م حكماً بتبرئة ثمانية من شباب لجان المقاومة الذين تم اتهامهم بقتل المغفور له بإذن الله تعالى، رقيب الاستخبارات، ميرغني الجيلي. أمر القاضي في حكمه بالإفراج عن الثوار الثمانية، وهم: حسام الصياد، مصعب أحمد محمد (سانجو)، خالد مأمون خضر، حمزة صالح، محجوب إسماعيل، شرف الدين أبوالمجد، سوار الذهب أبوالعزائم، مايكل جميس، وقاسم حسيب.
مثلت نقطة التحول الأساسية في وقائع هذه المحكمة في جلسة الثالث من فبراير الماضي، حينما أعلن أولياء الدم تنازلهم عن الحق الخاص، بعد متابعتهم وقائع المحكمة وشهادات الشهود في الجلسات وعدم وجود أي علاقة للمتهمين الثمانية بمقتل الرقيب المغفور له بإذن الله تعالى، ميرغني الجيلي.
في خضم الاحتفاء بقرار البراءة، فإن الجوانب الأكثر أهمية في هذه القضية فقدت حظها من الاهتمام تتمثل في توجيه قرار قاضي المحكمة بشطب الاتهام في مواجهة كل المتهمين، والإشارة إلى أن الأدلة والبينات المقدمة لا ترقى لتوجيه الاتهام، بالإضافة لوجود العديد من الأخطاء الفادحة التي صاحبت القضية.
وردت في يومية المتحري التي تلاها أمام المحكمة، أنه وفقاً لشهادة الشهود فإن الرقيب المغفور له بإذن الله تعرض للاغتصاب من قبل ثلاثة من المتهمين، قبل مشاركة الآخرين في قتله. أحدث هذا الاتهام صدمة كبيرة لدى الرأي العام لهول وفداحة هذا المسلك غير المسبوق، لكن صدمة فريق الدفاع كانت أكبر، حينما أشار إلى أن تقرير الطب الشرعي لم يورد ضمن محتوياته تعرض المرحوم للاغتصاب في تقرير التشريح الذي حدد أسباب وملابسات الوفاة.
أقر المتحري في ذات الجلسة، أنهم عرضوا على الصياد الشهادة ضد زملائه، ولكن الصياد رفض ذلك العرض. وفي جلسات لاحقة، اتضح أن الضغوط لم تقتصر على المتهمين لكنها طالت أحد الشهود الأساسيين الذي كشف للمحكمة عن تعرضه لضغوط وتهديدات بغرض الإدلاء بشهادة كاذبة ومزورة ضد المتهمين. وكان ذلك الإعلان والإقرار بمثابة الانهيار الكامل لقضية الاتهام المنسوجة بكاملها بخيوط أوهى من خيوط العنكبوت تأكيداً على “أن الحق أبلج والباطل لجلج”، وأن الحقيقة ستظهر مهما طال الزمان.
إن إرغام الشهود والإكراه على الإدلاء بشهادات مزورة جرم يعاقب عليه القانون، باعتباره تقويضاً كاملاً للعدالة. أما دينياً، فيعد قول وشهادة الزور ضمن الكبائر التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث النبوي الذي قال فيه: “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً، يعني قالها ثلاث مرات، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت”.
لم يقتصر الأمر على ما ذكرناه سابقاً في المسعى المستميت لتوريط المتهمين الأبرياء بشتى السبل، ولكن تزامن مع انتهاك الحقوق القانونية وتعرض المتهمين للتعذيب الجسدي الذي يعتبر مخالفة إضافية لأحكام الوثيقة الدستورية التي تنص على تجريم ومنع ممارسة أي شكل من أشكال التعذيب.
لكل ما ذكر سابقاً، أعتقد أن الفصل الأول من قضية استشهاد المغفور له بإذن الله، رقيب الاستخبارات، ميرغني الجيلي، لكنها لم تنته بعد، باعتبارها تتطلب فصولاً إضافية، أولها رفع الحصانة عن كل المشاركين في وقائع التعذيب المخالفة لأحكام الوثيقة الدستورية والمتورطين في سلسلة التلاعب غير القانوني بوقائع هذه القضية، خاصة المتورطين في واقعة “شهادة الزور الكاذبة”، باعتبار أن هذا الإجراء وقبل إعادته لاعتبار المتهمين بات واجباً لاستعادة الثقة في المؤسسات العدلية وأجهزة تطبيق القانون، ردعاً لكل من يفكر مستقبلاً في انتهاج هذا المسلك.
الفصل الإضافي الثاني مهم للغاية، يتمثل في الوصول للجناة الحقيقيين الذين اغتالوا الشهيد ميرغني الجيلي من خلال تحقيق مهني غير مسيس، من أجل فك طلاسم هذه القضية التي وإن بدت معقدة ومتشابكة، لكنها لن تعجز رجالاً صادقين في الشرطة عن كشفها في يوم ما، انتصاراً للحقيقية وزوداً عن سيرة رجال ونساء صنعوا تاريخاً ناصعاً لشرطة السودان.
رغم الوقائع السلبية التي أشرنا إليها سابقاً، فإن جوانب أخرى من هذه القضية أظهرت مواقف تستوجب أن تنحني الهامات لهم احتراماً لنماذج رفيعة سلوكاً وأخلاقاً، بداية من حسام الصياد الذي رفض الاستجابة للإغراءات أو التهديدات حتى يصبح شاهد ملك زوراً ضد رفاقه، وموقف الشاهد جاد كريم جمعة الذي اختار أن يقول الحق دون أن يكترث للخوف أو التهديدات، فرفض أن يكون شاهد زور ضد أبرياء، ثم أسرة المغفور له بإذن الله تعالى ميرغني الجيلي الذين تنازلوا عن الحق الخاص رغم الألم والحزن بعدما توصلوا لعدم وجود صلة للمتهمين بمقتل ابنهم، حتى لا يأخذوا القصاص ظلماً وعدواناً من أبرياء لا ذنب لهم، ثم مولانا قاضي المحكمة الذي لم يكتف بتبرئة المتهمين وإنما دك الباطل الذي صاحب إجراءات هذه القضية، ففتح الطريق لمقاضاة كل الذين تورطوا في فصول فضيحتها أمام قضاء عادل.
يعتقد البعض أن الأبرياء الثمانية الذين خرجوا من تجربة قاسية، كان الأكثر ألماً بالنسبة لهم تعرضهم للظلم والعدوان، وقد طويت وانتهت بإعلان البراءة وإطلاق سراحهم، لكن هذا في حقيقة الأمر يمثل النصف الفارغ من الكوب، أما نصفه المتبقي فهو لا يقل أهمية من قرار البراءة من خلال الشروع الفعلي في اتخاذ الإجراءات ورفع الحصانة عن الذين ارتكبوا الأخطاء والمخالفات في هذه القضية ومحاكمة أمام القضاء بالوقائع التي تم كشفتها، بوصفها خطوة لازمة لتعزيز وتكريس حكم القانون في الدولة المدنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى