في المنبع والمرجع .. فتحي التريكي

أصبحنا نعيش صراع مرجعيات بعدما عشنا تناغما بينها بفضل علماء الإصلاح الذين حاولوا منذ القرن التاسع عشر إعطاء تونس مرجعيات ترتكز عليها بتناغم لبناء دولة عصرية حديثة.
أوردت «جريدة العرب» مؤخرا خبرين يوضحان علاقة حزب النهضة في تونس بحركة الإخوان المسلمين التي صنفتها مصر وبعض الأقطار العربية كحركة إرهابية. يقول الخبر الأول «أنّ القيادي في حركة النهضة والمقرّر العام للدستور التونسي الحبيب خضر، قدّم في الدوحة عاصمة قطر للشيخ يوسف القرضاوي، الداعية المصري وهو رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومن زعماء التنظيم الدولي للإخوان المسلمين نبذة عن تطوّرات الأوضاع السياسيّة الأخيرة في تونس».
أما الخبر الثاني فهو يقول بأن تقارير إعلامية تحدّثت عن إمكانية نقل مقرّ هذا التنظيم الدولي للإخوان المسلمين إلى تونس، وكذلك إمكانية أن يستقر بها رئيسها وزعيمها يوسف القرضاوي في الوقت الذي تتهمها بعض الدول بكونها تشجع على الإرهاب وتنظّر للعنف الاجتماعي والسياسي. وقد نفى ذلك رئيس حزب النهضة الشيخ راشد الغنوشي.
ليس هناك شك في خطورة هذين الخبرين على الوضع في تونس. فكأن الغاية هي تأجيج الفوضى “الخلاقة” من جديد وحصار الشعب التونسي بأيديولوجية عنيفة وإقصائية ورهيبة قد استعملها هذا التنظيم في مصر وليبيا، ويحاول استعمالها على مستوى العالم الإسلامي. والنتيجة كثيرا ما تكون كارثية وكأن الإسلاميين في تونس قد استنجدوا بهذا التنظيم عندما أخرجهم نضال المجتمع المدني من الحكم. ومهما يكن من أمر فإن الخطر الحقيقي لهذا القرار بنقل مقرّ التنظيم الدولي للإخوان المسلمين إلى تونس يتمثل في أن تونس ستصبح عاصمة العنف التي منها ستصدر الأوامر بتحريك المجتمعات الإسلامية لأسلمة قوانينها وأنماط حياتها، وبتعبير آخر ستصبح علاقاتها بالدول العربية والغربية والإسلامية والأفريقية متوترة، وستكون الدبلوماسية التونسية في وضع صعب جدا. لذلك أشك كثيرا في إمكانية تحقيق هذه الرغبة للإسلاميين التونسيين الذين، في الغالب، لا يعيرون اهتماما كبيرا للوطن ويرون أن مصلحة الإسلام- ويعنون في الحقيقة مصلحتهم- تفوق مصلحة الوطن.
أما الأمر الثاني الذي يسترعي الانتباه فهو تنقل القيادي في حركة النهضة والمقرّر العام للدستور التونسي ليعلم القرضاوي بتطور الأوضاع في تونس، ويتحصل على تأييده ومباركته وكأنه قد أصبح بالفعل زعيم تونس نرجع إليه لنأخذ التعاليم والبركة والتشجيع ليصبح أمرنا بيد الداعية، ومصيرنا بيد قطر. وقد تألّم من ذلك الكثير من الشعب التونسي الذي ناضل وقدم شهداء في معركة الاستقلال من أجل أن يسوس شؤونه بنفسه، ولا أعتقد أنه سيقبل استعمارا جديدا مهما كان لونه.
فكيف وصلنا إلى هذا الوضع بعد أن كان التونسي قبل الثورة- وبعدها- يفتخر بمرجعياته المتأصلة في تاريخه والمنفتحة على الحداثة في جميع مجالاتها؟ كيف سيقبل التونسي هذه المرجعية الجديدة الغريبة عن نمط تفكيره ونمط حياته والتي ستشده أكثر إلى التدهور والتراجع والتقهقر وهو الذي كان يصبو إلى التقدم والتنمية الشاملة؟
لا تهمنا هنا مبررات حركة النهضة ومناوراتها السياسوية وتعاملها مع المتشددين داخلها وخارجها. المهم أننا في تونس قد أصبحنا نعيش صراع المرجعيات بعدما عشنا تناغما بينها بفضل علماء الإصلاح الذين حاولوا منذ أواسط القرن التاسع عشر إعطاء تونس مرجعيات عديدة ترتكز عليها بتناغم لبناء دولة عصرية حديثة.
وفي الواقع يقوم هذا التناغم بين المرجعيات، نظريا، على توازن خلاق بين المنطق الديني والمنطق العلمي. فليس ثمّة حرج فى الجمع بين البيان الديني للمعنى وبين التركيب المنطقي والبرهاني، ولكن بشرط مهم يتمثل في أن نبيّن خصائص هذا البيان الديني وخصائص هذا التركيب المنطقي قبل أن نقوم بعملية الجمع والتركيب، فلا حرج أن تستعمل المنطق داخل البيان الديني، ولا حرج في تدعيم العقل بالبيان الديني، ولكن بشرط ألا يحلّ البيان الديني محل التركيب المنطقي، ولا يحلّ التركيب المنطقي محل البيان الديني.
هكذا يكون فصل المقال أساسيا فى منهجية تناغم المرجعيات، وقد حاول علماء جامعة الزيتونة، ومن بعدهم علماء “المدرسة الصادقية” اعتماد فصل المقال والتمييز بين جملة الأقوال والممارسات حتى تصبح لكل قول مكانته الخاصة من ناحية، ومن ناحية أخرى ليعمل العالم بكل ما أوتي من علم وفكر وذكاء على ألا تختلط السبل وألا نُعيد للحضارة العربية والإسلامية ما سيجعلها تعود إلى السبات والسكون والاندثار.
كذلك ظهر تناغم المرجعيات على مستوى التعامل مع التاريخ في حركية بناء الدولة العصرية بعد الاستقلال عندما استلهم النظام البورقيبي قوانينه وممارساته من قراءات متجددة للدين الإسلامي، ولكن وأيضا من تاريخ تونس المتنوع ومن الحضارات الكثيرة التي شاهدتها في ماضيها لتتكون فكرة “القومية التونسية” والتي تريد أن تكون تركيبا متوازنا لجميع تلك الحضارات دون المساس بالهوية العربية الإسلامية.
ولعل المهمة الصعبة كانت ومازالت تكمن في صياغة فكرة الوطن وإعادة صياغتها على ضوء مستجدات الحاضر. لقد أصبح الوطن منذ الثورة الصناعيّة الغربيّة قيمة راسخة بها تقاس كل معطيات الانتماء الجغراسياسي. ولسنا بحاجة هنا على الاستدلال على ذلك. ولكن العولمة قد طوّرت هذه القيمة من خلال انتشار التكنولوجيا المعلوماتيّة المتطوّرة وربطتها بكلّ أشكال الوجود الاجتماعي بحيث ستضمّ هذه القيمة صورة الوطن الكلاسيكيّة والشكل الجديد المتمثّل في التجمعات الوطنية على شاكلة أوروبا.
زد على ذلك أن فكرة الدولة بدأت تأخذ شكلا جديدا إذ أنها لم تعد تتدخل في كل معطيات الحياة، اجتماعا واقتصادا وسياسة، بل بدأ الحديث عن هيكلة دنيا للدولة وبدأت ليبرالية السوق هي التي تحدد الانتماءات، فظهرت فكرة المواطنة كسبيل للتحرر من هيمنة السياسي، وبالتالي من هيمنة الدولة في شكلها الكلياني الدكتاتوري.
لعل هذين الحدثين الذين ركزا تبعية النهضة للتنظيم الدولي للحركة الإسلامية يؤشران على نهاية هذا التناغم في المرجعيات لإدارة شؤون الناس وتعويضها بتصارع المرجعيات الذي سيولد تدافعا اجتماعيا عنيفا يصبو الإسلاميون من خلاله إلى القضاء على مدنية الدولة وعلمانية المجتمع.