الرأي

مائة عام من حديث مدير الشرطة

أماني ابو سليم

أن يظهر مدير شرطة ولاية الخرطوم أحد أعمدة البلاد لحماية القانون والمواطنين متحدثاً لا من صفته القانونية ولكن من صفة الفرد العادي المنقاد للأوعية الاجتماعية، ناكراً الشبهة الجنائية لمقتل الطفلة سماح وموافقاً على ضرب النساء في الشارع ومطالباً بعودة قانون لا يمت للعدالة والكرامة بصلة، مشجعاً بذلك على أفعال ضد القانون ولكنها تتسق مع لاوعيه الذي لازال يرفد مفاهيمه من عشرينات القرن الماضي، لهوأمر جيد بمفهوم أعراض الأمراض الاجتماعية، التي لا بد أن تظهر على السطح بوضوح فيسهل العمل ضدها، لا بأخذ مسكنات لإزالة الأعراض من الصداع والحمى المجتمعية كما فعل والي الخرطوم ببياناته ولكن للعمل ضدها بعلاج ناجع يجعل القانون ملبياً في وضعه وصياغته والعمل به للتطور الاجتماعي والثقافي للمجتمعات، كما فعلت وستفعل المجموعات النسوية التي تمكنت من انتزاع حق سماح ومن مثلها وحق المواطنات في السير في الشوارع آمنات في تقديم كل من ينتزع منهن حق الحياة وحق الكرامة أمام القانون لينال العقاب العادل.
المجتمعات في تطورها، تتحرك بالعقل الواعي المستجيب للعلوم والمعارف الحديثة والتجارب المتطورة والمعينة لحياة أفضل، مثل الفرد، ويعيق تطورها، الترسبات المدفونة في العقل اللاوعيي التي لم يصلها النور بسبب التشابك أو سرعة نزول المعلومات الجديدة على العقل، أوحتى رفضه لها، مثل الفرد أيضاً. إن لم يناقش الفرد مع نفسه بوضوح هذه المفاهيم القديمة المدفونة وعرّضها للضوء فإنها لن ترحل لتتركه بسلام مع تغيره وتطوره للأمام. التناقض بين المفاهيم الحديثة والمفاهيم القديمة عند الأفراد والمجتمعات يترك أصحابها محلك سر، خطوة للأمام بالعقل الواعي تقابلها خطوة للوراء من العقل اللاواعي، فالحل هوفك التناقض، بظهور القديم على السطح وكشفه ليرحل من اللاوعي ويحل محله الحديث فيخطو للأمام متسق الخطوات سواءً الفرد أوالمجتمع.
حسناً فعل مدير الشرطة، والذي بحديثه يمثل الترسبات القديمة المدفونة في لا وعي المجتمع، بجهره بهذه الأعراض، حتى لا تظل مدفونة تعيقنا عن التقدم، حسناً فعل ليسهل تشخيص الداء ومكان الورم وتحديد الكائنات الضارة المسببة للمرض فيسهل قتلها وإيقاف أثرها الضار وجرفها خارج جسم المجتمع، فيصح ويتعافى.
نحن الآن على بعد قرن من بداية تشكل الخرطوم في مجتمعها الحديث في عشرينات القرن الماضي، والذي يبعد أيضاً قرناً عن بداية هذه المدينة ومجتمعها كمجتمع بدأ حينها النبض مع العالم في تطوره الاجتماعي والثقافي والسياسي والذي يتطور بطبيعة الحال ببلورة ذلك في القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد ببعضهم وعلاقاتهم بالدولة وعلاقات الدول ببعضها.
حتى بداية العشرينات في القرن الماضي كان عدد مدارس البنات الابتدائية خمس فقط على طول البلاد وعرضها، بالإضافة لمدرسة بابكر بدري، كان تعليمهن يتأرجح بين العيب والحرام والمستحيل اجتماعياً حسب الثقافة السائدة. في ذات الوقت كان قد مرت عقود على القوانين العالمية الرسمية لمنع تجارة الرقيق، إلّا أنها كانت لا تزال موجودة بالسودان. في عام ١٩٢٨ اضطر الحاكم العام للرضوخ لضغوط البرلمان البريطاني ودعاة حقوق الإنسان والتوقيع على الاتفاقية الخاصة بالرق الموقعة ١٩٢٦ بعصبة الأمم، وذلك رغم معارضة الطائفيين والدينيين، وكان حينها قاضي قضاة السودان قد أفتى بذات صوت مدير الشرطة الحالي بأن تحرير العبيد بشكل جماعي مخالف للشريعة الإسلامية، ممثلاً للاوعي الجمعي الرافض للتأثر الإيجابي للتطور الإنساني العالمي للحق الإنساني في الحياة بكرامة.
تيار حقوق الإنسان، على المستوى المتساوي للإنسانية، إناثاً وذكورا، سوداً وبيضا، أطفالاً وراشدين، لن يتوقف ليستمع الى ترهات دافني عقولهم في الماضي البائس للإنسانية.
تسلط البعض على الآخرين، وقبول البعض الآخر للتسلط مصدره الاسرة والمجتمعات الصغيرة، ان لم تبنى المجتمعات من خلاياها، الأسرة والمجتمع الصغير على مبدأ الحق الإنساني في الحياة والكرامة والتعبير عن الرأي والذي ينعكس في الدولة وقوانينها بتعبيرها عن هذه القيم فإن دائرة الحكام الطغاة لن تتوقف، فالدكتاتور ورجل الدين الذي أفتى له بجواز قتل ثلث المواطنين ليثبت حكمه جاء من ذات المصدر الذي يبيح للأب تمديد سلطته حتى الحق في الحياة، فيحمي مجتمع الأب الرجل في قتله ابنته، بأنه شأن أسري، ويعلن مدير شرطة أن لا شبهة جنائية في قتل سماح.
إن لم ينته هذا التسلط داخل الأسر، والذي يدعي الحق في تملك حياة الأبناء لن ينتهي الطغاة، الذين ثبتوا حكمهم بالتعذيب والقتل والتشريد بادعاء الحق في التخلص من حياة المعارضين.
بقوة القانون العالمي والمحلي صار لا يمكن لأحد أن يعلن استعباده لإنسان، وبالقانون في بعض الدول لا يمكن حرمان الأبناء من التعليم، وقد صار أمر تعليم البنات أمراً عادياً حتى في المجتمعات الريفية وذلك رغم اعتراضات جيوب المفاهيم القديمة وحماتها.
من الطبيعي بقوانين الحياة أن تسري الرياح من مناطق الضغط المرتفع للمنخفض وأن يجري تيار المياه من المرتفعات الى المنخفضات، وكذلك الثقافات بما فيها العادات والتقاليد الاجتماعية، ومن ثمّ القوانين فإنها تنتقل من الأكثر تركيزاً للأقل تركيزاً. من الأكثر غزارة للأقل، من الأكثر تجربة وحكمة وفعالية الى الأقل والأخفض، مهما ادّعت جيوب التسلط والاستبداد أصالة مفاهيمهم ومحاولات تطويع النصوص الدينية لمصالحهم.
بعد مائة عام على تشكل مجتمع الخرطوم الحديث، والذي سرى بأثره الى باقي المدن السودانية غاشياً أطرافها، ها هي الخرطوم تعيد تشكيل نفسها اجتماعياً وثقافياً، وسياسياً وثورة ديسمبر ودك تسلط الدكتاتورية الحزبية هي قمة التعبير عن هذه الرغبة.
فالأعداد الغفيرة للبنات والنساء اللائي ساهمن كتفاً بكتف مع إخوانهن من الرجال في هذه الثورة، بعد قرن من بداية تعليمهن حتى فاقت أعدادهن في مقاعد التعليم العالي إخوانهن، وبعد أكثر من نصف قرن على مشاركتهن في الإنتاج خارج البيت، كان لا بد لهذا التغيير والتطور الاجتماعي والثقافي أن يترجم عملياً بصياغة وفرض قوانين تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع من جهة وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى بحيث يكشف عن الجرائم حتى لوكانت داخل البيوت، وأن يعرّف الجريمة تعريفاً دقيقاً ليحمي حياة وكرامة النساء في البيت والشارع والعمل.
أهلاً بكل من يجهر بمقاومته تيار الحق الإنساني المطلق في الحياة والكرامة، مسهلاً تجاوزه، كمرض عارض في مسيرة حافلة بالخير لحياة أفضل على الأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى