تحقيقات

فساد الأخلاق يتجاوز الأوراق: أورنيك 15 الإلكتروني (E15) .. عندما تعجز التقنية عن حماية المال العام

تحقيق- منعم سليمان
أوائل يونيو 2015 أعلنت وزارة مالية النظام البائد الشروع في استخدام أورنيك (15) الإلكتروني E15 عوضاً عن نظيره الورقي، وذلك بعد أن بلغت بها الأمور ما يشبه حالة الإفلاس بسبب الفساد والتعدي على الأموال. ومما ساعد على تفاقم الفساد وتمدده، الآيدولوجيا العقائدية للنظام البائد، إذ ظل يُحلّق بالمواطنين في السموات العليا حتى يتمكن من سرقة ما على ظاهر الأرض وفي باطنها، ثم يقوم بترويج إن المال مال الله، لتبرير تقاعسه عن مساءلة ومحاسبة منسوبيه الفاسدين، وهذا ما عبر عنه “معتمد” سابق بولاية من ولايات غرب البلاد، حين قدِمَ فريق من ديوان المراجع العام لمراجعة حسابات محليته، فكانت المفاجأة داوية عندما لم يجد الفريق  دفاتر تحصيل حكومية، فسئل عن ذلك، وكانت إجابته: “نحن مؤتمنون من عند الله على هذا المال”، وهو رد يصلح أنموذجاً للإجابة عن سبب ما وصلت إليه البلاد من خراب وفساد تعاني منه حتى لحظة كتابة هذا التحقيق!
(الديمقراطي) ستقدم تحقيقا أسبوعيا (ميني)، يعتمد على الأدلة القاطعة ويقدم المستندات اللازمة، عن فساد أجهزة النظام البائد المتواصل حتى الآن والذي وصل إلى حدودٍ مُرعبة ومخيفة، ونستهل السلسلة بهذا التحقيق عن قضايا الفساد المتعلقة  بأورنيك 15 الإلكتروني.
**
ما هو إيصال 15 الإلكتروني؟
صُمم نظام السداد الحكومي للرسوم المعروف بــ( E15 )  بغرض التحكم في عمليات التحصيل الحكومي بجميع أنحاء البلاد، وبالتالي فرض سيطرة وزارة المالية على المال العام وتكريس  ولايتها عليه،  بيد أن  تيار الفساد  الذي ظل متحكماً ومسيطراً على مفاصل الدولة، كان أقوى وأعتى من كل الإصلاحات المتوخاة؛  فأحال نعمة التكنولوجيا إلى نقمة، وهذا ما بدا واضحاً في تصريح الدكتور عبد الله حمدوك رئيس وزراء حكومة الثورة؛ الذي قال فيه بولاية الحكومة على 18 %  فقط من الإيرادات، وكذلك التصريح الأخير للدكتورة هبة محمد علي وزيرة المالية المُكلفة الذي أكدّت فيه ضعف الإيرادات الحكومية المُتحصلة!
بدأ تطبيق نظام السداد الإلكتروني في النصف الأول من  2015 بإسناد العمل على المشروع  إلى شركات متعددة متخصصة في مجال تقنية المعلومات، أغلبها إما مملوك لشركات أمنية أو لها علاقة بعناصر النظام البائد.
وقال  مصدر مرموق من وزارة المالية – طلب عدم ذكر اسمه لكونه غير مخوّل بالإدلاء بتصريحات صحفية- قال لـ(الديمقراطي): إن إسناد العمل في تنفيذ النظام الإلكتروني لأورنيك (15) إلى هذه الشركات تم بواسطة لجنة مكونة من شخصين فقط،  أحدهما كان مستشاراً لوزير المالية، والثاني يعمل  مديراً لشركة خدمات مصرفية، تم تعيينه رئيساً ومستشاراً تقنياً للجنة، مضيفاً إن عملية إرساء المشروع على هذه الشركات؛ تمت دون التقيد والإلتزام بلوائح وقوانين التعاقد والشراء المعمول بهما في وزارة المالية.
أموال منهوبة وأجهزة غير مطابقة للمواصفات
اطّلعت الصحيفة على الدفعيات التي تسلمتها تلك الشركات وهي مبالغ ضخمة بلغت جملتها                 (33,124,837) دولار أمريكي، وبالتقصي عن أسعار الأجهزة الموردة إلى وزارة المالية في ذلك التاريخ وجدناها لا تتجاوز الـ 3 ملايين دولار، أي أن هناك ما يربو عن (30) مليون دولار تم نهبها بواسطة مافيا الفساد وشركائهم داخل الوزارة!
وكشف المصدر نفسه أن الأجهزة الموردة غير مطابقة للمواصفات الفنية التي وضِعتْ من قِبلِ الشركة الُمنفذة للمشروعِ، وهي (مركز النيل للأبحاث التقنية). وأضاف: رغم تحذير العديد من الجهات الفنية من خطورة استخدام مثل هذه الأجهزة، قوبل ذلك بالتجاهل التام ما كلف الدولة مليارات بل تريلونات الجنيهات التي تم إهدارها ونهبها بواسطة بعض ضعاف النفوس من المتحصلين؛ وذلك عن طريق استغلال الثغرات الفنية لأجهزة نقاط البيع، كما يبين التقرير الصادر عن إدارة التقنية بديوان الحسابات.
بالنظر لحجم المال المنهوب للعام الماضي 2019 كما ورد في تقرير (إدارة التقنية) بديوان الحسابات، فقد تم ذلك أيضاً عبر ثغرة (الإيصالات الملغيِّة) وذلك عادة ما يتم بالإتفاق بين المتحصل ومشرف التحصيل، وصل إجمالي المبالغ المنهوبة بهذه الطريقة إلى (8,450,000,000) جنيه سوداني، علماً بأن حجم الإيرادات لنفس العام وفقاً لذات التقرير لم يتجاوز الـ 40% من الإيرادات المتوقعة، وذلك نسبة للأوضاع الأمنيِّة والسياسية التي كانت تمر بها البلاد آنذاك.
تقرير المخزن ومدير عام ديوان الحسابات القومي
بإطلاع الصحيفة على تقرير المخزن، وجدنا أكثر من 6 آلاف جهاز لنقاط البيع وطابعات، ومع ذلك تعاقدت وزارة المالية مع شركة تدعى (أشراف) لشراء 5 آلاف جهاز إضافي؛ في سبتمبر 2016 !
وبحسب تقرير إدارة التقنية الذي أطلعت عليه (الديمقراطي) لم تكن هنالك أي حاجة لشراء المزيد من الأجهزة، فضلاً عن تحفظ إدارة التقنية  فنياً على الأجهزة الموردة من قبل شركة أشراف، ورغم تم إستلام الأجهزة ووضعها كأمانات بالمخزن.
كذلك اطلعت الصحيفة على خطاب مدير عام ديوان الحسابات القومي موجه إلى المراجع لجمهورية السودان، يفيد الخطاب بأن هناك نحو 4 آلاف جهاز لم يتم استخدامها منذ شرائها، وهي في حالة شبه معطلة ومخزنة منذ العام 2017، طالباً في خطابه من المراجع العام التوجيه بما يراه مناسباً حفاظا على المال العام.
وأضاف مدير عام ديوان الحسابات ما يؤكد بأن هذه الأجهزة لم يتم شراءها وفقاً لإجراءات التعاقد والشراء القانونية المتبعة في الوزارة، قائلاً في خطابه: “لاحظنا عدم الدقة في إجراءات شرائها، وعلى الرغم من وجود هذه الأجهزة ما يزال الديوان يقوم بشراء أجهزة جديدة”.
توصيات
إلى ذلك، طالبت لجنة خاصة شكّلتها الوزارة – اطّلعت الصحيفة على توصياتها- بمراجعة المشروع فنيّاً من أجل سد ثغرات الفساد وإمكانية تعرض المال العام للنهب ولرفع مستوى أداء للنظام، والإيقاف الفوري للتحصيل Offline، كما أوصت باستلام المشروع ومصدر الشفرة من الشركة المُنفذة وتدوين بلاغات جنائية لمحاسبة المسؤولين عن التجاوزات التي أدت إلى إهدار المال العام واسترجاع المال المنهوب بواسطة المتحصلين.
إيصالات ملغية (حاميها حراميها)
بعد اطلاع (الديمقراطي) على الإيصالات الملغية التي تعتبر المدخل الرئيسي للفساد وجدت أن أكثر الجهات التي أثبت التقرير وجود إيصالات ملغية بحساباتها هي المناط بها تحقيق العدل والعدالة وحماية المال العام!
حيث جاءت السلطة القضائية الاتحادية ضمن قائمة أكثر الإدارات التي وجدت لديها (إيصالات ملغية) للعام الماضي 2019، وذلك وفقاً لما ورد في تقرير ديوان الحسابات، حيثُ كان نصيبها (12.252) ايصالاً ملغياً، أما وزارة الداخلية فقد كانت حصيلتها (10.098) إيصالاً ملغياً، مما ضيع على الدولة مليارات الجنيهات، فيما تصدرت رئاسة ديوان الضرائب القائمة بعدد (15.630) إيصالا ملغيا.
اتصلت (الصحيفة) بالأستاذ بابكر فيصل القيادي البارز بلجنة التفكيك ومحاربة الفساد واسترداد الأموال، وسألته عن تحرك اللجنة في مواجهة هذا الفساد البين، فأجاب: استلمت اللجنة ملف فساد (أورنيك 15 الإلكتروني) وبعد أن درسته بعناية شديدة، حولته إلى اللجنة القانونية التي وجدت طيه فساداً مهولاً، فأوصت بتحويله إلى النيابة العامة، وهو الآن بين يديها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى