الرأي

فوكوياما هوس التاريخ والصراع الطبقي

 

ناصر السيد النور

في تصنيفها لمقالات العام2012 اختارت مجلة الشؤون الخارجية الشهيرة، مقالاً للمنظر الأميركي فرانسيس فوكوياما تحت عنوان “مستقبل التاريخ” هل تنقذ الديمقراطية الليبرالية الطبقة الوسطى من الانهيار؟ من بين أفضل منشورات العام 2012م المفاجأة أن يعود فوكوياما إلى التاريخ مجددا بعد أن توصل في كتابه المعروف في نهايات القرن الماضي “نهاية التاريخ”.جدير بالذكر أن المقالة قد نشــر ضمن كتاب “معارك الأفكار” الذي أصدرته المجلة نفسها في العام 2011م.نحاول باختصار قراءة أهم ما أثاره الكاتب من أفكار ومفاهيم الواردة في سياق مقاله المهم.

ليس على طريقة كتابات منظري السياسية الأميركية بعد الصعود المهيمن للقوة الأميركية كأمثال هنري كسنجر، زبينغو برنجسكي، وجوزف ناي فقد ركزت كتاباتهم على وضع السياسية الأميركية في مسار النظام العالمي الجديد لبلد لا يماثله تاريخ في إنجازات العملية والعسكرية والاقتصادية. أراد فوكايا قراءة، بل وتطبيق التاريخ كونياً محملاً بتصوراته الغربية ونموذجــه الأميركي المهيمن؛ مستدعيا مقولة صموئيل هتنغون المعروفة بصراع الحضارات والموجة الثالثة لانتشار الديمقراطية الذي بدأت في بداية السبعينيات وانتهت بانهيار المنظومة الاشتراكية في بداية التسعينيات.

ما يثير الانتباهأن الاحتفاء بنهاية التاريخ لازمته نشوة سقوط انهيار الشيوعية واستمرار النموذج الديمقراطي الليبرالي، ولا يدع فوكوياما اليسار من حيث انتهى وإنهارت نظمه وعقيدته السياسية في الاشتراكية؛ ولكن لم يعد في الوقت الحاضـر أثناء الاحتجاجات الاقتصادية التي برز فيها اليمنين وتوارى اليسار أو للدقة لم تعد لديه قضية مجمع حولها. ومن بين أسباب يعدها فوكوياما عن عدم قدرة جناح اليسار على الحشد، هي فشله في مجال الأفكار، حيث لم يتبق له قضية واضحة غير الرجوع إلى الشكل العتيق من الديمقراطية الاشتراكية. ويعد ذلك غياب خطاب مضاد ظاهرة غير صحية، لأن المنافسة أمر جيد للنقاش الفكري كما للنشاط الاقتصادي، مما يتطلب مناقشة فكرية جادة خاصة أن الرأسمالية المعولمة قد محت القاعدة الاجتماعية للبطقة الوسطى التي تستند عليها الديمقراطية الليبرالية.

الموجة الديمقراطية: كثيرة هي النظريات التي حاولت في الماضي برؤية شمولية الإجابة على مجمل المشكلات الاقتصادية والسياسية بديلا عن نظم سابقة احتوتها تصورات دينية ورموز ثقافية وأيدولوجيات تعبر عن إدارة الشأن الإنساني. ولكن فوكوياما خلافاً لما آمن به اعتقد ماركس بأن القوة الاجتماعية وشروطها هي ما تحدد الأيدولوجية، وعلى النقيض من ذلك يرى أن الأفكار لا تملك قوتها ما لم تخاطب أكبر عدد من الناس العاديين. وبما أن الديمقراطية الليبرالية تشكل الأيدولوجية الافتراضية لجزء كبير من عالم نسبة لاستجابتها للبنى الاجتماعية الاقتصادية، فإن أي تغيير يصيبها قد تكون له نتائج أيدولوجية كما أن التغييرات الأيدولوجيىة تكون لها نتائج اجتماعية اقتصادية. يبدو أن فوكوياما بهذا الطرح لم يبتعد كثيراً عن التفسير الماركسي للآثار الاقتصادية وشروطها المنتجة للمتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وفي جانب آخر يرى أن أقوى الأفكار التي شكلت المجتمعات في الثلاثمائة سنة الأخيرة كانت دينية الطابع باستثناء الكونفوشوية. ولكن أكثر الأفكار بقاء وتمدداً في العالم كان الليبرالية، تلك العقيدة التي ارتبط قيامها أولاً بالطبقة التجارية ومن ثم الصناعية في أجزاء محددة من أوروبا في القرن السابع عشر. إذا النظرية أو العقيدة السياسية تنطوى على جملة نقائض في مسار نحو التطبيق، فإن الديمقراطية من حيث تطورها السياسي لم تسلم من نقد. فالليبرالية كما يفترض فوكوياما ليس بالضرورة أن تقتضي الديمقراطية ففي التجربة الإنجليزية، فإن الأحزاب اليمينة التي ساندت الاستقرار الدستوري أرادات أن تكون الأغنى بين مالكي الثروات. ساور بعض الفلاسفة الكلاسكيين الشك في جدوى الديمقراطية في تلك المرحلة لأنهم قد اعتقدوا بأن الممارسة السياسية المسؤوليةتتطلب قدرا من التعليم والاستقرار الاجتماعي. ربما صحت هذه الرؤية في كثير من بلدان العالم الثالث في العقود المتأخرة وهي تحاول أن تطبق الديمقراطية. فإن كانت قطاعا عريضا من الجماهير لا يستطيع ممارستها، فإن هذا التهميش قد مهدَّ الطريق للماركسية.

المدخل الطبقة الوسطى متضمناً مستقبل التاريخ وليس نهايته، وبما أن الطبقة الوسطى صراع اجتماعي أفرزته الثورة الصناعية في السياق الماركسي يعيد فوكوياما تعريفها باقتضاب بكلماته: “أولئك الأفراد الذين ليسوا على هرم أو قاع المجتمع من حيث مداخيلهمالاقتصادية” وقد لا يكون هذا التعريف ملزماً للعديد من المجتمعات خارج التصور الاجتماعي الغربي في العالم الثالث حيث القيم والموروثات تعمل كمحفزات للحراك الاجتماعي والروحي. الديمقراطيةالليبرالية بزعمه هي نقطة الوصول الاختياري لهذه الطبقة ويتعلق مستقبل التاريخ (الديمقراطي) بتأمين حاجاتها، الأمر الذي حدث في الغرب وأعقبه التحولات السياسية في أوروبا الشرقية ومؤخرا في العالم العربي بما عرف بثورات الربيع العربي التي فجرتها الطبقة الوسطى وارتباطها عالميا من خلال ثورة المعلومات. ويرى فوكايا من جانب آخر أن تؤيد الطبقة الوسطى الديمقراطية الليبرالية من حيث المبدأ في بلدان كالصين وتايلاند وبلادن الشرق الأوسط ولطالما وقفت هذه الطبقة في وجه مطالب الفقراء تثبيتاً لأوضاعها. ويعدها استثناءات في سياق العلاقة المتداخلة بين المستويات الاقتصادية المرتفعة والديمقراطية المستدامة. ويعود على التأكيد بأن الجماهيرالعربية يُمكن ترحيكها مثلما حدث في أميركا الأثنية وأوروبا الشرقية، ويحذر من أن الطريق نحو ديمقراطية مدارة بانتظام ليس سهلاً في البلدان العربية كمصر وتونس وليبيا.

الصين العقبة الكأداء: ما تحدي يواجه الديمقراطية الليبرالية خارج المفاهيم الغربية سوى الصين. فنظامها الذي يجمع بين تسلط الدولة واقتصاد السوق؛ يعترف فوكوياما باقتصادها المنافس وأن الكثيرين أصبحوا معجبين “بالنظام الصيني” ليس لسجله الاقتصادي وحسب وإنما لسرعة وتعقيدات صناعة القرار مقارنة بالعجر الذي أصاب صانعي القرار في الولايات المتحدة وأوروبا في السنوات القليلة الماضية. والصينيّون أنفسهم قد اتخذوا شعار النموذج الصيني كبديل للديمقراطية الليبرالية، وهو ما يسميه بالبديل الأخير الأسوأ ويذهب مستبعداً أن يكون هذا البديل مقبولاً خارج منطقة شرق آسيا، لأن للنموذج خصوصيته الثقافية إلا أن هناك بلدانا يمكنها محاكاة هذا النموذج ككوريا الجنوبية وسنغافورة. ومن ثم يعود للقول بأن الصينيين أنفسهم يتشككون في إمكانية تصدير هذا النموذج فيما يسمى إجماع بكين هو اختراع غربي وليس صيني! فخروقات انتهاكات حقوق الإنسان تشكل أزمة أخلاقية في وجود النمو الاقتصادي المتسارع.

إنَّ مستقبل الديمقراطية الليبرالية لا يهدد أيدولوجية موازية صاعدة وإنما يتأتي من القصور الاقتصادي والتحولات الاجتماعية والتي إذا ما استمرت، فستهدد استقرار الديمقراطية الليبرالية كما هي مفهومة اليوم. هناك قادمون جدد إلى سوق العمالة بفضل عولمة التقانة التي خفضت كثيرا من تكلفة العمل الذي كان يؤديه جيل الطبقة الوسطى. فيرى أن العولمة قد وسعت من الفوارق الموجودة في أصلاً في طبيعة الأفراد في مرحلة اقتصاد ما بعد الصناعة. فنظرية التجارة الحرة قد أضحت نظرية أكثر منها أيدولوجيا.

اليسار الغائب: يعد غياب اليسار عن الاحتجاجات الاقتصادية، فالتفسير الراجح لديه بأن الجميع أصبح يؤمن بتساوي الفرص أكثر من تساوي الدخل وتقاطع كل هذا مع القضايا الاجتماعية والثقافية كالإجهاض وحق امتلاك السلاح. والسبب الآخر الأكثر عمقاً فشل اليسار في تحليل ما يجري في بنية المجتمعات المتقدمــة بالإضافة إلى الأجندة الواقعية في الأمل بحماية مجتمع الطبقة الوسطى. الاتجاه الرئيسي للجيلين السابقين لجناج اليسار كانت خطرة في مستوى الإطار أو الأدوات للحراك، فاستبدلت اليسار الأكاديمي بمفاهيم ما بعد الحداثة والتعدد الثقافي والجندرة والنظرية النقدية واتجاه ثقافية أخرى ثقافية مركوة على الثقافة أكثر من الاقتصاد. فمهما تكن المبررات النظرية التي قوضت أجندة اليسار، فأكبر معضلاته تمكن في نقص المصداقية. فالتيار الغالب من اليسار اتبع برنامج الديمقراطية الاشتراكية الذي يعتمد على الدولة في تقديم الخدمات كالرعاية الصحية والتعليم، فمثل هذا النموذج قد اختفى فدولة الرفاهية أصبحت متضخمة ومعقدة وغير مرنة. فعند وصول الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية فلا يرغبون في أن يكونوا حراساً لدولة الرفاهية التي وجدت قبل عقود عدة فلم تعد هناك أجندة مثيرة يمكن الالتفاف حولها.

مستقبل الأيدلوجيا: يضع فوكايا تصوراً طريفاً لكاتب مغمور يجلس تحت سقف ما محاولا رسم معالم لأيدولوجيا المستقبل تقدم مسلكا منطقيا لعالم بطيقة وسطى صحية وديمقراطيات مشرقة. متسائلا كيف ستبدو هذه الأيدولوجيا؟ تتضمن هذه الأيدولوجيا على الأقل عنصرين “سياسي واقتصادي” من الناحية السياسية فإن الأيدولوجيا الجديدة فستؤكد على سيادة السياسات الديمقراطية على الاقتصاد وتُشرع لحكومة جديدة كتعبير لمصلحة العامة. ولكن الأجندة التي توضع لحماية الطبقة الوسطى لن تكون معتمدة على آليات دولة الرفاهية القائمة، فهي أي الأيدولوجيا بحاجة إلى تحرير القطاع العامة من الأوضاع القائمة باستخدامها لآليات جديدة. أما من الناحية الاقتصادية فلن تبدأ الأيدولوجيا الجديدة بإدانة الرأسمالية، هذا إذا موضة الاشتراكية القديمة لم تزل بديلا حيويا. إن العولمة لا يجب أن ينظر إليها كحقيقة غير قابلة للتغيير ولكن كتحدٍ وفرصة يجب يتحكم فيها بحذر من الناحية السياسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى