الرأي

قناوي الزين (٢ – ٢) .. الثورة مستمرة وستنتصر

جعفر خضر

كان قناوي يجمع بين صفات قد تبدو متناقضة، وقل أن تجتمع في شخص واحد. فقد كان مسالماً للغاية، ومنذ طفولته، لدرجة أنه لم يتعارك مع شخص قط، ولكنه في ذات الوقت كان شجاعاً يجهر بكلمة الحق حين يصمت الآخرون، ويتقدم بجرأة حين يكون التردد سيد الموقف، وتظهر هذه الشجاعة من خلال العديد من المواقف .
كان قناوي من مؤسسي “تجمع المعلمين لتصحيح مسار العمل النقابي” في مارس 2003، كنقابة موازية لنقابة المنشأة . تأسس التجمع إثر توقيع عدد كبير من المعلمين على وثيقة تناولت قضايا التعليم والمعلمين، ثم انعقد مؤتمر من مناديب المدارس أفرز قيادة “تجمع المعلمين لتصحيح مسار العمل النقابي” التي تتكون من 19معلماً ومعلمة.
اجتمع والي القضارف البائد عبد الرحمن الخضر بالمعلمين في دارهم بالمدينة في ذات العام ٢٠٠٣، وكان قناوي أحد الذين طلبوا فرصة للحديث، ولما أعطيت له الفرصة، قام بتسليم مذكرة للوالي، الذي نظر فيها، ووجدها ممهورة بتوقيع “تجمع المعلمين لتصحيح مسار العمل النقابي”
فسأل الوالي: تجمع المعلمين ده شنو؟؟
رد قناوي: تجمع المعلمين ده ديل (وأشار ناحية المعلمين المحتشدين)
فإذا بكل المعلمين يقفون تلقائياً!! فأصابت الوالي هاء السكت فسكت !! بتعبير بشرى الفاضل.
وقد نظم هذا التجمع عدداً من الإضرابات، وناهض مشروع برج المعلم، وأصدر الكثير من البيانات التي تخاطب قضايا التعليم المختلفة، مما أحدث حراكاً نقابياً كبيراً، واجهته السلطة بالنقل التعسفي والاعتقالات.
وقد استطاع قناوي بحنكته السياسية من إخراج مظاهرة في العام 2009، صورها مبذولة في الأسافير، وقد كانت المظاهرات محرمة في عهد الإنقاذ . إليكم حيثياتها ..
عقدت القوى السياسية مؤتمراً صحفياً بدار الاتحادي الأصل بخصوص مشكلة المياه التي انقطعت لفترة طالت، كان قناوي يجلس في مكتب قرب نافذة تطل على الحوش الذي انعقد فيه المؤتمر ويتابع بعين فاحصة، لم يكن الخروج للشارع هو رأي المنصة، ولما سمع قناوي مداخلات الحضور الغاضبة، خرج وطلب فرصة.
قطع قناوي قول كل خطيب ودعا للخروج في مظاهرة لإسماع المعتمد الغضبة العارمة في مكتبه بالمحلية، ويبدو أن قناوي لم يكن على ثقة كاملة من استجابة البعض، فلجأ لاستخدام تكتيك لا يخلو من ذكورية بأن نادى إحدى المعلمات أن تعالي!، وهي كانت تجلس في الصف الخلفي، وأردف الذي لا يود الخروج فليجلس مكانها! فخرج الجميع في مظاهرة هادرة شقت سوق القضارف حتى وصلت مكتب المعتمد!! .
عززت تلك المظاهرة ثقة القوى السياسية بنفسها، فقد كانت المظاهرات نادرة ندرة الكبريت الأحمر.
قال لي قناوي لاحقاً إن المظاهرة كانت سريعة في خطوها، وكان من الضروري أن تبطئ الخطو لأن الغرض الأساسي هو حشد المواطنين في المظاهرة، وليس الوصول لمكتب المعتمد.
استخدم قناوي في تلك المظاهرة عصارة خبرته السياسية وتجربته لتنجح القضارف في إضافة حدث مهم، ينضاف إلى التراكم الثوري في منازلة الدكتاتوريات.
وسبق أن اعتقله جهاز الأمن بسبب بيان أصدره الحزب، ولما طالت الأيام، عملت أسرته لإطلاق سراحه خاصة وأنه يعاني من المرض. كان بعض أفراد الأسرة جلوساً مع مدير الجهاز محمد الطيب أمبيقه، فجيء بقناوي من زنزانته، فقال له أمبيقه: أنت زول كبير ومربي .. متلتل أهلك.. دي شغلة ليك؟!
رد قناوي: وأنت شغلتك دي شغلة؟! كلها قالو وقلنا!!
انفعل أمبيغه أرغى وأزبد وأمر بإعادة قناوي للحبس مرة أخرى!! فعادت الأسرة بدونه.
لم نكن متفقين دائماً في كل شيء، وهذا من طبيعة الأشياء. كان يناديني ب”عمو جعفر” كنت أحس فيها بدفء المحبة، اختارني لأكون معه في مجلس إدارة الجامعة، ولما كان الاجتماع الأول أرسلت الجامعة له / لنا سيارة، أصر قناوي، رغم معاناته، على الركوب معي في ظهرها ليساعد في تثبيت الكرسي المتحرك الذي أجلس عليه!
كان قناوي يحظى باحترام الأغلبية، إن لم يكن الكل، لأخلاقه الرفيعة، ولم تجد كل محاولات الشيطنة المقترنة بالشيوعية في النيل منه. فقد أجمع سكان حي المطامير على تنصيبه رئيساً للجنة الشعبية رغم أنف منسوبي المؤتمر الوطني في حوالي العام ٢٠١٥.
ولأنه كان يعاني من بعض الإشكالات الصحية في الكلى، كان يحمل معه ماءً نظيفاً في “باقة” إلى المدرسة، ليشرب منها. أشاع أحد الخصوم أن قناوي يذهب إلى المدرسة يومياً وبمعيته “الخمر”. ربما لا يدري هذا الكذاب الأشر، أن قناوي لا يتعاطى الخمر نهائياً. وأذكر أنه اعتذر عن دعوته لمجلس شراب لأنه لا يشرب.
وقد أخذ عليه البعض أنه خاطب المواطنين في ندوة للحزب الشيوعي بمسرح القضارف وقال ضمن كلامه (فيها شنو الزول لو شرب ليهو شربة في فرح أو في مناسبة). رغم أخذ البعض عليه ذلك، أظن أن الفلسفة التي كان ينطلق منها قناوي، أنه لا داعي لقهر الناس ومنعهم من تعاطي الخمور بالقوة، وإنما يمكن أن يقلع الشباب عنها بالوعي وبالتي هي أحسن.
طلب قناوي في أيامه الأخيرة من حداد ديم النور نايل موسى صناعة كارو حمار، وكان يهدف من خلالها لمساعدة أحد أبناء الجيران لتكون له مصدر دخل، كما كان يرغب في التنفل بها خاصة لمشواره اليومي صباحاً من منزله بحي المطامير إلى محله لصناعة الزيوت بالعصارة في السوق، وإياباً مساءً إلى البيت. وقبل أن يستخدم سيارته/الكارو انتهت أيامه في الحياة الدنيا!!
كان قناوي – رحمه الله – إنساناً زاهداً، مسالماً، محباً للحياة، وقلبه يتسع للجميع، حتى المختلفين معه فكرياً وسياسياً، ولا يحمل في قلبه ذرة من حقد على أحد.
كان صبوراً، وصادقاً، وشجاعاً، وجريئاً، ويحسن الاستماع إلى الآخرين، وكان يحمل هم الشعب ومعاناته .
في المستشفى دخل قناوي في غيبوبة أخيرة قبل وفاته، وقال داخل كمامة الأكسجين في غيبوبته الواعية، قال: الثورة حتستمر .. الثورة حتنتصر!!
يا الله .. حتى وأنت تغالب الموت يا أستاذ!
نعدك يا قناوي أننا على دربك سائرون وسننتصر!!.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى