استنارةصفحات متخصصة

في مقتضيات التأسيس لدولة المواطنة

(عباس بوغالم)

في مقتضيات التأسيس لدولة مجتمع المواطنة

عباس بوغالم

تهدف هذه الورقة البحث في أهم الشروط والآفاق التي تجعل من مطمح تحقيق مجتمع المواطنة ودولة المواطنين مطلبا مشروعا وممكنا، وذلك من خلال الارتكاز على إشكال مركزي يتمحور حول سبب فشل المجتمعات العربية في تحقيق مفهوم المواطنة، وسبب بقاء هذه المجتمعات مجرد مجتمعات رعايا لا مجتمعات مواطنين؟ من هنا تأتى أهمية البحث في العوائق البنيوية التي حالت ولا تزال دون تحقيق هذا المطمح في البلدان العربية. وعلى هذا الأساس ننطلق من كون مفهوم المواطنة يتطلب وجوده إقرار مجموعة من المتطلبات والمقتضيات تعد بمثابة شروط أساسية بدونها لا يمكن القول بمراعاة مبدأ المواطنة في دولة ما، وهو ما يشكل أفق هذه الورقة التي تروم تحديد أهم مقومات ومتطلبات تأسيس دولة /مجتمع المواطنة (أولا)، لكن قبل ذلك لا بد من التوقف عند بعض المقدمات التأسيسية التي نعتقد أنها تكتسي أهمية كبرى حين الحديث عن مفهوم/مبدأ المواطنة (ثانيا).

أولا ــ المواطنة: في بعض المقومات التأسيسية :

الحديث عن مفهوم المواطنة يقتضي ابتداء التذكير ببعض المقومات الأساسية التي بدون وجودها يصب القول إننا إزاء مفهوم المواطنة كما تبلور في الفكر السياسي الحديث، هذه المقومات يمكن تحديدها في خمس مقدمات:

المقدمة الأولى: لا مواطنة بدون دول مدنية:

ثمة ارتباط وثيق بين مفهوم المواطنة والدولة الحديثة، إذ لا يمكن تصر هذه الأخيرة بدون مواطنة، كما أن الموطنة لا يمكن تأسيسها وترسيخها إلا في ظل الدولة الحديثة. فالإطار المؤسساتي الذي تمارس فيه المواطنة هو الدولة المدنية الحديثة، وبالتالي يصب الحديث عن مواطنة في إطار دولة تقليدية تؤسس لمجتمع الرعايا.

والدولة المدنية هي الدولة التي تتأسس على تعاقد بين الحاكمين والمحكومين، وبالتالي لا بد أن يجسد هذا التعاقد نوعا من الديمقراطية أو حرية الاختيار، عندما تكون مشروعية الدولة مؤسسة على الاختيار والتعاقد آنذاك يمكن أن نكون أمام دولة مدنية، كما أن الدولة بطبيعتها هي دولة مدنية، وليست دولة دينية مقدسة، إنها معطى إنساني عقلاني، بقطع النظر عن الأساس الفكري الذي تقوم عليه. والتنظير للحكومات المدنية تبلور مع «جون لوك» في كتابه «مقالة في الحكومة المدنية»، حيث وضع مفهوم الحكومة المدنية في مواجهة الدولة الاستبدادية، فالدولة المدنية نقيض للدولة الاستبدادية، أي نقيض للحكم المطلق.

أما التي تستند إلى المشروعية الدينية فهي دولة دينية يغيب فيها مبدأ التعاقد بين الحاكم في الدولة والمحكوم، هذا الحاكم لا يمكن للأمة أن تسائله لأنه مسئول فقط أمام الله، فالحاكم يؤسس وجوده على نظرية الحكم الإلهي بصته ممثلا لله في الأرض، ويصح محتكرا للسلطة باسم الله، وهنا أيضا تصح الدولة المدنية نقيضا للدولة الدينية لأن الدولة تستند إلى مشروعية دينية تلغي حق المحكومين في اختيار من يحكمهم، وتلغي أيضا حقهم في مساءلتهم.

من هنا، فالمواطنة لا تتحقق إلا في ظل دولة مدنية وفي ظل نظام سياسي ديمقراطي- تعددي، يحترم حقوق الإنسان ويجسد إرادة المواطنين في اختيار حكامها والاحتفاظ بحق مساءلتهم، كما أن مفهوم المواطنة لا يكتمل إلا في الدولة التي تمارس الحياد الإيجابي تجاه توجهات ومعتقدات وأيديولوجيات مواطنيها. فالدولة التي تحترم الإنسان وتصن كرامته، وتمنحه حرياته الأساسية، هي الحقيقة الموضوعية الوحيدة التي تبلور مفهوم المواطنة، وتخرجه من إطاره النظري المجرد إلى حقيقة سياسية ومجتمعية راسخة وثابتة1.

المقدمة الثانية: لا مواطنة بدون تعاقد

إن التعاقد يعد من الأوليات الأساسية التي جعلت من مفهوم المواطنة أفقا للعمل من أجل مجتمع يمتلك الإرادة والقدرة على صاعة مصره في إطار التعاقد والتوافق والديمقراطية كما بنيت في تجارب سياسية عديدة2، لذلك، يمكن القول إنه لا يمكن تصر وجود مواطنة ما في ظل غياب مبدأ التعاقد، فالمواطنة في ظل دولة ما لا تقوم إلا على أرضية التعاقد الحر بين أفراد أحرار بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، أي بين أناس متساوين في القيمة والدور والمكانة3.

المقدمة الثالثة : لا مواطنة بدون استقلالية المجال السياسي:

إن المجال السياسي في أغلب البلدان العربية الإسلامية ظل حتى وقت قريب مجالا يحتله الحاكم بمفرده، ولم تعرف هذه البلدان قطيعة بين حكامها وما يسمى في هذه البلدان بـ «الدولة»، بل ظل الحاكم فيها هو الدولة والدولة هي الحاكم4، الأمر الذي حال دون بروز مفهوم المجال السياسي باعتباره فضاء للممارسة السياسية كما حص في أوروبا ونتيجة الصاع بين «الأمير» والكنيسة خلال القرون الوسطى الذي أسفر عن ظهور مجال جديد في الحياة الاجتماعية هو مجال»السياسي» شكل طرفا ثالثا في حلبة الصاع بين الأمير والكنيسة، هو»الشعب»، مما أصح يشكل مجالا سياسيا جديدا هو «المجال السياسي» الذي يجسد ما يعبر عنه ب»الحداثة السياسية» التي تتجسد بدورها في دولة المؤسسات5 ولعل هذا ما يفسر سبب عدم تطور الدولة العربية التقليدية إلى نموذج الدولة الحديثة، وهي نفس الإشكالية التي عالجها عالم الاجتماع الفرنسي، برتراند بادي، في كتابه: الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام6، متسائلا عن سبب عدم تطور الدولة في بلاد الإسلام-على غرار الدولة في أوربا- إلى الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، دولة «الحداثة السياسية» التي تستمد الشرعية من كونها تمثل إرادة الشعب، المعبر عنها بواسطة انتخابات حرة، وتعمل لخدمة المصحة العامة.

من هنا فإن إقرار مبدأ المواطنة يقتضي ابتداء تحرير المجال السياسي من هيمنة وسطوة الحاكم في أفق تكريس استقلاليته التامة، حتى يصر المجال السياسي فضاء حرا للممارسة السياسية والتنافس السياسي لتفاعل مختلف الإرادات، كذا ذوات حر مستقلة ومسئولة، إرادات مواطنين.

المقدمة الرابعة: لا مواطنة بدون المشاركة في صع القرار السياسي/الحكم:

انسجاما مع التكييف الفرنسي للمواطنة باعتبارها أكثر من مجرد جنسية، من خلال التمييز بين «المواطنة» بصتها رابطة مادية ورمزية شاملة تجمع الأمة بمواطنيها، وبين»الجنسية»، باعتبارها تعبيرا قانونيا عنها، يمكن القول أن إكساب المواطنة مرتبة أسمى من الجنسية في بعدها الحقوقي، يترتب عنه تمتع الأفراد ليس بجملة من الحقوق فقط، بل جعلها مصرا من مصدر شرعية المشاركة وتدبير الشأن العام7، فالمواطن ليس موضوع جنسية تمنحه أحقية الاستفادة من الحقوق والوفاء بالواجبات فقط، بل هو أولا وأساسا فاعل سياسي واجتماعي يشارك الدولة ممارسة السلطة عبر المؤسسات والقنوات الشرعية ذات الشأن8.

المقدمة الخامسة: لا مواطنة بدون مجتمع متشبع بقيم المواطنة:

ولاشك أن تثبيت أسس ثقافة المواطنة في الفكر والوجدان والممارسة الاجتماعية يقتضي تكريس ثقافة سياسية تؤمن وتؤسس لمنظومة القيم الديمقراطية، الأمر الذي يتطلب بدوره توفير مختلف الشروط والآليات الضرورية لتحويل مبدأ المواطنة من مجرد شعار أو مطمح اجتماعي أو سياسي إلى واقع ملموس مؤسس لمجمل القيم والعلاقات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية. فالمواطنة بجانب كونها هوية وحقوق، هي في جوهرها تجربة حياتية مشتركة عابرة للاختلافات المشروعة9.

ثانيا: المواطنة: في متطلبات التأسيس :

من أجل تجسيد وتعميق مبدأ المواطنة نعتقد أنه لا بد من تكريس مجموعة من القطائع في مقابل التأسيس لمجموعة من البدائل حددناها في الآتي:

القطع مع التمثلات التيوقراطية لممارسة السلطة السياسية: مدنية السلطة السياسية

رغم أن الإسلام يقرر مدنية السلطة السياسية ويؤكد على بشريتها، ورغم أن قيم الإسلام السياسية لا تؤسس لنظام حكم تيوقراطي، وإنما تدعو وتحث على تأسيس حكم منبثق من جسم الأمة10، فإنه لاتزال مقولة الدولة الدينية والسلطة الدينية تتردد لدى بعض الأطراف حين الحديث عن نموذج الحكم الذي يؤسس له الإسلام، مما جعل السجال يحتدم حول مسألة موقف الإسلام من «الدولة الدينية»، حدة هذا السجال دفعت بعض الباحثين إلى القول إن المشكلة الحقيقة لا تكمن في معرفة ما إذا كان الإسلام يرفض الدولة الدينية أم لا، ولكن في تفسير ظاهرة نشوء من يقول بها أو يدافع عنها ومعرفة أسباب استمرار النزوغات نحو الدولة الدينية بالرغم من نشوء وتطور الدولة السياسية والعقلانية11.

الواقع أن ما يعزز مثل هده المخاوف هو تزايد وارتفاع منسوب الدعوات في العالم العربي والإسلامي، الرامية إلى صغ مؤسسات الدولة بصغة الدين. دعوات من قبيل: السلطة الدينية، والدولة الدينية، والنظام الديني…،هذه المقولات تعكس التمثل الثيوقراطي للسلطة السياسية لدى شرائح واسعة من أبناء التيار الإسلامي، سلطة لاهوتية تستمد مصرها من مصدر علوية غريبة عن العالم الأرضي، السلطة من هذا المنظور هي في النهاية نيابة عن الله في الأرض إنها باختصر تنتمي إلى عالم المقدس، إن تصر مثل هذا هو المستحكم في عقول عدد غير قليل من أبناء التيار الإسلامي، ولما كانت العودة إلى الشريعة حلم هؤلاء، فإنهم لا يكادون يتصرون وجودا لدولة غير الدولة الدينية ولا وجود السلطة غير السلطة الدينية، وهو تصر أبعد ما يكون عن قيم الإسلام السياسية المؤسسة لطبيعة الدولة والسلطة السياسية، وإذا جاز توصف الدولة في الإسلام بالدولة الإسلامية، فإنها لا توص بالدولة الدينية، لانتفاء مقتضيات هذه الأخيرة في دولة الإسلام، فلا وجود فيها لحق أو تفويض إلهيين لممارسة الحكم، ولا قداسة ولا عصة للحكام فيها، ولا سلطة بدون مسؤولية أو سلطة مطلقة فيها.

وللقائلين بشبهة دينية الدولة في الإسلام، نكتفي بالإشارة إلى أن مقتضى التسليم بوجود”السلطة الدينية” لفرد أو هيئة يقتضي إضفاء القداسة والعصة على هؤلاء، وهذه العصة ينفيها الإسلام عن البشر جميعا ولا يعترف بها إلا للرسول(ص. لذلك لا وجود لسلطة دينية للحاكم أو لغيره في دولة الإسلام، فالخليفة أو رئيس الدولة وإن كان يملك اختصاصت دينية ويرفع له الدعاء في المساجد، إلا أنه لا يملك أدنى سلطة روحية على المسلمين، بل إن الخليفة أو أمير المؤمنين مقيد بإرادة الأمة التي بايعته، وليس له الحق وحده في بيان الدين الحنيف وتفسير نصص.

وتأسيسا على ما سبق، فإنه إذا كان الإسلام لا يؤسس لمفهوم الدولة الدينية أو للسلطة الدينية، فإن كل تداول لهذين المفهومين في المجال التداولي الإسلامي من قبل البعض، من منطلق التأسيس والتأصل لهما في التربة الإسلامية يعكس التباسا في المفاهيم، ولا يعدو ذلك ضربا من نوستالجيا متوهمة ومستحيلة تختال وعيا منفصما ومنفصلا عن التاريخ والواقع12، كما أن الجهود الرامية إلى هدم أسس هذه الدولة الدينية المفترضة من قبل البعض الآخر، يعتبر هدرا للطاقة والزمن، لأن هذه الدولة الدينية لا وجود لها معياريا في النصص التأسيسية الإسلامية، ولأن كان هناك من وجود فهو على مستوى التصرات والتمثلات التي تسحوذ على الكثير من المخاييل، بل إن كل حديث عن مفهوم «الدولة الدينية» في مجالنا التداولي الحالي، ولو على سبيل الإمكان هو حديث غير ذي جدوى، لأن التاريخ قد تكفل بتدمير هذه الدولة الدينية في سياقها الحضاري ، وبالتالي فالرهان اليوم هو تأسيس وبناء الدولة ذاتها، وإن كان لابد من تدمير وهدم فينبغي أن يطول التصرات والتمثلات الثيوقراطية السائدة عن طبيعة الدولة التي يؤسسس لها الإسلام.

القطع مع شخصة السلطة: تكريس دولة المؤسسات

لعل أهم معضلة واجهت البلدان العربية الإسلامية وشكلت عقبة أمام تطورها لنموذج الدولة الحديثة هي إشكالية شخصة السلطة، أي اختلاط الحكم بشخصة السلطة الأمر الذي ترتب عليه الجمع بين السلطة والسيادة في شخص الحاكم، لذلك لم تتطور علاقة المحكوم بالحاكم لتصل إلى مفهوم المواطنة13، لأن الناس في هذا الحال هم مجرد رعايا خاضعون لإرادة الحاكم ومشيئته، والثقافة السياسية السائدة في مثل هذا النموذج من الحكم هي ثقافة سياسية اجماعية لا يمكن للمحكوم أن يخضع في إطار هذه الثقافة، إلا لسلطة شخصنية، من هنا فالتأسيس لدولة/مجتمع المواطنة يمر من جهة عبر القطع مع شخصة السلطة والقطع مع الثقافة السياسية المصحبة لها من جهة أخرى.

أما القطع مع شخصة السلطة فيقتضي زوال وجود مظاهر حكم الفرد أو القلة من الناس، وتحرير الدولة من التبعية للحكام، وذلك باعتبار الشعب مصر السلطات وفق شرعية دستور ديمقراطي، أما القطع مع الثقافة السياسية السائدة في ظل نموذج حكم شخصة السلطة فيقتضي من جهة، الاعتراف بالأفراد الذين تتكون منهم الدولة كذوات حرة مستقلة عاقلة، ومن جهة ثانية، اعتبار جميع السكان مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات يتمتع كل فرد منهم بحقوق والتزامات مدنية وقانونية متساوية،14 وهو ما يشكل الحد الأدنى لاعتبار دولة ما، مراعية لمبدأ المواطنة من عدمه.

وإذا كان التسليم بمفهوم الدولة ككيان سياسي تمثلها مؤسسات وليس أشخاص شرطا جوهريا لإقرار الدولة المدنية الحديثة، فإن التسليم بمبدأ الشعب مصر السلطات، وأن لا سيادة لفرد ولا لقلة على الناس شرط جوهري يلزم إقراره والعمل به من أجل مراعاة مبدأ المواطنة15.

القطع مع الولاءات الفرعية: تحقيق أولوية الولاء للدولة:

ارتباطا بمسألة القطع مع شخصة السلطة/الحكم، لا بد من التأكيد على أحد أهم مقتضيات موضوعا المواطنة، وهو الولاء للدولة والتماهي معها، الدولة ككيان بغض النظر عمن يحكمها16، ذلك أن ما يميز الدولة المدنية الحديثة، هو وجود الشعور والإحساس لدى المواطن بالانتماء المشترك إلى وحدة سياسية معينة، هذا الشعور المشترك بالانتماء إلى كيان واحد هو الذي يشكل أحد العناص الأساسية المكونة للدولة المدنية الحديثة.

وإذا كان هذا الأمر مفروغا منه وبديهيا في الدولة التي حققت قدرا كافيا من الوحدة الوطنية والسياسية والاندماج في المصر الوطني، فإنه لا يزال يشكل موضع جدال واختلاف في البلدان الضعيفة والممزقة التي لم ترق بعد إلى تكريس وتجسيد مفهوم المواطنة الحقة بسبب تعدد الانتماءات والولاءات وتناقضها بين أفرادها.

غير أن مقتضى الولاء والتماهي مع الدولة كما تجسد وتبلور في إطار الدولة الحديثة، يصدم مع التصر العربي الإسلامي للعلاقة بين الفرد والجماعات الأهلية من جهة والدولة من جهة أخرى حيث نجد الولاء في التصر العربي الإسلامي يتعلق بمستوى أعلى وأسمى كثيرا من الدولة، الولاء لا يكون إلا للفكرة17، لذلك فالانضواء في محيط دولة لا يتطلب ولاء ولا تماهيا، بل مجرد عدم اللجوء للعصان المسلح عليها، من منطلق أن الدولة طارئة وزائلة دائمة التحول.

ومن ثم فإن تجاوز إشكالية تعدد الانتماءات والولاءات وتناقضها بين الأفراد يشكل أحد أهم التحديات أمام تحقيق دولة ومجتمع المواطنة، ولا شك فى أن الطريق إلى المواطنة بكل مقتضياتها ومتطلباتها تقتضي تغليب الانتماء إلى الوطن، أي إلى الجماعة الوطنية ودولتها الوطنية، على أي انتماء سياسي آخر، من منطلق أن المواطنة الحقة تتنافى وتقديم الولاء السياسي لأي سلطة جزئية في الدولة على الولاء السياسي لسلطة الدولة نفسها18، فإذا كان الفرد الذي يعيش في كنف الدولة، متعدد الانتماءات بقدر تعدد الدوائر الهوياتية، فإن تحقيق الولاء للدولة يقتضي تجاوز الانتماءات القبلية والعرقية والدينية واللغوية، إلى الانتماء إلى الدولة كمركز سياسي.

القطع مع الثقافة السياسية الرعوية:

تكريس ثقافة سياسية ديمقراطية:

إن مفهوم المواطنة في مختلف أسسه ومقوماته على علاقة وثيقة بمبدأ الديمقراطية، ومن هنا الحاجة الملحة إلى وجود ثقافة سياسية ديمقراطية كشرط أساسي لتحقيق دولة المواطنة. وإذا كانت المواطنة لا تترسخ في سياق مجتمع مشبع بقيم الأخيرة، فإن المواطنة لا تتحقق بالتبعية وبالنتيجة في سياق مجتمع تسوده وتخترقه الثقافة السياسية التقليدية التي تمنح من معين قاموس الرعية والأعيان، حيث تسود قيم الانقياد والخضوع وقيم مناهظة الروح الفردية، بل ونفي الفرد كذات حرة مستقلة عاقلة مسئولة، بسبب تمثل المجتمع كوحدة، لا مكان للفرد المنعزل فيها.

وإذا كانت الدولة العصية تنظر إلى مسألة العلاقة بينها وبين أعضائها كعلاقة مواطنية مباشرة مكفولة كحق لكل عضو منذ ولادته19 باعتباره مواطنا في هذه الدولة مع ما يعنيه ذلك من التمتع بنفس الحقوق والواجبات والمساواة أمام القانون. إن الدولة العربية التقليدية تنظر إلى مسألة العلاقة بينها وبين أعضائها كعلاقة رعوية مع ما يعنيه ذلك من غياب لمبدأ المساواة في التعامل مع أعضائها، وسيادة التراتبية بين أعضاء المجتمع الواحد، حيث يتم التمييز في إطار نفس المجتمع بين أعضاء من الدرجة الأولى وأعضاء من الدرجة الثانية..إلخ. والتعامل مع نفس الأفراد يقوم على أساس فوارق ثابتة فيما بينهم، كفارق الدين أو الطبقة أو القبيلة أو العائلة أو غير ذلك.

وإذا كان الإنسان في الدولة العصية يولد مواطنا ويصر مواطنا مستنيرا، من خلال إعمال آلية التنشئة السياسية القائمة على أساس تكريس ثقافة سياسية مشبعة بقيم المواطنة، جاز لنا القول إن الإنسان في الدول التقليدية يولد رعية ويصر رعية أبدا ودوما، بسبب التنشئة «الرعوية» التي تعمل على تأبيده في هذه الحالة، كأنها قدر محتوم.

من هنا يمكن القول إن التأسيس لدولة/مجتمع المواطنة يمر عبر القطع مع الثقافة السياسية التقليدية الرعوية، وذلك من خلال إعادة النظر في البنيات والمؤسسات التي تنتج وتعيد إنتاج مثل هكذا ثقافة مثل هذه في المجتمع، فأي نظام سياسي إلا ويعيش في ظل ثقافة سياسية معينة أي في ظل نسق من القيم والمعتقدات السياسية. وتبعا لذلك فإن أي نظام سياسي هو بحاجة إلى ثقافة سياسية تغذيه وتحافظ عليه، ولما كانت النظم السياسية في الدول التقليدية لا تزال تمنح وتستلهم مصدر شرعيتها ومشروعيتها من السجل التاريخي التقليدي القائم على أساس سيادة ثقافة سياسية تقليدية، فهي في حاجة إلى بنيات ومؤسسات تنتج وتعيد إنتاج هذا النوع من الثقافة السياسية التي من شأنها ضمان استمرارية هذه النظم. من هنا، الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في مختلف هذه البنيات المنتجة لمثل هذه الثقافة السياسية، عبر إعادة النظر في المنظومة التربوية بشكل عام. وإعادة النظر في مضامين التنشئة السياسية بشكل أخص في أفق تكريس ثقافة سياسية تؤمن وتؤسس لمنظومة قيم المواطنة.

(Endnotes)

1 – إدريس مقبول، «دولة الإسلام هي دولة الإنسان»، مجلة منار الهدى، العدد 8/2007، ص55.

2 – كمال عبد اللطيف، مجتمع المواطنة ودولة المؤسسات: في صوبات التحديث السياسي العربي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة أبحاث ودراسات، رقم 54، الطبعة الأولى، 2012، ص53.

3 – برهان غليون، نقد السياسة الدولة والدين، مرجع سابق، ص159.

4 – محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1991،ص18.

5 – نفس المرجع، ص18.

6 – برتراند بادي، الدولتان: الدولة والمجتمع في الغرب وفي دار الإسلام، ترجمة، نخلة فريفر، المركز الثقافي العربي، الطبعة الاولى، 1996.

7 -آمحمد مالكي، «الديمقراطية والمواطنة لدى جماعة العدل والاحسان، ضمن:المواطنة والوحدة الوطنية في الوطن العربي، تنسيق، آمحمد مالكي، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، 2010، ص160.

8 – نفس المرجع، ص161.

9 – هبة رؤوف عزت،»المواطن..الدولة..والمواطنة: نحو نظرية سياسية إسلامية معاصة- متجاوزة للحداثة»، ضمن: الإسلاميون والمجال السياسي في المغرب والبلاد العربية، تنسيق، امحمد مالكي، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، 2008، ص133.

10 – انظر:

– محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1989.

– محمد عمارة، بين العلمانية والسلطة الدينية، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1988.

11 – برهان غليون، نقد السياسة: الدولة والدين، مرجع سابق، ص505.

12 – عبد الاله بلقزيز، مقدمة كتاب، الدين والدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الاولى، بيروت 2013، ص15.

13 – عدنان السيد حسن،»جدلية العلاقة بين المواطنة والدولة المدنية»، ضمن، آمحمد المالكي(تنسيق)، الإسلاميون والمجال السياسي في المغرب والبلدان العربية، الطبعة الأولى، 2008، ص85.

14 – علي خليفة الكواري، (تنسيق وتحرير)، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،الطبعة الأولى، 2001، ص 38-39.

15 – نفس المرجع، ص147.

16 – نفس المرجع، ص 77.

17 – نفس المرجع، ص 78.

18 – ناصف نصر، التربية والسياسة: متى يصر الفرد في الدول العربية مواطنا؟، دار الطليعة- بيروت، الطبعة الثانية،2005،ص49

19 – نفس المرجع، ص 56.

عن الكاتب : أستاذ العلوم السياسية- جامعة المولى إسماعيل مكناس بالمغرب.

عن مجلة الديمقراطية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى