الرأي

كُلُّ مُرّ حُلْوٌ

اَلنَّفْسُ الشَّبْعَانَةُ تَدُوسُ الْعَسَلَ، وَلِلنَّفْسِ الْجَائِعَةِ كُلُّ مُرّ حُلْوٌ. (أمثال 27: 7)

في باب “برج المعارف الإنسانية”، للكاتب (ديفيد رجل الكهف) في كتابه “أحاديث رجل الكهف”؛ طلبت أحدى أبطال الكتاب “لوسيل” بعد العشاء أن يحكي رجل الكهف قصة ما قبل النوم، في الوقت الذي فعلا لم يتبقى لهم، إلا تجهيز شعورهم لما فضل من عمر ذلك اليوم للاستمتاع براحة جسدية من النوم؛ فلم يفصلهم إلا قليلا من الوقت لينتصف الليل، ويبدأ العد التنازلي لنهاية الظلام ويتسنى بعده فرصة فجر جديد. إلا أن رجل الكهف صرح بأنه ليس لديه قصص “الحبوبات أو التيتات بالمصري”، أي قصص الجدات المناسبة لما قبل النوم، لكنه يمتلك قصص يقضي على النعاس والنوم، أصرت “لوسيل” على خوض المغامرة والدخول في الاصغاء لحكايات الرعب والإثارة، لم يتردد رجل الكهف أو يطلق التحذيرات للاحتراس والحيطة وبدأ في سرده: عن مجموعة من الناس كانوا يعيشون في تعاون ويتقاسمون المهام وما يمتلكون بحياة بسيطة هادئة، مع مرور السنين ازداد عددهم، ثم قسموا أنفسهم إلى مجموعات ترأس كل منها ثلاثة قيادات أطلق عليهم رجل الكهف لقب “ثالوث القمع”. بنى هذه الثالوث غرفة كبيرة ووزعوا الناس في داخلها إلى مجموعات، أقنعوا من بداخلها أن الغرفة للحماية، لا يخرجون إلا من خلال باب واحد يحرسه الثلاثي الذين ليس لهم سوى الحراسة وتقديم التعليمات. نتج عن ذلك سحب القدرة على القيام بأي محاكمات عقلية سليمة، أو اتخاذ قرارات بسيطة دون اللجو للمساعدة وطلب المشورة، اختفت الفوارق بينهم رغم توزعهم في غرف مختلفة، تشابهت شخصياتهم في ثلاثة صفات: الشكل البشري، الرضوخ للسلطة الثالوثية، وعدم التفكير في الخروج من الغرفة. الويل والثبور وعظائم الأمور، لمن فكر أو نجح في الخروج والعودة إلى الغرفة، مرت الأيام أدرك معظم من كانوا في الغرف أن ما تعلموه منذ نعومة أظفارهم لايقارب الحقيقة، من جهة أخرى أدرك “ثالوث القمع” بوعي الكثيرين وتحفظ الكثيرين سكان الغرف أو معظمهم بالمجاهرة، بعضهم أبعد المشكلة بالشكوك في “ثالوث القمع” تماما، عندها ابتدع “الثواليث” على حل خبيث لا يدركه البسطاء الذين هم الأغلبية، بجعل كل مجموعة ترى جزء صغير من الحقيقة عبر اتجاهات نوافذ غرفهم، فمنها ما يطل على الجبل، وبعضها على البحر، الأخر على غابة، واخرى على صحراء. وصاروا كمجموعة من الذين ولدوا بدون أعين يحكى لهم القصص لمعرفة ما لم يدركوه بالبصر، وسمعوا قصة عن الفيل، فأرادوا معرفة ذلك الحيوان الغريب عن خبرتهم، فأُحضرَ لهم فيلا وتقدم كل واحد منهم ليلمس الفيل، ويُعَرّف من خلال لمسه ما هو الفيل، فكان كل واحد فيهم يصف الفيل، بحسب المكان الذي لمسه فمن لمس الفيل في الذيل قال الفيل يشبه الثعبان، ومن لمسه في رجليه قال الفيل يشبه ساق الشجرة، ومن لمسه على بطنه قال الفيل يشبه الجدران وهذا دواليك. لذا لم تكن الصورة الحقيقية، لا بل غالطوا بعضهم البعض وتخاصموا، لم يصلوا إلى نتيجة ثم عاد كل واحد إلى غرفته مقتنعا بأن “الثواليث” على حق، طالما لم يتوصلوا إلى اتفاق عن الصورة لحقيقية.
فكر الذين يمتلكون معرفة عن الصورة الكاملة، ببناء براج عالي بها يسمح للذين يمتلكون معرفة جزئية الصعود إلى أعلى قمة لمعرفة الخارج بمكوناتها الطبيعية، من بحر، جبل، صحراء وغابة. إلا أن هذه الفكرة تم مواجهتها بذكاء خبيث، بإرسال اتباع “الثواليث” ليثنوهم عن العمل، أو يثيروا الضغينة بينهم حتى تاهوا عن الهدف، حتى اختفى الجيل المؤسس للفكرة وجاء جيل جديد قرر مواصلة بناء البرج دون الرؤية الكاملة، برغم استمرار العراقيل، إلى أن وصلوا لقمة مناسبة لبناء سطح تمكنهم رؤية المنظر كاملاً: جبل، بحر، غابة، وصحراء، ومن أعلى السطح بنوا درج حلزوني من وسط السطح لأعلى قمة ليروا كل شيء الغرف ومن فيهم وتحركات “الثواليث، إلا أن المشكلة ظلت كما هي، الذين في القاع تمسكوا بما لديهم من معرفة سطحية تحت قيادة “الثواليث”، يعارضون الافكار التي تأتي من السطح وبرج الدرج، لم يعلموا أن متعتهم في القاع هي مجرد تخدير وتغذيتهم بالمعلومات إنما هي مغلفة بشكل ومنظر شهي، لدرجة أن طعمها المر صار حلو. يقول الألمان: “الجوع يجعل الفاصوليا النيئة حلوة” والبرتقاليون يقولون: “المياه معتدلة الملوحة حلوة في الأرض الجافة”. لم يقف التواصل بين البرج والقاع، إنما تمسك كل بوجهة نظره، نفور، اشمئزاز، وازدراء أهل الغرف، عن كل معلومة ومعرفة قادمة من أفراد البرج، مقابل قناعة الأخير بما يمتلكه من معرفة. “اَلنَّفْسُ الشَّبْعَانَةُ تَدُوسُ الْعَسَلَ، وَلِلنَّفْسِ الْجَائِعَةِ كُلُّ مُرّ حُلْوٌ”. موقفين كلاهما يقدم رؤية يعتبره قيّمة، عن الحياة بحسب فكره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى