الرأي

فيكَ لازم الصبر الجميل..!

د. مرتضى الغالي

اليوم الخميس.. وإبراهيم العبادي كان شخصية جبارة لا تميّزه فقط الفحولة الشعرية أو دوره المحوري في نشأة الأغنية الحديثة (أغنية ما بين الحربين) كما يقول الباحث الفطن الوسيم “عثمان عامر” التي أصبحت تُعرف لاحقاً بأغنية الحقيبة.. وهي أغنية حديثة بالقياس لما سبقها من فنون الغناء.. وتواصلت حداثتها إلى المدرسة الوترية وظل شعراء الحقيبة يرفدون الأغنية الوترية بأشعار تناسب مرحلتها ومن هؤلاء سيد عبد العزيز وعبيد عبد الرحمن وعبد الرحمن الريح وعمر البنا وعتيق والأمي والتنقاري.. إلخ وقد تغني بأشعارهم إبراهيم الكاشف وعبد الحميد يوسف والتجاني السيوفي وعثمان حسين وحسن عطية وأبو داؤود وإبراهيم عوض وخضر بشير ورمضان حسن وحسن سليمان (الهاوي) والأمين علي سليمان.. وهلمجرا..!

العبادي يمكن أن تقول عنه في بعض التخريجات انه فيلسوف أغنية الحقيبة وخير من يتحدث عنها وعن مناخها وأخيلتها وأخوانياتها حتى إذا قلت إن أغانيه من حيث العدد لا تقارن بـ(أبو صلاح أو سيد عبد العزيز مثلاً) ولكنه كان (داهية مجالس) ومن الظرفاء الأذكياء.. وكانت له معرفة عميقة بفنون الحديث والمؤانسة والمفارقات واللوامع وروح الفكاهة.. وكان راوية للأدب الشعبي عليماً بفنون الغناء.. وقد عرك الحياة من جوانبها المختلفة وعركته.. وكان بصيراً بمجريات السياسة والتحولات الاجتماعية.. كما كانت له صلة بالزعامات الدينية والسياسية وعوالم التجارة ومدن السودان وقراه.. وكان ذا دعابة عالية وثقافة موسوعية.. وتحكي بعض أشعاره فنوناً من الشعر القصصي مع  مقدرة عالية في تصوير حالات الغرام وأحوال المحبين ولواعج الهوى.. وقد استخدم أسلوب الحوار في أغانيه مثل ما جاء في أغنية (تذكارا احرمني الهجود.. ومسّخ عليّ كل الوجود.. بي ليما يا باري جود).. ففي مقطع منها يقول مادحاً نفسه من حيث الصولة والمقدرة على التلصّص على الحسان في مخابئهن: (قالتلهن مين دا الجسور..؟ فوق البلد علناً يثور.. راكب على جنحات نسور.. كيف شافنا بينا وبينو سور)..؟! (دايماً تطوف بي حيّنا.. والفرصة يوت تتحيّنا.. يزداد غباك أحيييي أنا… إيه البدُر لي مَحينا..)..؟!

وهو جبّار في الوصف والإبانة والفصاحة الجزلة والمعاني الكبيرة والأفكار الجديدة: (لو تحول دون قصدي العوالي.. برضي اغوص في بحوري وأوالي.. ليك إخراج درري الغوالي.. وانشي شعري وزجلي وموالي.. اشدو وحدي واهدي الحوالي) ..إلخ (جدّ وجدي وحان انفقادي.. ديما هايم رايح وغادي.. بحري دمعي وفي النار رقادي.. يطفي ناري الماء في اعتقادي.. مالو زادا وزاد في انتقادي..عاذلي فيك وعُدم الخليل..؟ خلي نصحك يا خالي غادي.. عن سراط الحُب ما بميل).. (كيف أفيق واسمع نصح هادي.. يا الغرامك اوجب سهادي.. أعيا جدّي واعيا اجتهادي.. إيه يفيد يا ليل فيك جهادي.. جمري قايد وأنا روحي ها دي.. لي خروجا فِضل القليل.. يا الغرامك لي كياني هادي.. ليك مني الشكر الجزيل)..! وفيها: (قاللي كتر النوح العيالك.. ديما تطرا أيام زاهيالك.. كالنسيم اليتّم عيالك.. قاسي فاتك هاتك ويالك.. من مرائي وصدقك قليل.. إنتَ عاشق بالجد خيالك.. ومنو ساكن ظلاً ظليل) ثم: (يا مُناي ظروفي العصيبة.. حايله دونك وما ليا صيبه.. قاللي هاك أقوالاً مصيبه.. كل نفساً توجد نصيبا.. والبصيبا الموالي اليصيبا.. بالقدر كم عزّ الذليل.. كم ربوعاً اجدب خصيبا.. وما في فجراً ماعقبو ليل)..!!

إبداعات الرجل الغنائية كبيرة؛ وله باب عريض في الشعر الساخر.. ثم إنه انه كتب مسرحية شعرية (المك نمر) في الثلاثينات تعجب كيف وقف بها في موازاة المسرح الإغريقي والشكسبيري.. وهي ذات الفترة التي كتب فيها احمد شوقي مسرحياته.. ولا تدري هل هي البديهة التي جعلت مسرحية العبادي تتخذ قواعد الفن المسرحي من حيث اختياره لعقدة المسرحية القائمة على شخص ارتكب جريمة قتل ولجأ إلى حماية عشيرة لها صلة بعشيرة القتيل مع حبكة غرامية تقوم على التنافس.. وقد جعل العبادي مقدمة المسرحية حلماً رآه النائم يلخص كل الوقائع التي ستقود إليها الأحداث.. مع استخدام عنصر المُنشد vocalist وعنصر المُهرِّج clown element.. ثم تصاعد بالأحداث إلى مرحلة الذروة   climax ثم النزول منها إلي المصالحة reconciliation   ليخلص إلى نبذ القبلية والعشائرية في الختام والدعوة إلى (السودانوية).. جعلي ودنقلاوي وشايقي ايه فايداني/غير خلقت خلاف خلّت اخوي عاداني/ خلو نبانا يسري مع البعيد والداني/ يكفي النيل أبونا والجنس سوداني)..!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى