الرأي

في ذكرى رحيل أبو عيسى .. قاهر الديكتاتوريات!!

وها هو بطل ليلة المتاريس، وفارس أكتوبر، يرحل ذات نهار حزين من نهارات أبريل. يمضي في هدوء، بعد أن صنع من سنوات عمره تاريخاً عامراً بالنضال، في سبيل الحريات وحقوق الإنسان، وضارباً المثل الأعلى في التفاني والصبر والالتزام، وضارباً المثل الأعلى كذلك في حُب الأوطان. فبرصيد وافر من المعارك والخبرة – كما قال رفيق دربه الراحل التيجاني الطيب – أحدث فاروق أبو عيسى الفرق. وبسلف كان له السبق في النضال عبر حزب الأشقاء من خلال موقع والده القيادي، تلمس أبو عيسى خطواته الأولى في طريق النضال ضد المستعمر. وعلى ذات الدرب مضى في سنوات لاحقة، ليُشارك بفعالية في النضال السوداني المصري المشترك ضد الاستعمار البريطاني، خلال دراسته في جامعة الإسكندرية، طالباً في كلية الحقوق.
التحق أبو عيسى بالحزب الشيوعي السوداني مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، إبان دراسته بمدرسة حنتوب الثانوية في مدينة (ود مدني) حاضرة ولاية الجزيرة، حيث ابتدأت مسيرته النضالية. ليُفصل من المدرسة على خلفية قيادته لإضراب الطلاب المطالبين بحقهم في تكوين اتحاد عام، الشئ الذي رفضته السلطات الاستعمارية، وفصلت على إثره عدداً من الطلاب بينهم أبو عيسى. ولما صار من الصعب عليه إكمال دراسته بالسودان نتيجة العراقيل التي وضعها المستعمر في طريقه، توجه إلى مصر، ليدرس الحقوق في جامعة الإسكندرية، قبل أن يعود للسودان، ويعرف كمحامي النقابات والنقابيين في ظل ديكتاتورية نوفمبر، التي صعدت للسلطة عبر انقلاب عسكري، في العام (1959). فكان أبو عيسى مُدافعاً صلباً عن النقابات، (أولى ضحايا الاستبداد على امتداد تاريخ السودان السياسي)، وظل مُعارضاً ملتزماً للديكتاتورية النوفمبرية، حتى سقوطها في أكتوبر من العام (1964). ولا يُذكر أبو عيسى إلا وذُكرت مساهماته الكبيرة في تكوين التجمع النقابي تحت لافتة (جبهة الهيئات)، التي قادت الثورة في انتفاضة أكتوبر المجيدة صنو تجمع المهنيين السودانيين الذي أشعل فتيل ثورة ديسمبر الخالدة.
أعاد الحزب الشيوعي السوداني عضوية أبو عيسى سراً، بعد فصله على خلفية انقسام الحزب في العام “1971”. فعرفته سوح المحاكم في أواخر سنوات ديكتاتورية مايو محامياً مميزاً، ومناضلاً شرساً لا تلين له قناة، في سبيل الحقوق والحريات. وتولى أمر حشد المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية لمناصرة قضية شهيد الفكرة الأستاذ “محمود محمد طه” في عدد من القضايا التي لفقتها له سلطات مايو، ودافع أبو عيسى عن محمود، ولم يكُ فيه من الزاهدين.
ولفاروق أبو عيسى مع نقابة المحامين العرب قصص وحكايات، لا تبتدئ بانتخابه لمنصب النقيب في العام “1983”، ولا تنتهي بمغادرته للنقابة في العام “2003”، بعد إعادة انتخابه لأربع دورات متتالية، ليشغل المنصب لخمس دورات، وخلال فترة امتدت لعشرين عاماً، علا فيها صوت النقابة، وصار لها موقفها الواضح والمُعلن كمنظمة، تجاه قضايا الحريات وحقوق الشعوب في كامل المنطقة العربية. عرفه اللاجئون السودانيون في مصر خلال إقامته فيها سنداً لبني وطنه، وملجأ لمن لا ملجأ له، فأسس عدداً من الهيئات والمنظمات الداعمة للاجئين السودانيين، خصوصاً في مجال الصحة. وعرفوه والداً، وأخاً أكبر، وهو يفتح لهم قلبه ومنزله ومكتبه، بعد أن تزايدت أعدادهم بمرور السنوات. فكان أبو عيسى نافذة ضوء، ومبعث أمل، في ليل الإنقاذ الحالك، والطويل، وكان رجلاً من طينة الكبار، عرفه الوطن والمنفى، وعرفته السجون والمعتقلات، فلم يبدل ولم يُداهن، وخرج من بين براثن الديكتاتوريات المتلاحقة منتصراً، كطائر الفينيق الناجي في كل مرة، مهما تكاثر عليه الرماد.
كان أبو عيسى يعود من البعيد، يأتي باسم الثغر يلوح بالأماني، مثلما لوح بالمتاريس في وجه الثورة المضادة، حينما عزمت على سرقة أكتوبر. فكان أبو عيسى لها بالمرصاد، وسجل أروع البطولات وهو ينادي في الجماهير أن هلموا لإنقاذ ثورتكم، ليكتب التاريخ بمداد من دموع ودم، أنه كان بطل تلك الليلة، التي أغلقت الشوارع وأفشلت انقلاب الثورة المضادة وهي تحاول أن تحول عرس أكتوبر في العام “1964”، إلى مشاهد من مناحة مأتم حزين. لم يخش فاروق أبو عيسى في الحق لومة لائم. لم يستكن، ولم يساوم، ولم تثنه المعتقلات والسجون والمضايقات الأمنية، عن عزمه الأكيد، في بناء دولة العدالة والحقوق في السودان. ولم يشك يوماً في قدرة شعبه على صناعة الخلاص من براثن جماعة الإخوان في نسختها السودانية، وديكتاتوريتهم التي وصفت بأنها الأسوأ على امتداد تاريخ السودان منذ الاستقلال.
وفي يوم رحيل أبو عيسى الحزين نعاه زملاؤه في الحزب الشيوعي، كما بكاه السياسيون من مختلف الأحزاب السياسية السودانية، وهم يفتقدونه والداً رحيماً، وقائداً فذاً، لا ينقصه الحزم ولا الشكيمة. ونعاه تحالف قوى الإجماع الوطني، الذي ترأسه منذ تكوينه، داعياً لإسقاط فاشية الإنقاذ، حتى تكللت مساعيه بثورة ديسمبر السلمية وسقوط الطاغية. وها هو السودان المصغر في مقابر البكري الأمدرمانية، وعن بكرة أحزانه، يبكي رحيل أبو عيسى في ذلك النهار الطويل من نهارات أبريل، والجائحة الخبيثة تظلل العالم بالمخاطر. والفترة الانتقالية الحرجة في عمر السودان تتلمس الخطى، وتستطيل أمامها التحديات. فما أحوجنا اليوم لحكمته الباذخة، ولعزيمته الماضية ووطنيته التي تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، خلال سنوات حياته الحافلة بالنضال، سعياً للديمقراطية المرجوة، ودفاعاً عن حقوق السودانيين.
بزُهد العارفين مضى أبو عيسى في يوم رحيله، بلباس أبيض، ومشيعين قلة. كأنه يواسي من ينعونه في وجع، ويحاول كعادته التخفيف عنهم بالتقليل من شأن النوازل والاختبارات الكبيرة. كان هو فاروق، بأمله الذي لا ينقطع في غدٍ أفضل لبلاده، وبإرادته الفولاذية التي اختبرها الرفاق والخصوم على حد سواء، محمولاً على الأعناق، يمضي باتجاه البعيد. ألا رحم الله فاروق أبو عيسى بقدر ما قدم لوطنه وشعبه وأسكنه وريف الجنان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى