قضايا فكرية: اشراف- د. هشام عمر النور

استبصارٌ نقديٌّ فرديٌّ:- شعوريّة الإبداع وفرديّته
“حالة دفاع عن الكتابة باعتبارها وَجْدَاً وليس بِنْيَة” (2 من 2)
إبراهيم جعفر كاتب وأكاديمي سوداني ببريطانيا
إذاً فالتقسيم النقدي للنص، في ضوء ما سقت من اعتقادات، يأتي عقب عملية شعور الناقد الذاتي به فيخرج من بروده وحياديته لمستوى الحيوية والطّراء، وربّما المعنى، وذلكَ حسب طاقته الإيحائية الكامنة التي شكلت تجربة المبدع الشعورية في النّص المعني. المؤلّف هنا لا يموت، كما زعم ميشيل فوكوه، بل هو حاضرٌ في آنِ كتابة النص ونقده كذاتٍ انفعاليةٍ (ذلكَ أنّ النصّ انفعال) ربما تُخفي بعداً تأمُّلياً أو لا في نصِّها المُبْدَع، فالنص الإبداعي لا ينفتح نقدياً إلاّ عند التقاء ذات الناقد (ذاته الشِّعُوريَّة) بالكائن اللغوي المحايد (الذي هو نصٌّ إبداعيٌّ مطروحٌ-هناك في العالم) فتتم عملية الإحالة من الموضوع (النَّص المُعطَى البارد المُصمت) إلى الذّات (معادل الانفعال والحيوية والسِّيولة) – على نحو ما وصفَ المنهج الفينومينولوجِي- الأنطولوجي عند إدموند هوسرل طبيعة الوعي باعتباره قصدي– فتُعاملُ الذات النص الإبداعي لا ككائن لغوي محايد في الأساس بل كتجربة شعورية ذاتية للمبدع تقمّصت كائناً لغوياً أو كينونةَ–هيئةَ كلامٍ ذاتَ نسجٍ ما.
ويُدعّم ذلكَ الموقف أنّ النصَّ الأدبيَّ المُبْدَع قبل تعيّنه في الكائن اللغوي كان له وجوداً ذاتياً (تهويميَّاً) في ذاتِ المبدع كتجربة انفعالية مبهمة وطرية تحاول أن تجدَ تعيُّنها وتخارُجها عبر تقمّصها لنصٍّ لغوي أو تشكيلي أو .. (فتتنوّع بذلكَ التجارب الفنية:- أدب، تشكيل، الخ). وتبدو البنائية كأنها تبدأ من النصِّ الأدبيِّ المستقلِّ عن تجربة المبدع الشعورية الذّاتية التي تشرط النّص وتأتي في الرتبة والزّمان قبله فهي الأساس والكائن اللغوي ليس سوى طريقة تجلّي ذلكَ الأساس أو الجَّوهر (الانفعال الذاتي أو التجربة الشعورية):- فكلُّ إيقاع، هو في الحقيقة إيقاع داخلي، وكلُّ صورة هي صورة داخلية، وكلُّ بنية هي بنية داخلية، الحالة تتشكّل في اللغة “3”، واللغة (الشعرية) لا تتشكَّل من دون [تِلْكَ] الحالة– من هنا جدلية اللغة والحالة وحوارهما الدائم– بول شاؤول– المرجع السابق- ص. 319.
إذاً فالبدء والمدخل النقدي يكون من تجلّي الظاهرة– المُعطى، وهي هنا الكائن اللغوي المُبْدَع، في ذات الناقد (باعتبارها تجربة انفعالية في الأساس وقد تقمّصت (بعد) كائناً لغوياً) وليس من (المُعطَى) المحايد للظاهرة ذي الوجود الموضوعي المُصْمَتْ والبارد إذا عُزِلَ عن “شعورِ” الناقد الذاتي الذي يُحالُ إليه النّصُّ الإبداعيُّ في آنِ كونه تجربة المبدع الشعورية المتجلّية في نسيجٍ من لغة.
ما قلته أعلاه ليس سوى نظرة فينومينولوجية للنقد تسوقني ختماً لوضعها إزاء نموذج المعرفة البنائية الذي هو حريٌّ بأن يكون النقيض الدقيق لرؤيتي التي كشفت. فنموذج المعرفة البنائية هو “وهم العقلانية”، هو اعتبار أنّ كلّ تفكير صحيح هو بالضرورة تفكير (عقليٌّ) لا تُلوّنه العواطف الشخصية وأنّ النقد عملية (“عِلميَّة”) موضوعية لا تُلوّنها العاطفة الشخصية و”الوجدانات” .. وذلكم هو، في جِمَاعِهِ، موقفُ الفلسفاتِ غيرَ الوجوديَّة وغيرَ العينيَّةِ جميعِهَا. ولكن أنا أستبصِرُ أنْ:- “أحياناً يأتيني المقال كما القصيدة ويُفيضُ ويتدفّق مني بلغته التي اختارها رغم أنه يُقال أنّ النقد ممارسة عقلية “مُحكّكة” وليس فيضاً، عملية موضوعية وليست ذاتية. ولكنّي أختلفُ مع هؤلاء. وربّما كان “هؤلاء”، بالجّملةِ، جميع نقّادنا الحاليين … أفهمُ أنَّ التّدفّق والفيض اللاّعقلانيّين هما سمة، ليس فقط القصيدة الناجحة والعظيمة، بل أيّ عملٍ أدبيّ عظيم سواء كان قصة أو مسرحاً أو حتّى دراسة .. !! .. ومثال المقال الذي أتاني “متدفّقاً” مقالي المنشور مؤخّراً في الأيّام (29/3/1983م) عن قصة “الثَّوب” للمبدع والشَّاعر ديلان توماس………” (من رسالة شخصية بتاريخ 19/12/1983م).
كما أنّ في البنائية نفياً لما هو فريد وفردي “لما هو عينِي”:- البنائيّة يسوقُها “وجدانٌ” ضدَّ الطبيعة الأساسية للوجدان فهي وجدانٌ يُنفِي نفسه إذ يتجه نحو الانتظام والاتِّساق– أي نحو الأبولونية في رمزيّة الأسطورة الإغريقية وبعيداً عمّا هو فريد وفردي، ففكرة ميشيل فوكوه القاضية بـ”موت المؤلّف” هي، تحديداً، تعني موت الفريد والفردي أو، بمعنى أعمق، هي تعني موت السِّرّ الشّخصي فالبنية ليست عينية “فرديّة” ولكن نمط تجريدي “حالة من حالاتِ النّصِّ، كما يقولون” لكن علامَ ينفتح النصُّ–الموضوع المطروح–هناك دونَ الالتقاء به على أنه تجلٍّ لذاتيّةٍ ما؟!
والموقف النقدي البنائي و”السيميوطيقي” هو (إحالة موضوعية)– كما شأن كلِّ تفكيرٍ علميٍّ أو وضعيٍّ positivist- للنصِّ الإبداعيِّ الذي هو “وجدانٌ” قد يَفتحُ، عند تكثُّفه، باب استبصارٍ ما، أو قُلْ هو– أي الموقف النقدي البنائي– ” تشيئة ” النّص بإغراقه في “النَّمط” الذي يُعبِّر بواسطةِ الشّخصِ. فالعملُ الإبداعيُّ، في نظرةِ ذلكَ الموقف، “ليس نوعاً من الجُّمل العاديّة، وإنّما هو تعبيرٌ بوساطةِ شخصٍ يُعبِّرُ بنمطٍ معيَّنٍ ذي نغمةٍ خاصّةٍ، ذلكَ النغم يضعُ صيغةً بإحدى صيغِ أو درجاتِ الالتزامِ المختلفةِ” “4” .. كما أنَّ الكتابةَ، في نظرَةِ ذاتِ المَوقَفِ، صناعةٌ “فمغامرةُ الكتابة إذاً، [وفق الموقفِ النَّقْدِيِّ البُنَائِيِّ] فيما يُسمِّيه النَّقدةُ القُدامى (صناعة). تلكَ (الصناعة) هي وعيٌ بخصوصيّةِ النّصِّ التي تسمحُ بعدّةِ لقاءات. فالشاعرُ يُبدعُ القصيدةَ متّخذاً كلمةً أو جملةً ثمّ يبدأ في انتشارها داخلَ النّصِّ. ويبقى التركيبُ الجُّمَليُّ في تنويعه– داخلَ ذلكَ الانتشار– متحوِّلاً عن مُستوى المحاكاة بالمعنى الإفلاطوني إلى مستوى اللغة” “5”. فبما كانت به الكتابةُ (صناعة) فهي لازمٌ لها إذاً أن تكونَ عمليّةً عقليّةً وليست فيضيَّةً، وهي وعيٌ بخصوصية النّصِّ وبالتّالي غيابٌ للسِّرِّ الشَّخصيِّ، باختصارٍ هي نفيٌ للذّاتِ الوجوديّة في كينونتها كـ”فيضٍ” وإحالتها “موضوعيَّاً” لنظامٍ فوقها مع أنَّها هي “خالقة” النِّظام في حالةِ كونها ذات عارفة. ذاكَ “كُتْلةُ” ما تراهُ البنائيّةُ في شأنِ الكتابةِ الإبداعيّةِ.
خاطرةُ التّكثيفِ الأخيرةُ عندي تقولُ، جُمْلةً، إنَّ الكتابةَ فيضٌ وليست صناعةً والكتابةُ معرفة قَمَرِيَّة تنتمي إلى السِّحرِ– بقدرِ إيغالها في العمقِ– وليست معرفةَ “اليوم”– أو قُلْ معرفة العقل والعمل والوضوحْ– الشَّمسيَّة. الكتابةُ الإبداعيّةُ في حقَّانيَّتِها حدسٌ وكَفَى.
حاشية:-
1. أُنظُر مارتن هايدقر، في الفلسفة والشِّعر “هولدرلن وماهيّة الشّعر– 1937م”- ترجمة:- عثمان أمين.
2. رولاند بارت، الدرجة الصّفر للكتابة (ص. 28)– ترجمة:- محمد بُرادة.
3. مَيَلانُ الخطِّ وتوكيده في ” الحالة تتشكّلُ في اللغة ” مُضافٌ من مؤلِّفِ هذه الكتابة.
4. اقتباسٌ من جوناثان كُلَرْ، نَشْدُ العلامات (روتليدج وكيقان بول، لندن، 1981م)، أجراهُ عبد الطيف علي الفكي في “قوّةُ النّص”– الزرقاء (مجلة رابطة سنّار الأدبية بالسودان)– فبراير/مارس، 1984م. الخطُّ المائلُ، في بعضِ المُقتَبَسِ، من عندي.
5. ذاتُ المَرْجعِ السّابقِ.
_____________________________________________________________
حوار في الأسئلة الجامعة والفارقة (6 من 6)
مناظرة أحمد عبد الحليم عطية لهيجل
د. مونيس بخضرة
كاتب وأكاديمي جزائري
ومن أولى هذه الكتابات الرائدة حسب إمام عبد الفتاح إمام، هي تلك التي قدمها الكاتب المصري بعنوان هيجل أو المثالية المطلقة،وبنفس الطريقة اهتم الكاتب عبد الفتاح الديديبالهيجلية، خاصة عندما قدم عملاً هاماً تحت عنوان “فلسفة هيجل” عارضاً لموضوعات متعددة عن حياة هيجل وفلسفته، وقدم عبد الرحمن بدوي، الذي عرف بوجوديته التي قامت مقابل فلسفة هيجل، عدة أعمال عن هيجل أولها “حياة هيجل” يتناول فيه حياته وسيرته الفكرية و”فلسفة القانون والسياسة عند هيجل” و”فلسفة الفن والجمال عند هيجل” بيروت 1996، وأسهم أيضاً الكاتب مجاهد عبد المنعم مجاهد إسهامات متعددة في تقديم فلسفة هيجل في الثقافة العربية تأليفاً وترجمة، هي: ثورة الجدل الهيجلي 1969 هيجل يتحصن خلف قلاع الحرية 1970 هل كان هيجل ماركسياً 1970 ليس بالمثالية يحيا هيجل 1970 سوف يخرج هيجل من بين القوسين 1971، هيجل بين الشعب والتاريخ 1974 وصدرت جميعاً في كتابه هيجل قلعة الحرية.(نحن وهيجل: الدين والثورة “مساهمة في نقد الفينومينولوجيا عربيا/ ص174).
وفي كتابه هذا، يقف أحمد عبد الحليم عطية عند إسهامات الكاتب المصري الهيجلي إمام عبد الفتاح إمام الذي أفرد مجالاً واسعاً من بحوثه للدراسات الهيجلية، حيث ترجم الكثير من النصوص الفلسفية لصاحب الفينومينولوجيا وكذا العديد من الدراسات حول فلسفته، بالإضافة إلى دراساته المتنوعة عنه.
ويبقى كتابه “المنهج الجدلي عند هيجل”، أول خطوة جدية خطاها الباحثون الأكاديميون عندنا في مضمار “الدراسات الهيجلية”، كما كتب زكريا إبراهيم في تحليله النقدي لهذا العمل. ويمكننا أن نجد في بعض مقدمات كتبه إشارات موحية عن علاقته بالهيجلية والتي نجدها بصورة مفصلة في كتاب “تجربتي مع هيجل، وهي محاضرة كان ألقاها بالجمعية الفلسفية المصرية ونشرت أولاً في مجلة أوراق فلسفية وهي توضح أثر هيجل في واحد من أهم المتخصصين العرب في فلسفته.
يظهر فهم إمام الأرسطي حسب عطية لهيجل في شكلين في عمله البارز “المنهج الجدلي عند هيجل”، الأول في تقسيمه وتبويبه وطريقة التناول، والثاني في فهم المصطلحات وفي مقدمتها مصطلح الجدل نفسه الذي يدافع عن كونه المنطق. فالمنهج الجدلي هو المنطق نفسه، وليس صورة طبقها هيجل في المنطق الكلي. يعدد إمام أقسام فلسفة هيجل الثلاثة: المنطق أو علم الفكرة الشاملة في ذاتها لذاتها وفلسفة الطبيعة أو علم الفكرة الشاملة في الآخر، فلسفة الروح أو علم الفكرة الشاملة وقد عادت من الآخر إلى نفسها. وهذه الجوانب ليست إلا تحديدات لفكرة واحدة أو لنسق العقل الذي يفض نفسه في صور مختلفة”.(نحن وهيجل: الدين والثورة “مساهمة في نقد الفينومينولوجيا عربياً/ 182).
وخلاصة القول من هذه القراءة الفاحصة لعمل المفكر “أحمد عبد الحليم عطية” الموسوم بـ: نحن وهيجل: مساهمة في نقد الفينومينولوجيا عربياً، أن هذا العمل يعد نافذة بالغة الأهمية على معرفة واقع الهيجلية في الفكر العربي المعاصر، إذ تكمن أهميتها في التحقيق والتنقيب الذي قام به الكاتب في هذا العمل، الأمر الذي جعله يقوم بمراجعة كل النصوص العربية التي اهتمت بالفلسفة الهيجلية، الكبيرة منها والصغيرة، سواء كانت كتاباً أو دراسة أو حدثاً، وبذلك ظهر المؤلف في عمله هذا حداثياً متشبعاً بروح مدرسة الحوليات التي تولي قدراً كبيراً للهامش في التحقيق زيادة عن الأمور الأساسية بروح توثيقية خالصة.
استطاع المفكر “عطية” في عمله هذا أن يوجد جسراً بيننا وبين هيجل، ويفتح ممراً مزدوجاً. ممر يخص حضور الهيجل في الفكر والثقافة العربية، وممر يخص حضور العرب في الفلسفة الهيجلية، كما تميز هذا العمل بروح النقد وقوة المراجعة، ففي الكثير من زواياه نجده قد حمل نقاط نقد صارمة لبعض أفكار هيجل التي قللت من شأن شعوب كثيرة وأدوارهم في بناء الحضارة العالمية، خاصة تلك التي أسمت بالعنصرية والتي اختزلت مهارات وإبداعات مجتمعات بأكملها وما احتواه تراثها من نقاط مضيئة في تاريخها، وهنا توقف “عطية” على مخاطر انحراف الفلسفة عن مسارها الطبيعي، والذي غالباً ما يكون ساماً وهداما يشتت لا يجمع، يهدم لا يبني، كالتي ظهرت بها الهيجلية في حكمها على المسلمين والأفارقة والآسيويين. وهي المشكلة التي أراد أن ينبهنا إليها “عطية” في ترصيع كتابه بعناوين فرعية تحلل هذه المآزق والانحرافات التي تتسبب فيها الفلسفة أحياناً على غرار الهيجلية مثلاً.
في بنائه لهذا الكتاب، يذكرنا عطية بنص فينومينولوجيا الروح، وهو نص محنة الوعي الغربي الذي اعتبره هيجل في هذا النص النموذج القابل لاختبار، كون أن الوعي الغربي اتخذ مساراً زمانياً لم يعرف فيه الخسران أو الإخفاق مقارنة بنماذج وعي الشعوب الأخرى، وعلى هذا الأساس اعتبر هيجل انطلاقة الوعي الغربي التي كانت فلسفية ومحايثة للوجود رسمت أفقها ضمن ما سماه بالمطلق، وعليه ستغدو الفلسفة علماً مطلقاً (المعرفة المطلقة)، وبعض الهيجليين المتأخرين اعتبروا أن مزاعم هيجل هذه كان يقصد بها فلسفته، وفي خضم ثنايا هذا النص الفاتح، نتساءل أين يحضر العرب فيه؟
القارئ لنص الفينومينولوجا والذي اعتبره صاحبه مقدمة لنسقه الفلسفي، أي أن الفينومينولوجيا هي مقدمة للفلسفة الهيجلية، وكل الأعمال الأخرى التي كتبها هيجل، هي فقط شارحة لنص فينومينولوجيا الروح، يمكننا أن نعثر على أنفسنا فيه بنوع من التأويلية في الفصل الأول الذي تحدث فيه على الوعي الحسي والإدراك، وهو فصل في الأنثربولوجية الفلسفية، والذي حلل فيه التكوينات الأولى للوعي والحالات البدائية التي ينفتح فيها العقل على الأشياء، والتي تتسم بالفجائية وسوء تقدير الأشياء وتداخل التصورات والأحكام فيما بينها، وهي مرحلة تسبق مرحلة العقلانية، والتي يكون فيها العقل مرجعاً لذاته وللعالم، حيث أن في هذا الجزء من الفينومينولوجيا لم يذكر فيه هيجل العرب بالتسمية، وإنما أشار بنية وعيهم التي لا تزال قابعة في مستوى الإدراك الحسي رفقة شعوب أخرى نتقاسم وإياها البنية نفسها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خطوط المقابلة مع كاثرين مالابو
الفوضوية كاسمها تشير إلى أنها تخلو من أي مبدأ أو أساس، هي نمط من الوجود يجب أن يبني نفسه كما هو.
النموذج في التعليم مثل القناع، يمكنك ارتدائه لفترة معينة من أجل العثور على هويتك، أعتقد أن التعليم مستحيل بدون لعبة الأقنعة هذه.
التعليم هو الاختيار، ولكن لا ينبغي تقديم معايير مسبقة إذا أردنا اختياراً حقيقياً ومتكافئاً وديمقراطياً، يجب اختراع المعايير أثناء الاختيار.
تؤكد اللدونة أن ليس كل ما يحدث مفاجئاً وغير متوقع تماماً. الأحداث ليست أبداً أحداثاً خالصة، لكنها تكشف عن علاقة جدلية بين التوقع والمصادفة.
الشكل دائماً أكثر من نفسه، أنه منظمة أي تعاون أو شبكات لعناصر مختلفة: هو شكل، بالطبع، ولكنه أيضاً السياق، والجسدية، والسرعة، واللون، والإحساس.
أبحاث الدماغ مفتوحة وخلاقة، ولكنها أيضاً معيارية وقمعية ورجعية، ولذلك نحتاج إلى الفلسفة لإدخال طرائق التفكير النقدية فيها.
الدماغ لا يتعين بما لدي في جمجمتي وإنما بالكائن بأكمله.
//////
مقابلة مع كاثرين مالابو (2 من 2)
اللدونة والتعليم
أجرى اللقاء كجتيل هورن هوقستاد ونشر بالإنجليزية في 15 يونيو 2021م
Kjetil Horn Hogstad (2021): Plasticity and education – an interview with Catherine Malabou, Educational Philosophy and Theory, DOI: 10.1080/00131857.2021.1940140
ترجمه إلى العربية هشام عمر النور
كاثرين مالابو أستاذة الفلسفة في مركز الأبحاث في الفلسفة الأوروبية الحديثة، في جامعة كينجستون بالمملكة المتحدة، وفي أقسام الأدب المقارن واللغات والدراسات الأوروبية في جامعة كاليفورنيا في ايرفين. من كتبها الأخيرة قبل الغد، التخلق والعقلانية، الذكاء: من الذكاء إلى الذكاء الاصطناعي، المتعة الممحية: البظر والتفكير.
مقابلة مع كاثرين مالابو أجراها كجتيل هورن هوقستاد
وقت الربيع في باريس، كما نعلم من الأغاني، ليس سيئًا. الأغنية الأقل شهرة عالميًا هي الأغنية التي تمجد جمال أشجار الكستناء المزهرة في أوسلو. ونظرًا لأن قيود السفر الدولية سارية حاليًا، فسيتعين على السفر الانتظار، وبالتالي يجب إجراء هذه المقابلة عبر تقنية الفيديو في الانترنت. وسنناقش أسس تفكير مالابو بالإضافة إلى العديد من القضايا: العقلانية والمادية و”التعليم الفوضوي” ومسألة الحياة نفسها.
كجتيل هورن هوقستاد: لجلب مفهوم آخر من دريدا، أتساءل: ما الذي يجلبه مستقبل اللدونة، ربما لطرح سؤال مستحيل؟
كاثرين مالابو: “انشغالي البلاستيكي” الحالي هو الفوضوية باعتبارها أكثر أشكال السياسة بلاستيكية. إنها نمط من الوجود، يجب أن يخترع نفسه باستمرار، بشكل جماعي أو فردي. الفوضوية كاسمها تشير إلى أنها تخلو من أي مبدأ أو أساس، هي نمط من الوجود يجب أن يبني نفسه كما هو.
في الوقت الحالي، أبحث في دافع الفوضوية لدى سبعة مفكرين. أولاً، أرسطو، الذي اخترع مصطلح archẽ ثم، شورمان، ليفيناس، دريدا، فوكو، أغامبين ورانسيير – أحاول أن أرى كيف يعمل هذا الدافع سراً في كتبهم وكيف، في نفس الوقت، يرفضونه. أنا في الحقيقة أقوم بتشكيل مفهومي الخاص عن الفوضوية من خلال إشارات رفضهم.
كجتيل هورن هوقستاد: عندما كتبت عن المفهوم التعليمي الألماني Bildung، انتهى بي المطاف في مكان ما على غرار الفوضوية لأنني كنت أحاول أن أتخيل كيف ستكون المقاربة البلاستيكية لها. هل تعتقدين أن هناك إمكانية للتربية الفوضوية، أم أن بنيتها ذات الأهداف التربوية والأفكار والتعليمات، وما إلى ذلك، تقاومها؟
كاثرين مالابو: على حد علمي، لا يوجد سوى انخراط فلسفي حقيقي واحد مع هذا السؤال، وهو عمل جاك رانسيير، في كتابه معلم المدرسة الجاهل The Ignorant Schoolmaster، فقد طور نظرية عن نمط تعليم فوضوي بحت. المعلم لا يعلم الطلاب أو يجعلهم يفهمون أي شيء. بدلاً من ذلك، يساعدهم في تعليم أنفسهم. إنه يعلم كيفية التدريس، بمعنى معين.
إذا تابعنا رانسيير، فعلينا أن نفترض، على سبيل المثال، أن الطالب الذي لم يدرس اللغة الإنجليزية أو الفرنسية من قبل، يمكنه أن يتعلم بنفسه، تدريجياً، إذا أعطيته نصًا فقط. يدافع رانسيير عن ما يسميه المساواة الجذرية بين جميع الذكاءات، مما يعني أن المعلم ليس لديه شيئاً أكثر من الطلاب.
يقول رانسيير أيضًا أن المسرح، على سبيل المثال مسرحيات بريخت، تعليمي للغاية بالمعنى التقليدي لأنه يعطي رسالة للمشاهدين. رانسيير ضد جميع النماذج، القائمة على نوايا لتعليم شيء ما لشخص ما، سواء كان ذلك في الشكل المسرحي أو غير ذلك. في رأيي، هذا متطرف للغاية. أنا أؤمن باستقلالية الطلاب بالطبع، لكن في نفس الوقت أعتقد أن المعلم يجب أن يقترح بعض الأشكال أو النماذج. يبدو من الصعب التخلي عن الدور الذي يلعبه النقل. بعد ذلك، الطلاب أحرار في اتباع النماذج أم عدم اتباعها، لكنني أعتقد أن الإسقاط المؤقت، بمعنى التحليل النفسي، ضروري.
بالنسبة لي، الفوضوية لا تعني الغياب التام للنماذج. لكن النموذج ليس بالضرورة أن يكون قانونًا أو شيئًا نهائيًا. إنه مثل القناع، يمكنك ارتداء قناع لفترة معينة من أجل العثور على هويتك، وبعد ذلك عندما تصير لا حاجة لك فيه، يمكنك التخلص منه. أعتقد أن التعليم مستحيل بدون لعبة الأقنعة هذه.
كجتيل هورن هوقستاد: هذا موضوع تلتقطينه في كتابك “أي مادية؟”، حيث تناقشين العلاقة الرمزية بين الانتقاء الطبيعي والاختيار الاجتماعي. وتجادلين بأن الانتقاء الطبيعي، كما هو غير قصدي، أكثر مرونة من الاختيار الاجتماعي الذي يفترض معايير معينة.
كاثرين مالابو: بالضبط. في الواقع، يجب أن يخترع الاختيار معاييره الخاصة. من أجل الاختيار الحقيقي، ولكي يحدث الاختيار المتكافئ والديمقراطي، لا ينبغي تقديم المعايير مسبقًا، بل يجب اختراعها أثناء حدوث الاختيار. هذه الفكرة قديمة قدم نيتشه وهي تمس بالضبط ما كنت أقوله منذ لحظة عن النماذج. التعليم هو الاختيار على أي حال، بطريقة أو بأخرى.
كجتيل هورن هوقستاد: وهذا الاختيار يتجه بشكل مثالي نحو العدالة أو شيء من هذا القبيل. يتطرق دريدا إلى نفس الشيء في كتابه أطياف ماركس Specters of Marx الذي انتقدتيه. رأيه في المسيحاني لا يتناسب مع زمانية اللدونة، أليس كذلك؟
كاثرين مالابو: لا، لأنه مع استمرار دريدا، أصبح “مسيحانيًا” أكثر فأكثر. يظل دافعه عن “مسيحانية بدون مسيحانية” هو أيضًاً مسيحانية. كان هذا متأخرًا جدًا في النص، كما لو كانت كلماته الأخيرة إلى حد ما. في رأيه، إذا حدثت العدالة أو الديمقراطية، فسيكون ذلك بمثابة حدث خالص وليس شيئًا يمكننا توقعه أو التنبؤ به، سيقع فقط أو لا يقع.
كجتيل هورن هوقستاد: ولا يمكنك فعل أي شيء حيال ذلك. لكن حسب اللدونة، يمكنك ذلك.
كاثرين مالابو: حسنًا، على الأقل، تؤكد اللدونة أن كل ما يحدث ليس مفاجئًا وغير متوقع تمامًا. اللدونة كمفهوم ورثناها من هيجل وماركس، مما يعني أنها مرتبطة بحس قوي للتاريخ. الأحداث ليست أبدًا أحداثًا خالصة، لكنها تكشف عن علاقة جدلية بين التوقع والمصادفة.
كجتيل هورن هوقستاد: لقد غير دريدا رأيه قليلاً حول هذه النقطة، أليس كذلك، عندما كتب مقدمة كتابك الأول، مستقبل هيجل؟
كاثرين مالابو: لقد فعل، لكن إذا كنت تتذكر جيدًا، فهو يقول في مكان ما إن مفهومه عن المؤقت ليس من البلاستيك لأنه لا يستطيع أبدًا رؤية أي شيء قادم. بالنسبة له، المؤقت ليس بلاستيكيًا، مما يعني أنه لا يمكن لأي حدث أن “يتشكل”، أن يتبلور في شكل ما. لهذا السبب الأشياء المهمة حقًا، مثل العدالة أو الديمقراطية القادمة، ليست بلاستيكية. اعتبر دريدا أن اللدونة كمفهوم ميتافيزيقية للغاية، بسبب اعتمادها على مفهوم الشكل، فبالنسبة له، لا يمكن أن يكون هناك أي شكل له معنى غير ميتافيزيقي وغير تقليدي. الشكل مرتبط بالضرورة بالوجود والرؤية.
كجتيل هورن هوقستاد: إنه مرتبط ولكنه في اللدونة قد تم تثويره، أليس كذلك؟ لأنك كنت واضحة جدًا في جميع كتبك أن الشكل، حتى المتعالي منه، يتغير. في اللدونة، الشكل نفسه ليس ثابتًا، إنه يحتفظ برباطه مع الصيغ الميتافيزيقية للماضي، لكنه مختلف.
كاثرين مالابو: الشكل دائمًا أكثر من نفسه. الشكل لا يكون أبدًا مجرد شكل أو محيط. إنه منظمة، أي تعاون، أو شبكات، لعناصر مختلفة: هو شكل، بالطبع، ولكنه أيضًا السياق، والجسدية، والسرعة، واللون، والإحساس. ولذلك تنتمي دراسة الأشكال إلى ما تسميه بشكل جميل “المادية السيميائية”.
كجتيل هورن هوقستاد: أي أن دريدا لم يكن مهتمًا بالمادية السيميائية بهذا المعنى.
كاثرين مالابو: لا، لكن حتى أنا لم أكن كذلك في البداية. أتذكر أنني كنت شديدة النقد “للثورة العصبية” التي أثارها كتاب جان بيير تشانجوكس الرجل العصبي The Neuronal Man عندما صدر عام 1983. اعتقدت أن تشانجوكس يهدف إلى اختزال الإنسان إلى آلة خالصة، وقد استغرق الأمر مني وقتًا لاكتشاف أن الأمر ليس كذلك. وأن هنالك شيء آخر على المحك.
كجتيل هورن هوقستاد: أفترض أن بعض ما هو على المحك هو فكرة الدماغ كشيء جامد، وهو أمر بارز جدًا في التعليم أيضًاً. التوتر بين المعطى والنمو في الدماغ في التعليم مثير للاهتمام لأننا مستغرقون في هذه التشخيصات المختلفة – اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، وعسر القراءة، وعسر الحساب – وهو استغراق يبدو أنه يشير في الغالب إلى تحجير الطالب. إذ أنه طالما لديك تشخيصًا، فلا يمكنك فعل أي شيء حيال ذلك.
كاثرين مالابو: المشكلة هي أن علم الأعصاب معياري للغاية، لهذا السبب نحتاج إلى الفلسفة لإدخال بعض طرائق التفكير النقدية فيه. يمكن أن تكون أبحاث الدماغ مفتوحة وخلاقة، ولكنها أيضًا معيارية وقمعية ورجعية.
كجتيل هورن هوقستاد: لذلك علي أن أسأل: لماذا التركيز على الدماغ، بالضبط؟
كاثرين مالابو: يدرك الأشخاص الذين لديهم معرفة بأبحاث الدماغ أن “الدماغ” لا يتعين بما لدي في جمجمتي، ولكن يتعين بالكائن بأكمله.
كجتيل هورن هوقستاد: ربما، إنه مكان للحياة؟
كاثرين مالابو: بالتأكيد، نسق للحياة بالطبع.