الرأي

ما بين الثّقافة والأيديولوجيا (4)

د.محمّد جلال أحمد هاشم
في هذا الصّدد نرى أن نركّز حديثنا عن المسرح. فالأيديولوجيا، برغم أنّها تورّث الغباء الأيديولوجي (وهو معيار قياسي عام وسلبي)، بمثل ما تورّث في خاتمة أمرها الغباء الشّخصي ولو بلغت معدّلات الذكاء في دمغ الشّخص المعني درجاتٍ عالية. انظر لحركة الإخوان المسلمين في السّودان وكيف قادتها الكوادر المتعلّمة التي تلقت تعليما أعلى في أرقى الجامعات الوطنيّة والعالميّة، ما يعني انفتاحهم على المنتج الحضاري العالمي في أرقى صوره. ثمّ قارن كيف تنكّبوا محجّة الدّيموقراطيّة الغرّاء (1985م ــــ 1989م)، فدبّروا انقلابهم في 30 يونيو 1989م، ثم أقاموا دولتهم التي لم ينازعهم فيها الأمر أيّ قوّة أخرى لمدى ثلاثين عاماً. في كلّ هذا، ظلموا النّاس كما لو كانت رسالتُهم هي ظلم الشّعب والاقتصاص منه؛ ثمّ أفسدوا في الأرض فساداً لم يسبقهم عليه حتّى الاستعمار المصري التّركي الذي قام على الرّيع دون تحقيق الحدّ الأدنى من التّعمير الذي استمدّ مصطلح “الاستعمار” اسمه منه؛ ثمّ فرّطوا في الوحدة الوطنيّة وقسّموا البلاد، بل باعوا بعد أقاليمها (ومن يبيع الوطن، كمن يبيع أمّه في المزاد) رشوةً وثمناً لحماقاتهم وأخطائهم القاتلة في حقّ جيرانهم؛ ثمّ أكثر وأخطر من هذا، فقد أثبتوا بالدّليل العملي أنّهم لم يتمكّنوا (وبكلّ أسف حتّى هذه اللحظة) من فهم ما تعنيه “مؤسّسة الدّولة الوطنيّة”، وكيف أنّ عًلمانيّتها ليست سوى شرط بنيوي لها بدونه سوف يتفكّك بنايان الدّولة طوبةً إثر طوبة. تامّل في كلّ هذا ودلّني والقرّاء لما فيه مقدار خردلة من الذّكاء، الشّخصي والوجودي! إذ ليس أدلّ على الغباء الأيديولوجي ممّا فعلته هذه الحركة التي رفعت شعار الدّين عالياً، ثمّ برغم هذا تمرّغت في زخم الفساد كما يتمرّغ الخنزير في قاذوراته. لقد فعلوا كلّ هذه الأفاعيل باسم الإسلام، فتصّور وتأمّل!
إلاّ أنّ أخطر ما كشفوه من حالات الغباء الأيديولوجي والشّخصي هم عدم قدرتهم تماماً (اللهم إلاّ قلّة قليلة لا يُعتدُّ بها) على فهم طبيعة الثّورة الشّعبيّة المجيدة التي أطاحت بحكمهم في 18 ديسمبر 2018م. فقد أثبت الإخوان المسلمون (وكلّ من والاهم في مواقفهم الأيديولوجيّة التي تقف كشاهد حيّ لحالة من حالات الغباء الأيديولوجي والشّخصي الفريدة) أنّهم كآل البوربون، لم ينسوا شيئاً، كما لم يفهموا شيئاً بالمرّة. فقد عجزوا عن أن يفهموا ما تعنيه ثورة شعبيّة أجمع العالم كلّه على أنّها غير مسبوقة في تاريخ البشريّة، دع عنك تاريخ الشّعبي السّوداني الذي اجترح ثورتين قبلها اعتمدتا على سلاح السّلميّة. كما لم يفهموا ويستوعبوا طبيعة الأخطاء القاتلة التي ارتكبوها ودرجة الانحطاط الأخلاقي التي انحدروا إليها وتحدّروا بها بالشّعب. فالحكم الرّاشد يُخرج أطيب ما في الشّعب، بينما يخرج الحكم الفاسد أسوأ ما في الشّعب. ولكن، كما قلنا، فإنّ الثّقافة تنتصر في النّهاية دون حاجة لاستخدام القوّة المادّيّة وعنف الدّولة. كلّ هذا عجزوا عن فهمه ولا يزالون يقيمون في ضلالهم القديم، إذ يحلمون باستعادة حكمهم. كيف؟ عبر تأليب الغوغاءMob Mobilization ! أي بنفس تكتيكاتهم التي أوردتهم موارد الهلاك، هذا دون أن يتعلّموا شيئاً ودون أن ينسوا شيئاً.
إنّ هذه الجائحة من الهوس الدّيني والغباء الأيديولوجي لا يمكن مواجهتها بالفكر وحده، ولا بالتّسامح وحده، ولا بالقانون وحده، بل، في الحقِّ، لا يمكن مواجهته بكل هذا مجتمعاً. فكيف نواجهه؟ نواجهه بالإبداع! بالفنّ عموماً، أكان شعراً أم قصّةً أم غناءً، وعلى وجه الخصوص بالمسرح والدّراما والسّينما! وقد أشرنا في كتبنا إلى هذا بإسهاب، فليُراجع في مظانِّه. فالفنّ له قدرة عجيبة في التّغلغل داخل ضمير الفرد والجماعة وإيقاظ روح الإنسانيّة النّائمة والمخدّرة؛ والفنّ قادر على إحياء الضّمير الميّت للفرد وجعله قادراً على استعادة إنسانيّته التي ربّما لم تبقَ منها غير الرّسوم والجسوم دون المحتوى. لا غرو أنّ جماعات الهوس الدّيني والأيديولوجي ليس فقط لا يعرفون الفنّ بمختلف ضروبه، بل يكفّرونه.
ما بين الآفروعموميّة والإسلاموعروبيّة: أيّهما ثقافة وأيّهما أيديولوجيا؟
فيما يلينا هنا في السّودان، يمكن ملاحظة أنّ الإسلاموعروبيّة تعمل على تزييف وعي الأفارقة، المستعربين منهم وغير المستعربين، بأنّهم ليسوا فقط عرباً، بل هم عربُ العرب. هذا وسط سخريّة وهُزء العرب العاربة وسلقهم لمن يصادفونه من السّودانيّين بألسنةٍ حِداد، لا يرعون فيهم إلاًّ ولا ذمّة. الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة تفعل هذا ولو كان هذا على حساب سماحة الدّين وحنانِه، ولو كان هذا على حساب مستوى اللغة العربيّة في المدارس والجامعات، حيث أصبح لدينا، خلال سنوات دولة الإنقاذ الإسلاموعروبيّة الثّلاثين، خريجو جامعات لا يستطيعون أن يكتبوا جملة صحيحة باللغة العربيّة. وعلى هذا يمكن أن نخلص إلى أنّ الإسلاموعروبيّة هي أيديولوجيا وهو ليس سوى تكرار لما ظللنا نستعرضه في طول وعرض صفحات هذا الكتاب.
أمّا إذا جئنا إلى الآفروعموميّة Pan Africanism، في السّودان بوجهٍ خاص، أوّل ما نلاحظه هو أنّها تعمل على ترفيع وعي السّودانيّين بهويّتهم الأفريقيّة السّوداء، ذلك من خلال الاهتمام ورعاية هويّتنا هذه عبر تطوير ثقافاتنا الأفريقيّة من عادات وتقاليد ولغات. هذا دون أن تُحرم أحداً، فرداً أو مجموعةً، من أن يزعم بأنّه عربي، ودون أن يحاول أن يعمّم هذا على جميع السّودانيّين. أي، باختصار، تعمل الآفروعموميّة على ترفيع الوعي بالهويّة السّودانيّة بوصفها ثقافة. وهذا وحده يحسم المسألة ويجعل أيّ عاقل وموضوعي يخلص إلى أنّ الآفروعموميّة ليست أيديولوجيا بل هي ثقافيّة. وبموجب هذا، ليست الآفروعموميّة بتيّار عنصري، ذلك بدليل أنّ موقف الآفروعموميّة في السّودان من الثّقافة العربيّة الإسلاميّة يكمن في جانبين ثقافيّين؛ الأوّل هو أنّنا عربفونيّون، بما يعني التقعيد الفكري الثّقافي، غير الأيديولوجي، لمسألة التحدّث باللغة العربيّة بمختلف لهجاتها، دون أيّ ادّعاء بأن جميع السّودانيّين هم عرب. الجانب الثّاني هو قبول وجود عرب بيننا ينبغي على الدّولة أن تحفظ حقوقهم بوصفهم جزءاً لا يتجزّأ من مكوّنات الهويّة السّودانيّة.
اليوم في السّودان، وفي ظلّ غلواء الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة وسيطرة مؤسّساتها الاجتماعيّة على مؤسّسة الدّولة بما يهدّد وجود الدّولة نفسها، قد تمايزت الصّفوف! فنحن إمّا إسلاموعروبيّون أو آفروعموميّون. ففي ظلّ الاستقطاب الحاد الذي صنعته الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، وطريقتها المعهودة في التّعامل مع النّاس بطريقة “إن لم تكن معي، فأنت عدوّي”، لا يبقى من موقف غير يحدّد الجميع مواقفهم. حتّى المجموعات التي تصنّف نفسها على أنّها عربيّة، يبقى عليها أن تحدّد موقفها. فالآفروعموميّة ليست وقفاً على الأفارقة السّود فحسب، بل هي مفتوحة لكلّ من يؤمن بعدالة قضيّتهم المتمثّلة في اضطهادهم لمجرّد سواد ألوانهم. أمّا السّودانيّون الأفارقةُ السّود الذين يقفون ما بين بين، فليعلموا بأنّهم لن يكسبوا بهذا الإسلاموعروبيّين بمثلما يفوتهم شرف الانتماء لهويّتهم الحقّة. هؤلاء يقفون في مرحلة لا تختلف إلى اختلاف مقدار، وليس اختلاف نوع، عن تلك المجموعات السّودانيّين الأفارقة السّود الذين لا يُنكرون أفريقيّتهم فحسب، بل يكرهون ذواتهم لمجرّد كونهم أفارقةً سوداً.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى