الرأي

في العلوم والفلسفة والدين (1)

عبد المؤمن إبراهيم أحمد
لقد كشفت العلوم عن ظاهر العلاقات وليس حتمياتها الكلية لأن الحتمية تتحول في النهايات إلى احتمالات وإمكانيات ونسبية. عالم النهايات وعالم الإمكانيات والنسبيات والاحتمالات يصفه العلم بالعشوائية في مستوى الكموم أو في أي ظاهرة يصعب على العلم معرفة دقائق النظام الذي يتحكم في تفاصيلها، بينما تصفه الفلسفة الدينية بالنظام الغيبي الذي صدر على أساسه هذا الكون وهو الذي يسيطر عليه وينظم قوانينه باحتمالاتها وحتمياتها وكل علاقاته.
قولنا هذا كله يجب ألا يفهم منه أي تقليل لشأن العلوم ولا لمناهجها ولا لمنجزاتها. نحن لا نشك في أن العقل الحسي أداة دقيقة للعمل ولكنه ليس الأداة الوحيدة. كما وأن الدقة ليست العنصر الوحيد لسعادة الإنسان. العلم كذلك لديه حدوده، وطالما أن للعقل الحسي حدود لا نكون إلا أمام خيارات الإمكان وهذا يقودنا إلى عالم الإيمان خصوصاً فيما يخص الوجود الإنساني! وهذا العنصر الغيبي الإيماني الإمكاني هو الذي يخرج الإنسان من ميكانيكية الوجود المادي الطبيعي إلى عالم الشعور والقلب والعاطفة.
ألم يكذب الغزالي مناهج الفلاسفة في معرفة الغيبيات بالعقل الحسي، وفي سبيل ذلك التكذيب أنكر العلل؟ أقوال الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة”؟ أقلقت ابن رشد فرد عليه في كتابه “تهافت التهافت” وقبل ذلك في كتابه “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال”، مقرراً ضرورة النظر العقلي والفلسفي وعدم تعارضه مع الدين بقوله: “إن الغرض من هذا القول أن نفحص على جهة النظر الشرعي. هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أو محظور أم مأمور به. أم على جهة الندب أو على جهة الوجوب. فنقول: إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت بالصانع أتم”. هكذا ناضل ابن رشد ليضع للعقل مكاناً بين الإيمانيات بمثل ما نسعى نحن اليوم لنضع للإيمانيات مكاناً في عالم العقل. المنطقة التي رفض الغزالي بحث العقل فيها سماها كانط لاحقاً بالمتعالي. لا يمكن ردم الهوة بين الغزالي وابن رشد إلا بالقول بأن العقل الحسي يقودنا إلى الحدود القصوى للوجود، ومن هناك نكون في حاجة للإيمان وللفلسفة معاً للكشف عن أبعاد أخرى للوجود (حيث الحب والجمال والوجدان والفنون والذوق) بها نتعرف على نظم وقوانين أخرى، لا تتناقض مع العالم الحسي بل هي مكملة لنظامنا الطبيعي الذي نتواصل معه بالعقل الحسي. نقول بأن العلوم جاءت لتقدم المزيد من المساعدة للفلسفة في معرفة أسرار الوجود (الصنعة) وأسرار موجدها (الصانع).
وكما حارب رجال الدين الفلسفة والعقل الصرف في الماضي، كذلك حارب علماء القرون الحديثة العقائدية التي غلفت الفلسفة المدرسية. ولكنهم لاحقاً هم أنفسهم وقعوا في العقائدية، وأظهر ذلك رأيناه في الفلسفة المادية الماركسية والتي كانت انجرافاً طبيعياً ومحتملاً للتفكير العقلي الحسي الصرف الذي حاول هيجل أن يبنيه حين جعل الفكرة هي الأساس. وكان الأجدر به أن يجعل الشعور والإحساس والعاطفة هي الأساس الذي ينطلق منه لأنها سابقة للفكر وأعمق منه.
على العلماء الاعتراف بأن مناهج العلوم المعنية بدراسة الطبيعة هي الأخرى لديها طرف من الذاتية (في الفهم والتفسير) بمثل ما لديها من الكثير من الموضوعية. فهي على أحسن الفروض ليست يقينية في كل ما ذهبت إليه. فالسطوة التي يُظْهر بها العلماء العلوم ليست حقيقية. نلاحظ أنه اليوم تكاد مسلمات العلوم أن تتحول هي الأخرى إلى نوع من الاعتقاد، ولكننا نرى أن هنالك نظاماً علمياً آخر (محتمل) له سطوة أكبر؛ لأنه نظام يشرح العلاقة بين عالم الأسباب وعالم النتيجة، أي بين عالم الميتافيزيقيا وعالم الفيزيقيا وكل هذا يفسح المجال للدين والروحانيات والغيبيات للدخول مرة أخرى إلى عالم البحث والنظر. ولكن هذه المرة لا بد من تجريد الميتافيزيقيا من الخرافات والأوهام التي ظلت عالقة بها عبر التاريخ. ألا يمكننا بالعلوم أن نقعد مناهج المعرفة المتافيزيقية؟ وذلك بتقديم فرضيات جديدة يمكن أن تكون إحداها هي الحل في فهم قصور ظِل الحتمية والموضوعية وفي فهم امتداد ظل الذاتية والنسبية. من هنا يمكن للعلوم أن تنطلق بروح جديدة للكشف عن أسرار الوجود وليس مجرد الظواهر (بعد التخلص من دكتاتورية النظرة المادية المتحكمة في عالم اليوم).
على كل حال نكرر تأكيدنا على أن العلوم الطبيعية ليست النموذج الكامل الوحيد للمعرفة وبذا تكون النماذج القائمة اليوم ليست النماذج النهائية. علينا أن نكون مهيئين لنقلة جديدة في نماذجية الوعي البشري (Paradigm Shift). وأول مدخل لهذا “البارادايم الجديد” هو إعادة صياغة مناهج علم النفس. فقد ظل علم النفس يتعامل مع البشر كحيوانات عاقلة ويتنكر منهجياً لكل أبعاد أخرى للنفس البشرية وظل يقدم حلوله في إطار الأسباب الفسيولوجية أو السلوكية، غاضاً النظر عن أي إمكانيات أخرى للنوع الإنساني. علم النفس مطالب بدراسة أعمق وأكثر جدية للباراسيكلوجيا بكل ظواهرها والبعد المتافيزيقي للنوع الإنساني.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى