الرأي

ليس الفتى من قال .. !!

يراودني إحساس بالخيبة وانقطاع الأمل من حدوث تغيير في الواقع المرير لهذا الوطن وهذه الأمة، كلما صادفتُ أشخاصاً عبر الوسائط الإعلامية أو شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية أو حتى في (ونسات) و(دردشات) بيوت الأفراح والمآتم و(السمايات وغيرها)، يتحدثون بذلك الحماس العجيب والتفاخُر المُريب عن أن هذه البلاد تمتلك تاريخاً شامخاً وعظيماً وسابقاً لكل الحضارات، حينها ينتابني إحساس بأننا من أكثر المبالغين في استنباط التفوَّق والعلو على تجارب الآخرين وإنجازاتهم بالحق وأحياناً بالباطل، والتفاخر حتى لو كان مستنداً على أسس حقيقية وماثلة ولا تقبل النقاش، لم يكُن يوماً واحداً من أدوات بناء الذات وتحقيق الإنجازات الشخصية، وقديماً قال المثل (ليس الفتى من قال كان أبي ولكن الفتى من قال ها أنا ذا)، ففي رأيي الخاص أن الشخصية السودانية كما حلَّلها بعض المتخصصين الأجانب تعاني بصورة أو أخرى من مركبات نقص مختلفة لعدة أسباب أهمها ضبابية الهوية الثقافية والعرقية وأحياناً انعدامها، وفقدان حالة الانتماء الكُلي والمُطلق للواقع التاريخي والموروث الثقافي لجغرافيا السودان، من يركبون صهوة جواد العروبة فينا لا يشبهون العرب في كل صفاتهم باستثناء الموروث الثقافي واللغوي، ومن يشبهوننا من الشعوب الأخرى على مستوى اللون والعنصر لا نتشارك معهم ثقافتهم وموروثهم التاريخي، كل هذا ربما أدى إلى اتساع هوة شعورنا بعقدة النقص و(اللاهوية) بالقدر الذي جعلنا دائماً (نحتاج) لسد أغوار هذا النقص في نفوسنا وفي انطباعات الآخرين عنا إلى كثرة الحديث عن أمجادنا التاريخية على مستوى الأحداث والمؤسسات والأشخاص، أما على المستوى الشخصي فقد عشت زمناً طويلاً في حالة اغتراب عن الوطن في مناطق عدة من العالم بعضها قريب والبعض الآخر قصي، والتقيت فيها بالعديد من الجنسيات المختلفة في مشاربها الإثنية والثقافية والسياسية ومستويات بلدانها الاقتصادية المتراوحة ما بين الثراء الفاحش والفقر المدقع، ولم ألمس في أحدهم أو بعضهم ميلاً مثل ما نفعل نحو الحديث المتواتر عن أمجاد بلاده الوطنية على مستوى ما مضى من تاريخ، وللحقيقة وإثباتاً لتطور هذه العقدة في ذواتنا نفسياً تجدنا دون شعور نتلمس في بعض الأجانب الذين نلتقيهم ما أورده التاريخ القديم عن بلدانهم ومجتمعاتهم، من فينا حين يلتقي الليبيين أول مرة لا تجرهُ المشاعر إلى ذكرى عمر المختار، والجزائريون المعاصرون يذكروننا بمقولة أرض المليون شهيد، والسعوديون يذكرونك بمجتمع مكة وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإذا التقيت تركياً تذكرت في نفسك القصية الدولة العثمانية وكمال أتاتورك، وهكذا دواليك، أما على الاتجاه الآخر تجد كل أولئك المذكورين آنفاً على الأقل في المستوى الظاهري غير معتدين ولا آبهين بما أنت غارق فيه من خيال وذكريات، مُجمل القول في هذا الموضوع إن الاستغراق الذي يفوق حده الطبيعي في اجترار أمجادنا التاريخية التي مضت هو آلة من آلات التقاعس والإفشال للإنجازات الآنية التي يمكن أن تُعبِّر عما يجب أن نُخلَفه من مفاخر تاريخية لأجيال قادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى