ثقافة ومنوعاتصفحات متخصصة

في الذكرى 18 لرحيله المنفى الدنيوي: إدوارد سعيد في حياته ومماته

ترجمة: صلاح محمد خير

 

بعد (17) سنة من رحيله، يظل إدوارد سعيد حضوراً فكرياً فعالاً في الخطاب الأكاديمي والخطاب العام، وتلك حقيقة يشهد عليها ظهور كتابين جديدين ينطويان على أهمية. يقدم الكتاب الموسوم: ما بعد سعيد: الدراسات الأدبية ما بعد الكولونيالية في القرن الحادي والعشرين، الذي قام بتحريره بشير أبو منة، تقييماً لمجموعة معارف سعيد الواسعة عن طريق اثني عشر كاتباً وأكاديمياً من المرموقين. يمثل الكتاب الموسوم: أعمال إدوارد سعيد المختارة، الذي قام بتحريره مصطفى بيومي وأندرو روبين، وهما طالبان سابقان لسعيد، نسخة موسعة من الكتاب الموسوم: دليل القارئ لأعمال إدوارد سعيد، الذي صدر قبل سنوات قليلة من وفاة سعيد في العام 2003. قدم لنا دليل القارئ صورة مكتملة لسعة أفق تفكير سعيد وتأثيره بصفته مثقفاً عاماً؛ إلا أن المجموعة الجديدة تزيد عن المجموعة الأولى بمائة وخمسين صفحةً، وتضم ثماني مقالات لم تظهر في المجلد السابق، بالإضافة إلى تصدير جديد ومقدمة موسعة. تتراوح المقالات التي تم ضمها حديثاً ما بين اندفاعات سياسية جهيرة وتأملات فكرية حول “الأسلوب المتأخر” في الموسيقا والأدب، وكانت قد صدرت بعد وفاة سعيد. تعكس بعض هذه المقالات مثل “فرويد وغير الأوروبيين” هموماً استغرقته في سنوات عمره الأخيرة، وتعتبر من بين أكثر المقالات تعقيداً ودقة في كتاباته. تذكرنا المقالات الأخرى بالإقبال الواسع على قراءة سعيد، وسعة اهتماماته، وما يمكن أن تنفذ إليه رؤاه. إضافة إلى التأملات حول أعماله الأساسية في كتاب: ما بعد سعيد، تقدم هذه المقالات أيضاً للقارئ تصوراً لتماسك سياسات سعيد، المشبعة بإنسانوية كونية وأممية استقرت في محور كتاباته الأدبية والسياسية.

ليس من المستغرب أن الكثير من الناس ما زالوا يقبلون على قراءة أفكار سعيد والتشبث بها. تضم أبحاث سعيد الموسعة (25) كتاباً، ويعد العديد من هذه الكتب مَعْلماً في الحقل الذي يشتغل عليه، مثل الكتاب الموسوم: الاستشراق والكتاب الموسوم: الثقافة والإمبريالية. كان سعيد الأب المؤسس لمجال أكاديمي كامل، هو الدراسات ما بعد الكولونيالية، التي ازدهرت على الرغم من التحفظ النقدي من طرف نظرائه المفترضين. في الأربعين عاما التي قضاها في جامعة كولومبيا، أشرف سعيد على تدريب الكثير من الباحثين، الذين يشغل العديد منهم حالياً مواقع مرموقة في تدريس الأدب والتدريس في الأقسام الأخرى في مختلف الأكاديميات الأنجلو- أمريكية، وأمتد تأثير معارفه إلى أبعد من ذلك، مخلفاً طابعه في دراسة الشرق الأوسط، والأنثروبولوجيا، وتاريخ الفن. بعد اثنين وأربعين سنةً من صدوره، يتم تدريس كتابه، الأكثر تأثيراً، الاستشراق، للطلاب الجامعيين وطلاب الدراسات العليا في سائر أنحاء العالم.

خلال تلك العقود الأربعة، ربما أصبح سعيد المثقف العام الأكثر شهرة بين أبناء وبنات جيله، وواظب على إنتاج ثروة من المقالات والمواد، والمقابلات الطويلة (التي تدور حول كل شيء ابتداء من سياسات الشرق الأوسط وانتهاء بالموسيقا الكلاسيكية والتحليل النفسي)، والكتابة إلى جمهور واسع من القراء؛ فضلاً عن الكتابة لنظرائه من الأكاديميين. يتراوح انخراطه العام بين الشؤون المعاصرة والنقاش حول تاريخ الإمبراطورية، ويتضح هذا الانخراط عندما يتعلق الأمر بفلسطين. عبر كتاباته، وظهوره الإعلامي ونشاطه السياسي، فعل سعيد أكثر مما فعل أي شخص آخر لجعل القضية الفلسطينية مفهومة بشكل أفضل في شمال أمريكا. برغم مناصرته للقضية الفلسطينية اكسبته الكثير من المعجبين في الولايات المتحدة الأمريكية وبقية أنحاء العالم، بما في ذلك معجبين في أوساط الفلسطينيين، إلا أنها اكسبته أيضاً أعداء أشداء في الدوائر الأكاديمية والإعلام وفي أماكن أخرى. مع ذلك، في مدى يكاد يصل إلى العقدين، منذ رحيله، من الواضح أن عدواتهم قد أنجزت القليل لانقاص إرثه الفكري أو حدسه أو صواب أفكاره.

ولد إدوارد سعيد في فلسطين التي كانت واقعة تحت الحكم البريطاني، ونشأ في القاهرة في زمن كانت فيه مصر مستقلة اسمياً. تلقى تعليمه في البداية ضمن نظام أكاديمي يسمه بعمق الأثر البريطاني الاستعماري. يكشف اسم المؤسسة النخبوية، كلية فكتوريا، التي طُرد منها، وجاهد للتأقلم معها، عن كل شيء، كما أمضى أيضاً جزء من سنوات شبابه في لبنان وفلسطين. فقدت أسرته الموسرة منازل وأعمال تجارية وأملاك في القدس جراء النكبة في العام 1948، وبرغم أن الآثار المادية كانت خفيفة على سعيد اليافع، إلا أن هذه الأحداث كان لها تأثير عليه؛ مثلما كان للأوساط الاستعمارية الجديدة، والسياسية، والاجتماعية والثقافية التي نشأ فيها.

أرسلت أسرة سعيد ابنها لإكمال تعليمه المدرسي العالي في مدرسة نيو إنجلاند التحضيرية، التي تخرج منها في العام 1953. بعد ذلك، التحق بجامعة برنستون، حيث درس على يد الناقد والشاعر ريتشارد بالمر بلاكمور، وانهى أطروحة دكتوراه في جامعة هارفرد، كتب فيها حول رفيق منفاه جوزيف كونراد. كان سعيد، ولجميع الأهداف والأغراض، باحثاً تقليدياً إلى حد ما في تلك اللحظة، التي حاز فيها على وظيفة مرغوب فيها بقسم اللغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في العام 1963، وأصدر كتاباً حول كونراد وعنصر السيرة الذاتية في أعماله الروائية. لكن الأحداث العالمية– وعلى وجه الخصوص الحرب بين إسرائيل والعرب في العام 1967– أظهرت لحظة تحول بالنسبة له. عندما شهد هذه التطورات من على البعد في نيويورك وفي لبنان أثناء تمضية فصول الصيف مع أسرته، أدرك الانفصال بين ما كان يحدث في الشرق الأوسط، وبين الطريقة التي يتم بها تصويره في الغرب. أفاد هذا الإدراك تقريباً كل العمل الذي أعقب هذا الفترة: أولاً، فيما يتعلق بالكتاب الموسوم الاستشراق، الذي صدر في العام 1978، وبعد ذلك فيما يتعلق بالكتاب الموسوم مسألة فلسطين، الذي صدر في العام التالي.

تمثل ما يجعل كتابات سعيد تنطوي على جانب إلهامي بالنسبة للقارئ غير المختص في الطريقة التي عملت بها مقولاته على توسيع آفاق القراء ومناهضة مسلماتهم على الدوام. طبق سعيد ذلك على المستوى الشخصي في نقاشاته مع الأصدقاء، وفي محاضراته، وفي الحلقات الدراسية العامرة بالطلاب المتسمين بالوعي. قدمني شقيقي، الذي كان طالباً في جامعة كولومبيا، إلى سعيد في السنوات التي أعقبت 1967، عندما امتصصننا جميعاً صدمة وتبعات سنة الحرب. سرعان ما اكتشفت أن المتعة التي تضاهي متعة الأقبال على قراءة سعيد هي متعة الاستماع إليه. وجد المرء نفسه مدفوعاً إلى نقاش شامل حول الأدب، والموسيقا، والفلسفة، وفقه اللغة، والسياسة، وأضاء كل ذلك النقاش شعور بضرورة ملحة استثنائية يبدو أنه كان يحركه منذ بداياته المبكرة. تنوع مجاله الرحيب وتطبيقه لتلك المعرفة بالتاريخ والسياسة عبر التزامه الشخصي الراسخ، الذي جعل عمله يفوق في ثرائه وأهميته عمل أي منظر آخر أو باحث أدبي كتب حينها في الأكاديميات الأنجلو- أمريكية. تمثل جزء من جاذبيته الراسخة، بالفعل، في أن تلك الجاذبية تواصل في التحدث إلينا بذات النسق الداعي إلى مزج معرفة إنسانوية متعددة الاختصاصات بالانتباه إلى قضايا عالمية ملحة.

تقدم مقالة سعيد المنشورة في العام 1997، والتي تحمل عنوان “حول القضايا الخاسرة” في الأعمال المختارة، مثالاً مدهشاً لذلك. تتدرج المقالة من تأمل مطول حول أربعة أعمال روائية متأخرة كتبها ميغيل دي سرفانتس، وجوناثان سويفت، وغوستاف فلوبير، وتوماس هاردي إلى تنقيد لامع لاتفاقيات أوسلو بصفتها هزيمة للفلسطينيين، قادت الكثيرين للاعتقاد بأن فلسطين شكلت قضية خاسرة. يغمر المقالة شعور بالسوداوية؛ تجعل القارئ يدرك بأنه عند الكتابة حول هؤلاء المؤلفين، ربما كان سعيد يسطر مقالة تعد من بين أعماله الأخيرة. عبر عكس خيبة أمله بنتائج الكفاح الفلسطيني من أجل التحرير في أواخر التسعينيات من القرن العشرين من خلال التشاؤم الُمرَوِع الذي أبداه سرفانتس، وسويفت، وفلوبير، وهاردي، قدم سعيد تقييما موغلاً في الإضاءة لمشهد ما بعد أوسلو أكثر من أي تقييم تقدمه مقالة سياسية عادية، وفعل ذلك في الوقت الذي كشف فيه أيضاً عن حقيقة الروايات الأربع. كتب القليلون من النقاد الأدبيين وأساتذة الأدب على هذا النحو حينها، ويفعل عدد أقل من ذلك حالياً.

تعرض أفضل المقالات في كتاب ما بعد سعيد نفس المزيج من الطلاقة الأدبية والتبصر السياسي. تؤكد المقدمة التي كتبها بشير أبو منة على نحو يتسم بالذكاء على مركزية السياسة بالنسبة لنقد سعيد ومجمل مساره؛ وذلك حكم أكدته القراءة المتروية للمقالات الثماني الجديدة التي ضمها كتاب الأعمال المختارة. يعيننا أبو منة بشكل أفضل على فهم التطور السياسي لسعيد، مدوناً التأثير الذي فرضته عليه حرب 1967 وعلى جيل عربي كامل، وكيف أن تلك الحرب حركت تحوله إلى كتابات سياسية صريحة حول فلسطين والشرق الأوسط. يضيف أبو منه بأن هذا التأثير “وسم كل شيء قام به سعيد بعد ذلك” وقاده لأن يصبح “الناقد الثقافي للإمبراطورية الأكثر تأثيراً في جيله” و”المدافع عن المُسْتَعمرين والمضطهدين” ويستند كل ذلك على “مبادئه الراسخة في مناهضة الإمبريالية.”

تشكل هذه اليقظة، التي أعقبت العام 1967، تحولاً ملحوظاً لناقد أدبي تلقي تدريباً تقليدياً، وقدم أول كتابين له، وهما: جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية وبدايات: القصد والمنهج، إشارة طفيفة لطبيعة ما هو آتٍ. أثار توجه سعيد الجديد العديد من معاصريه، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين يزعجهم مناصرته للقضية الفلسطينية وتنقيده للإمبريالية الأمريكية، إضافة إلى أولئك الذين ينفرون من إصراره على ما إذا كان هناك قيمة للنقد الأدبي، وبالتأكيد للإنسانوية، فإنهما ينبغي أن ينغرسا في تقدير سياق ودنيوية والتزام سياسي يتعلق بكافة التعبيرات الثقافية. عبر المطالبة بالسماح للفلسطينيين بالحصول على “الإذن بسرد” تاريخهم الخاص، بكلمات مقالة أخرى من مقالاته الشهيرة، اعترض سعيد على السردية المهيمنة التي تم تشكيلها خلال العديد من الحقب، والتي استبدلت فلسطين بإسرائيل وتجاهلت تماماً الشعب الفلسطيني وشوهت سمعته تشويها ممنهجاً. في القيام بذلك، عمل سعيد على إعادة فتح المسألة الفلسطينية، التي تطلع معارضو الحقوق الفلسطينية إلى إيصادها بشكل دائم. ليس بمقدورهم أن يغفروا له إطلاقاً ذلك الفعل، وستلاحقه عداوتهم بقية سنوات حياته، وسيستمرون في القيام بذلك من وراء القبر.

برغم أن نقطة التحول في تفكير سعيد حركتها حرب 1967، إلا أنها أصبحت مرئية في سلسلة من الإصدارات في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي بظهور كتب الاستشراق، مسألة فلسطين، تغطية الإسلام. في الأعمال الباكرة لسعيد، يمكن للقارئ أن يتبين بعض السمات التي جعلت كتاباته المتأخر في غاية الفعالية. على سبيل المثال، كان تعاطفه الباكر مع كونراد والتماهي معه، على أقل تقدير، اعترافا من شخص منفي يتحدث عدة لغات ويكتب بلغة لم تكن لغته الأم بالتشابهات المتعلقة بمسار شخص هو الآخر منفي. مِثل كونراد، كان سعيد يحس بنفسه نوعاً ما “خارج المكان”، وليست مصادفة أن تحمل مذكراته التي صدرت في العام 1999 هذا العنوان. مِثل كونراد أيضاً، كان سعيد يعي بشكل جوهري العالم الذي يقع خارج نطاق عالمه المباشر. تبين أن الاغتراب والدنيوية مثلا مزيجاً فعالاً وسمحا له بالسكنى في مجموعة من وجهات نظر أكثر اتساعاً وتنوعاً من تلك التي سكنها نظرائه. بإمكان سعيد رؤية ما لا يراه غالباً أولئك الآخرين المتجذرين في “الغرب”، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالثقافة الغربية.

كَمُن الاغتراب والدنيوية في اللباب من تعقيد وثراء عمل سعيد؛ إذ أعاراه وعياً أكثر حدة بالثقافات الأخرى والتعاطف معها وحركا في داخله ازدراءً واضحاً لضيق التفكير الساكن وانعدام التأمل بين أوساط العديد من الباحثين البارزين في الأكاديميات الأمريكية. برغم أنه شارك معظم نظرائه الطبقة والخلفية التعليمية، إلا أنه كان يصر على أننا يجب أن ننظر إلى ما وراء الحدود الضيقة للبرج العاجي وثقافة الغرب ذاتية المرجع. بينما تم التعبير عن موقفه النقدي بشكل أكثر بروزاً في كتابه الاستشراق، ميز هذا الموقف معظم أعمال سعيد الناضجة، سواء أن كانت نقدية أو سياسية. في واحدة من إصداراته الأخيرة، التي تحمل عنوان “عودة الفلسفة” (التي أسماها هذا “الحقل المعرفي” الأكثر ابتعاداً عن المعاصرة) يهتدي تحليله العميق ببصيرة تنطوي على رهانات كبرى تتعلق ببرهة سياسية محددة؛ تتمثل في الحرب في العراق والتجاهل اللامبالي من وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت في العام 1996 للآلاف من حالات الوفاة في تلك الحقبة نتيجة لفرض عقوبات اقتصادية بتفويض من الولايات المتحدة الأمريكية.

تمكن سعيد برشاقة من خلق تواشج بين الفلسفة والأدب والتنقيد السياسي. برغم أن كتاباته السياسية يمكن أن تكون خشنة، بل وحتى حارقة، فإنه في أغلب الأحيان يملك مبضعاً حاداً يستخدمه في نقده وينجز ذلك بلطف وحيوية. تتبنى أفضل المقالات في ما بعد سعيد نفس الأسلوب، مستخدمة في الغالب التحليل الأدبي لطرح وجهات نظر سياسية رفيعة. في نفس الوقت، تتحاشى هذه المقالات إكساب القداسة التي تسود، للأسف، في العديد من الكتابات حول سعيد. تستنطق المقدمة التي وضعها أبو منة والمقالة التي كتبها روبرت سبنسر بعنوان “الاقتصاد السياسي وحرب العراق” الافتقار لأساس في الاقتصاد السياسي في كتابات سعيد حول الإمبريالية على وجه العموم، وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط على وجه الخصوص، رغم أنهما يقومان بذلك في الوقت الذي يؤكدان فيه على القيمة الدائمة لمداخلاته.

على نحو مشابه، تقدم مقالة فيفيك جيبر التي تحمل عنوان “الإرث المزدوج للاستشراق” واحداً من أكثر الشروحات صرامة وإنصافاً للعيوب في ما اعتبره جيبر “كتاباً عظيماً.” رغم أنه ينتبه إلى التفاوت بين ما تبناه سعيد من “الالتزام العميق بالإنسانوية والحقوق الكونية والليبرالية” وإنكار نظرية ما بعد الكولونيالية لهذه القيم، أو على الأقل شكها إزائها، يكتب جيبر بأن الاستشراق “تنبأ ببعض العقائد المركزية للدراسات ما بعد الكولونيالية، ومن ثم شجّع عليها.” بينما استقدم تحليل سعيد تنقيداً متطوراً للإمبريالية مقارنة بما هو سائد، يرى جيبر أن هذا التحليل غذى مقاربة تعمل على تقويض ذات التنقيد عبر استئصال أبعاده الاقتصادية؛ وتلك وجهة نطر تقوم مقام واحد من النصوص الفرعية في هذه المجموعة من المقالات. برغم أن سعيد يُعد واحداً من بين أكثر نقاد عصره شراسة في نقد الإمبريالية، يفتقد تحليله إلى التأسيس على الاقتصاد السياسي، وتلك شائبة جردت تنقيده من بعض قواه المحتملة ومنحت تصريحاً لبعض اتباعه من النقاد الذين ينتمون إلى حقل الدراسات ما بعد الكولونيالية للابتعاد عن الماركسية.

على نحو متساوٍ، تتوغل في التحليل مقالة كتبها سيموس دين حول الثقافة والإمبريالية. مُظهراً تأييده لالتزام سعيد بفلسطين، وقراءته الصارمة لأعمال السلب والنهب التي ارتكبتها الإمبريالية، ومناهضته للحرب الأمريكية في العراق، يتعقب دين، برغم ذلك، بعض المثالب في هذا الموقف الملتبس تجاه العنف المناهض للاستعمار. مقارناً بين وجهات نظر سعيد ووجهات نظر فرانتز فانون، يشير دين إلى “غموض متعمد حول مسألة العنف” في جميع كتابات سعيد. ساعياً إلى فهم السبب الذي يكمن وراء عدم ارتياحه للكتابة عبر لغة أكثر مباشرةً حول المسألة العويصة للعنف المناهض للاستعمار، يلاحظ دين إمكانية أن سعيد كان “أكثر عرضةً للخطر الشديد” عبر العيش في بلد قاد فيه (وما زال يقود) التحامل العدائي ضد المسلمين والعرب، وعلى نحو خاص ضد الفلسطينيين، الكثيرين إلى ترميز أعمال العنف التي تصدر عنهم بصفتها “إرهاباً”.

يحمل دين نفس القدر من التأمل في تحليل مداخلات سعيد في ما يسمى “حروب الثقافة” في نهاية كتاب الثقافة والإمبريالية، زاعماً أنه عبر التركيز على مثل هذه القضية التافهة، أفسد سعيد خاتمة كتابه الرائد. على نحو جوهري، يرصد دين بامتعاض بأن مساعي سعيد الرامية إلى “التودد للمؤسسة الأكاديمية الأمريكية عبر الثقافة” للقيام بمعارضة الإمبريالية، كانت مساعي مخفقة.

إذا كانت العديد من المقالات في كتاب ما بعد سعيد تدور حول انخراط متعاطف مع أعماله، وإن كان في أغلب الاحيان نقدياً، هناك العديد من المقالات التي تقدم فاعلية معارفه ورؤيته السياسية. في المقالة التي تحمل عنوان “سعيد ودنيوية الكتابة الروائية في القرن التاسع عشر”، تشير لورين غودلاند إلى أن الثقافة والإمبريالية، من حيث اعتراف النقاد المرحبين به، غالباً ما يقوم بفصل قضايا الإمبراطورية عن تلك القضايا المتعلقة بعولمة رأس المال، ولكنها تطرح، في أغلب الأحيان، حجة قوية بأن الكتاب ما زال يسدي خدمة رئيسية عبر المساعدة في “نزع الصفات الإقليمية” عن الأدب الأوروبي والثقافة الأوروبية. مهما تكن التدفقات التي تكمن في فهمه غير المادي للإمبراطورية؛ وتأكيده، على سبيل المثال، بأن الإمبريالية تحركها “على وجه التقريب التزامات ميتافيزيقية لكي تحكم”، لا زال سعيد يسلط الضوء الكاشف على موضوع كان غائباً عن العديد من الدراسات الأوروبية للرواية.

عبر القيام بذلك، لا يقوم بالتصدي لعجرفة نزعة مركزية أوربية ظلت راسخة في المؤسسات الأكاديمية حتى الآن فحسب، ولكنه أيضاً يعيد توجيه اهتمام قرائه نحو سياسات تساعدنا على تحريك الماضي. وفقاً لما ترصده جين مورفيلد في المقالة التي ساهمت بها في هذه المجموعة، يسعى سعيد إلى تعزيز “إنسانوية لها القدرة على الإفلات من الهوة الواسعة للنزعة المركزية الأوروبية”، ويمثل هذا الموقف نزعة ليبرالية لها القدرة على مواجهة اتجاه المركزية الأوروبية لمباركة “تدمير وإفناء المدنيين في المناطق القصية من العالم تحت راية الإمبريالية الكريمة.”

أسوة بما ذهبت إليه غودلاند ومورفيلد، يثبت جو كليري حقيقة مقنعة تتعلق بما يفتقده بعض نقاد سعيد، عبر مقالته التي تحمل عنوان “سعيد والدراسات ما بعد الكولونيالية والأدب العالمي.” استخف كليري، أيضاً بقسم كبير من التنظير ما بعد الكولونيالي، منحازاً إلى حجة سعيد التي تذهب إلى أن العديد من ممارسي التنظير الكولونيالي قد أظهروا “قدراً كبيراً من الاستثمار في الخلافات الداخلية حول التفاصيل المتعلقة بالأساليب المفضلة للنظرية بدلاً عن الاستثمار في الاهتمامات الاجتماعية- الثقافية الدنيوية التي تعمل على تحريك النظريات في المقام الأول”.

بينما استقر نظراء سعيد “داخل مظهر من مظاهر التدعيم المؤسساتي … مصحوباً بمعتمد أدبي متوقع للكتاب الأنجلوفونيين”، كان سعيد، حتى المراحل الأخيرة من مرضه، “مواظباً على إنتاج مقالات حارقة برهنت على قدراته غير المنقوصة بصفته مفكراً سياسياً ملتزماً”.

كما يظهر ما بعد سعيد والأعمال المختارة، لم يكن سعيد ملتزماً سياسياً فحسب، بل لم يكن يكف عن الجدال. بقيت رؤاه، حتى النهاية، دنيوية ومغتربة في آن. أصر على النظر إلى سالف ثقافاتنا الوطنية أو ثقافاتنا الضيقة بغرض الفهم الأفضل لها. دعانا سعيد إلى توسيع ضيق خيالاتنا الأخلاقية والسياسية ورؤية العالم بمجموعه بصفته وطننا المشترك. بصفته منفياً لم ينعم بالراحة في نيويورك، كما لم ينعم بها في بيروت أو القاهرة أو باريس أو لندن، شَرَب سعيد أسلوبه الأدبي برحابة كوزموبوليتانية، وسياساته الملحة بنزعة إنسانوية ذات توجه كوزموبوليتاني، وتلك نزعة إنسانوية ظلت ترياقاً فعالاً للنعرة القومية المتقوقعة في أغلب الأحيان، والتي يبدو أنها لا زالت مهيمنة حتى في عصر الأزمات العولمية.

ربما تعد أممية سعيد ونزعته الإنسانوية ذات التوجه الكوزموبوليتاني إرثه الأكثر أهمية. ترغمنا الحياة الإنسانية ومصاعبها، سواء أن كانت جوائح أو تغير مناخي أو حروب دائمة أو سياسات نيوليبرالية تعمل على إفقار الكثير من البشر لإغناء قلة منهم، على عبور تخوم الحدود الثقافية أو الوطنية. لا يمكن للمرء إلا أن يتخيل الأسلوب الذي كان يستجيب عبره للقوى المهلكة التي خربت المعالجة الفعالة لهذه الأزمات المستمرة. وفقاً لما يرى ساري مقدسي في مقالته التي تحمل عنوان “الاستشراق الآن”، “الشيء الأكثر ملائمة” في مواجهة مثل هذه الحماقة “يتمثل في قراءة سعيد مرات ومرات، كما لو كان المرء يقبل على قراءته للمرة الأولى”.

تذكرنا الأعمال المختارة والمقالات التي تضمنها ما بعد سعيد بأنه لا يكفي أنتاج أفكار حقيقية وإنشاء منظورات نقدية في الوقت الراهن، إذ يجب علينا توسيع أفق تفكيرنا من الناحية الجغرافية والأخلاقية معاً. لا يجب القتال من أجل الأفكار والثقافة في الدوائر المتقوقعة الخاصة بالمؤسسات الأكاديمية فحسب، بل يجب القتال في العالم الخارجي؛ وفي الساحة العامة. ذلك ما كان يقوم به سعيد، الذي كان أكاديمياً مكتملاً على الدوام، طوال تاريخه المهني، ويظل ما يقوم به نموذجاً ساطعاً يستضئ به الآخرون من الباحثين والكتاب والطلاب والناشطين والمواطنين العادين. كتب سعيد حول تجربة إعادة قراءة مقالات فرويد: “ذلك ما يجب علينا، نحن القراء من مختلف المشارب، ومن مختلف فترات التاريخ، وبمختلف الخلفيات الثقافية، أن نقوم به… لا يجذبني شيء أكثر من إثبات قدرة عمله على استنهاض تفكير جديد، فضلا عن إضاءة مواقف لم يكن هو نفسه يحلم بها”. ينطبق الكثير من ذلك على سعيد. خاطب العالم بصفته ناقداً وأستاذاً وناشطاً سياسياً عبر عاطفة والتزام لا يزالان يتحدثان إلينا اليوم.

*يعمل رشيد خالدي برفيسور للدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا، ومديراً لمدرسة الشؤون الدولية والمحلية التابع لمعهد الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا.

*نقلاً عن مداميك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى