الرأي

كي يتسع الطريق

الحاج وراق
•    في زيارة قبل سنوات للولايات المتحدة الأمريكية، كان من ضمن البرنامج لقاءات مع أسر أمريكية عادية حتى يتعرف الزائر عن قرب على أنماط متعددة من الأسر الأمريكية.
ولا أزال أذكر زيارتنا لإحدى المدرسات. سألتها: لماذا انتصرت واستقرت الديمقراطية في  الولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر، رغم أن أوضاعها حين ذلك لا تختلف كثيراً عن أحوال أي من بلدان الجنوب ومن بينها السودان في القرن العشرين، سواء من حيث التخلف العام، أو ضعف الاتصالات والمواصلات، والتعليم، إلخ ؟ فأجابت بأنها ترى أن السبب الرئيسي في ذلك أن الآباء المؤسسين للجمهورية الأمريكية كانوا أشخاصاً كباراً، فتنازلوا عن بعض مصالحهم الآنية والشخصية والمناطقية كي يكسبوا ببناء أمة وديمقراطية راسخة.
•    ورغم أن مبحث استدامة الديمقراطية في بلدان الجنوب مبحث متشعب، يتصل كذلك بعدم اكتمال البناء الوطني في الدولة الأمة، وبوزن ومكانة القوى الحديثة والطبقة الوسطى، وصراعات الحرب الباردة، إلخ.. إلا أن تجربتي الهند والولايات المتحدة الأمريكية تؤكدان جوهر ما قالته المعلمة، حيث رغم التعقيدات الاجتماعية، لعبت النخبة الناضجة معنوياً وأخلاقياً دوراً حاسماً في استدامة الديمقراطية.
•    وسبق وأكد أحد أبرز مفكري العقد الاجتماعي مثل هذه الخلاصة، حيث قال بأن روح الديمقراطية النبل – أي بكلمات أخرى النضوج المعنوي والأخلاقي، فإذا لم يتوفر النبل فإن الديمقراطية تنحط إلى غوغائية، وهذا ما أكدته تجربة انتصار النازية والفاشية في أوروبا في القرن العشرين.
•    والآن إذ تتهيأ بلادنا من جديد لبناء ديمقراطيتها فيجدر بنا وضع هذه الخلاصة نصب الأعين، خصوصاً وأننا نشرع في المهمة بعد ثلاثين عاماً من خراب نظام الإنقاذ الشمولي، والذي لا تزال مناخاته المعنوية والأخلاقية قائمة.
•    وكان نظام الإنقاذ نظاماً للفاشية الطفيلية، يقوم على الاستحواذ على الموارد بنهبها أو التطفل عليها، وعلى إنكار التعددية عملياً بإزدراء وإذلال المختلفين والفتك بهم أو محاولة إخضاعهم إخضاعاً كلياً، وهكذا فإن مناخاته المعنوية والأخلاقية كانت تقوم بالأساس على التوحش – توحش في النهب والفساد، وتوحش في القمع، وتوحش في الإعلام والخطاب العام، الذي أريد له أن ينهض كبديل معنوي للإرهاب العملي الذي تمارسه الأجهزة الأمنية، فالذي لم يسكته الإعتقال والتعذيب في بيوت الأشباح، يسعى النظام لإخراسه بالترهيب المعنوي – بالتكفير والتخوين وآليات الحرب النفسية الظلامية: من إتهامات مجانية بلا دليل أو إفتراءات لا يمكن التحقق منها أو إنصاف حقائق يراد بها تمرير الأكاذيب كاملة الدسم أو الأكاذيب المحبوكة بعناية وحملات اغتيال الشخصية والإبتزاز بالمسلك الشخصي.
•    ولأن الإنقاذ لم تكن فاشية عادية وإنما فاشية دينية فقد رفعت توحشها إلى مستوى المطلق – فتوحش القمع يتحول جهاداً باسم الله حتى لا يقبل التردد أو التساؤل، كما تشرعن أساليب الخداع والخسة باعتبارها من مصلحة الدعوة !.
•    والخلاصة أن الإنقاذ وضعت غاياتها المقدسة فوق كل فحص، ثم وضعت حزبها حامل هذه القداسات فوق كل اعتبار آخر بما في ذلك الوطن والإنسانية، ثم وبالتداعي انتصب قادتها ومسؤولو أجهزة حزبها فوق كل اعتبار وقيمة. ولهذا انتهى الأمر مع كل الشنشنة عن الدين والأخلاق إلى مجرد نظام حرامية.
•    مسيرة بائسة لكنها لا تعني الإنقاذ وحدها، وإنما كذلك كل التصورات الشمولية، وتعنينا جميعاً بمقدار ما يعنينا أن صرح الديمقراطية لا يمكن بناؤه فوق مستنقع الإنقاذ المعنوي والأخلاقي، فلابد من ثقافة جديدة مغايرة ومتجاوزة – ثقافة ديمقراطية وإنسانية.
•    والمتأمل في المشهد السياسي الحالي لابد يلحظ وبقلق أن كثيراً من عدة توحش الإنقاذ لا تزال في كامل اشتغالها، ليس في مجال الخطاب العام ووسائل التواصل الاجتماعي التي يمكن فهمها باعتبار أن أنصار نظام الإنقاذ لا زالوا ينشطون بها ليلوثوا ويسمموا الفضاء العام، ولكن أيضاً في مجالنا السياسي الحيوي ووسط أحزابنا المناصرة للتحول الديمقراطي.
•    والديمقراطية في جوهرها قبول للتعدد والإختلاف، فإذا استمرت أحزابنا تصور أي خلاف فيما بينها وفق مصطلحات وآليات التوحش باعتباره (خيانة) و(بيع) و(عمالة) و(كفر) أو غيرها من سياط (حفلات) بيوت الأشباح المعنوية، فإننا بالقطع لسنا ذاهبون نحو تعددية يتعايش فيها المختلفون سلمياً تحت سقف المشتركات وإنما ذاهبون إلى الحرب الأهلية.
•    وكذلك يفشل الانتقال بتفشي الأنانية والعصبوية الحزبية، التي تقدم الأقزام ضعيفي القدرات والمواهب لمجرد الالتزام الحزبي، بدلاً عن تقديم الكفاءات ذوي الجدارة الشخصية.
لن ينجح الانتقال إلا بحشد أرفع الكفاءات في جهد جماعي منسق، والمسرح الذي يتصدره الأقزام ليس بقامة ثورة ديمقراطية، وإنما بقامة صغار الطغاة الذين يريدون أقزاماً يسهل التحكم بهم، والأهم أن مسرح الأقزام غير قادر على مواجهة التحديات الهائلة للانتقال ولذا فإن مصيره أن ينهار فوقنا جميعاً.
•    فيا أحزاب الحرية والتغيير، لأني لست راجياً ولا قابلاً لأي منصب حكومي، أجد الجرأة لنصحكم: ضموا صفوفكم، تقبلوا اختلافاتكم بديمقراطية وإنسانية، وسعوا وجدانكم لبعضكم البعض، ووسعوا مواعينكم للكفاءات بينكم وخارج صفوفكم، وسعوا لينفتح ويتسع الطريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى