الرأي

في ذكرى ثورة أكتوبر: قطار عطبرة سليل قطاري كسلا

جعفر خضر

تكشف ثورة أكتوبر، التي قضت على حكم عبود العسكري الذي دام لست سنوات، تكشف نزوع السودانيين المبكر للحرية والعدالة والسلام. ولقد جدد السودانيون أكتوبر في أبريل ١٩٨٥، ثم جاءت ثورة ديسمبر كاستمرار لهذه الرغبة المتأصلة في التحرر، ويبقى علينا بذل مزيد من الجهد حتى تكمل هذه الثورة أهدافها، ونتجنب الانتكاسة التي حدثت بعد ثورة أكتوبر، بعد صراعات حزبية عقيمة انتهت بانقلاب نميري.

إن عطبرة التي رفعت الثورة السودانية إلى ذروة عالية  يوم ١٩ ديسمبر ٢٠١٨ وهي تهتف (شرقت شرقت عطبرة مرقت)، كان لها إسهام كبير آخر بأن سيرت قطار عطبرة الشهير إلى اعتصام القيادة العامة بالخرطوم، قاطعا أكثر من ٣٠٠ كلم في حوالي ثماني ساعات، ليعدل ميل صف الثورة.

لم تكن فكرة تسيير قطار عطبرة لدعم اعتصام القيادة العامة بالخرطوم فكرة جديدة، فهي وسيلة مجربة اخترعها أبناء كسلا الباسلة من قبل، فقد سيرت كسلا قطارين في أكتوبر ١٩٦٤ لدعم الثورة في الخرطوم.

وقد فصّل كليف تومسون قصة قطاري كسلا في كتابه “يوميات ثورة أكتوبر”، ونوزد هنا ملخصا لبعض الذي جاء في الكتاب.

بدأ موطنو كسلا في ركوب قطارين متجهين إلى الخرطوم في صباح يوم الخميس ٢٩/١٠/١٩٦٤، وكان من بداخل القطارين على قناعة بأنهم سيدخلون في صراع مع قوات الخرطوم فحملوا معهم عصي غليظة ومدى وسيوفا وأسياخا حديدية. كان القطار مكونا من عربات الدرجة الثالثة و الرابعة بقصد توفير أكبر عدد من المقاعد للركاب. ولما لم يجد عدد كبير من الراغبين في الذهاب للخرطوم أضيفت عربات نقل الحيوانات للقطارين وامتلأت تلك العربات عن آخرها. كان في القطار نحو ثلاثة آلاف راكب، ووقف آلاف آخرون في وداعهم في رحلتهم التاريخية.

ولأن تلك الرحلة كانت محفوفة بالأخطار ومجهولة المصير فلم يسمح للنساء بالمشاركة فيها، غير أنهن كن في وداع ركاب القطارين منذ وقت مبكر وهن يشعلن الحماس في نفوس الرجال بالهتاف والزغاريد، بينما أخذ بعضهن في البكاء حزنا علي أقربائهن الذين سيواجهون الموت ولن يرونهم مرة أخرى.

ولما امتلأ القطار عن آخره، نصح ركاب القطار الأول الراغبين في الإنضمام للزاحفين على الخرطوم بانتظار القطار الثاني.

في حوالي منتصف الليل وصل قطار كسلا الأول لمحطة ودمدني. لم يكن هنالك أحد في المدينة يتوقع وصولهم وكانت المدينة تغط في نوم عميق وإفترض ثوار القطار أن أهل مدني لابد أنهم متعبون، أعيى النضال أبدانهم، فمضى القطار في زحفه الثوري نحو الخرطوم. توقف القطار في محطة الباقير التي تبعد نحو محطتين من الخرطوم خوفا من أن يدخلوا الخرطوم في الظلام فتصطادهم نيران “العدو”. كانوا أيضا يرغبون في انتظار القطار الثاني وأن يدخلا الخرطوم معا مع بزوغ خيوط الفجر الأولى.

بعد لقاء القطارين في الباقير تحرك القطاران معا نحو الخرطوم في حوالي الساعة الخامسة والنصف صباحا تقريبا. كانت المحطة التالية هي سوبا حيث كانت تنتظرهما عربتان مدرعتان كل منهما لها ست عجلات تحملان مدفعا وبندقيتان آليتان مزودتان بقذائف ضخمة.

أمر الجنود سائقي القطارين بالتوقف ولكنهما لم يستجيبا ومضيا في طريقهما. سابقتهما العربتان المدرعتان إلى المحطة التالية (محطة الشجرة) حيث تفاجأ ركاب القطارين بما لا يقل عن ألف من الجنود ورجال الشرطة يقفون خارج محطة الشجرة. تحرك القطاران نحو الخرطوم، فجأة أحاطت بجانبي القطارين عربات مدرعة ودبابات وناقلات جنود. سار الموكب الرهيب ببطء نحو محطة الخرطوم حيث كان ينتظرهم مزيد من الجند والعربات المدرعة حيث أحيط بهم تماما.

كانت الخطورة تكمن في أن الجنود وثوار الخرطوم كانوا يظنون أن ركاب القطار يحملون أسلحة نارية.

إلتقى ركاب قطاري كسلا وجها لوجه مع الجنود عندما توقفت نهائيا محركات القطارين في محطة الخرطوم. لم يصدر أحد من أولئك الآلاف من المتطوعين أي صوت أو يأتي بحركة. كان الجو يحمل نسمات صباحية باردة. ترجل عن القطارين قادة المتطوعين للحديث مع الجنود بينما بقي الآخرون في مقاعدهم بالقطار دون حراك أو صوت، كان الحذر والهدوء وبعض التردد هو ما ميز تحركات الطرفين، على الفور حذر الجنود قادة المتطوعين من نزول أي فرد من القطارين لأرض المحطة و أكدوا لهم أنهم لن يترددوا في إطلاق الرصاص الحي على كل من يفعل ذلك. رد أحد قادة المتطوعين الكسلاويين بأنه إن لم تتح لهم فرصة اللقاء بقادة الثورة في الخرطوم فسوف لن يستطيع أحد ضمان عدم تحرك المتطوعين، ذكرهم ذلك القائد بمجزرة القصر والتي حدثت قبل يومين. رد الجنود ردا معتدلا على تلك الملاحظة و عبروا عن أسفهم لما حدث، اقتنعوا – تحت إلحاح قادة المتطوعين- بالسماح لهم بلقاء قادة الثورة العاصميين. لم يكن الجنود ولا ثوار كسلا – بالطبع – يدركون أن حكومة جديدة قد تم تأليفها منذ أقل من ساعة تقريبا.

خطب أحمد الأمين في الجموع شاكرا إياهم على مبادرتهم الثورية وأكد أن ذلك الفعل الرائد غير المسبوق سوف يرفع من الروح المعنوية للشعب… تلك الروح التي أصابها بعض اليأس والقنوط بعد مجزرة القصر يوم الأربعاء. أكد أيضا للجماهير الكسلاوية أن زحفها على الخرطوم سيؤكد للعسكر أنهم قد خسروا بالفعل وأن عليهم الرحيل من على سدة الحكم.

تكفل تجار سوق الخرطوم – دون مقابل مالي- بتوفير ما يكفي وزيادة من خبز وجبن وخضروات وفواكه وكل ما يمكن أكله دون طبخ. حملوا كل ذلك في عربة نقل وعربتي أجرة إلى المتطوعين الجائعين.

لم يسمح للمتطوعين الكسلاويين بمغادرة المحطة إلا عند منتصف الظهيرة بعد أن شبعوا وأمنوا واطمأنوا إلى أن الثورة كللت بالنجاح.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى