ثقافة ومنوعات

عندما يساير الأدب الحياة.. (زغرودة في حوش أبّا الناير)

نقد – صديق الحلو

 

 

 

 

فضيلي جماع

عن (دار الأجنحة للطباعة والنشر)، صدرت حديثاً رواية فضيلي جماع (زغرودة في حوش أبّا الناير). وهي الجزء الثاني من ثلاثية (هذه الضفاف تعرفني).

لوحة الغلاف: أحمد عبد المجيد خليفة

هذه رواية تتحدث عن حكم الرئيس الطاغية المخلوع.

غادر فارس –الراوي- السودان مغترباً نتيجة للمضايقات من النظام البائد، عاد بعد أربع سنوات قضاها في الخليج. أبوه الناير يخاف عليه من بطش الطغمة الحاكمة، كذلك فإنّ أخاه (الدقم) شخصية محورية في الرواية.

أرى أنّ (زغرودة في حوش أبّا الناير) رواية متجددة، كسرت- في نظري- السائد والمألوف. فيها ذائقة فنية- كما الشعر- ولغة متحركة، بحيث تمزج اللغة فيها الشعر والأفكار. كشفت لنا الرواية عادات وسلوكاً في ذاك الجزء من الوطن، هنا نرى أن الأدب يساير الحياة في تطورها: التساؤلات، المغامرات، وذلك هو التجريب والخروج عن النمطية السائدة والتقليد.

في (رويانة) عالم غني، ثري بمكوناته ومضامينه، وفي حاجة دائمة للكشف عنه.

زملاء فارس في الدراسة الجامعية وفي الحياة؛ شخصيات أساسية في الرواية: عادل يوسف، رضوان، الرائد كوال دينق وكدمول.

قال الدقم: “وكدمول قال ما بعرس لو انت ما جيت”، من الشخصيات المحورية أيضاً وعوض المدفع والضبيب خواجة، وأم الدقم الجدة التي تمتاز بالحنان واللطف، كذلك أمل الحبيبة، وتلك قصة أخرى.

نجد أن للأسماء دلالاتها: حمدان كوكو، ورحاب وسناء الفوراوية، وكدمول هو الزاكي الأرباب.

(زغرودة في حوش أبّا الناير) رواية تنويرية، فيها: العقل الجمعي، والحكمة المتوارثة، والتعايش السلمي. تعابير الكردافة حنينة ومموسقة، تلتصق بشغاف القلب. الأصوات معبرة، كأنشودة من العهد القديم. بها الحقائق المرئية، وحساسية الحواس، ودفقة المشاعر.

لقد سجل فضيلي اختراقاً إبداعياً ملموساً في هذه الرواية، وساهم في أن تصبح معرفتنا بذلك الجزء من العالم واضحة.

قرية (رويانة) ومنطقة البحر- تلك المساحة بساكنيها- هي التاريخ والمجتمع. اللغة هنا نديانة، والجغرافيا مترعة بالشجن.

سرد منفتح على العلاقات الجدلية بالواقع الاجتماعي والثقافي والإبداعي، أعطانا الخلاص من جمود وفهم الواقعية المباشرة.

نجد من بين الشخصيات المحورية أبّا الناير الذي يمتاز بالحكمة والرصانة، وله دروس وعبر أينما ظهر على مسرح الرواية.

تروح أحداث الرواية وتجيء كعمل سردي أحياناً على طريقة استرجاع الذاكرة (فلاش باك)، رويانة المكان هي البطل الحقيقي في الرواية. تأخذنا اللغة أحياناً عندما تجيب الطفلة أمل: “اسمي أمل”. يتردد في داخله اسم سميتها أمل: “تسقط نجمة في كفي، تنساب موسيقى الحروف العذبة إلى مسمعي. يدخل مسام جلدي كالنسمة هذا الاسم الذي أبى إلا أن يرافقني في صحوي ومنامي”. ص 26.

في الرواية مزيج من الحزن والأسى والأشواق وعلاقات الأسرة الممتدة، لا يفارق الناير الصغير جدّه. والفقد عزيز.

تيراب ابن الخال، سماعين الباحش، مجاك فيوت صديق الطفولة والدراسة، الدفاع الشعبي، الأمن الشعبي، المتمردون، الضابط أب نظارات، الرائد السماني مدير المخابرات، وروح الانتقام التي لا تشبهنا. والمقاومة تيار عريض يضم كافة ألوان الطيف.

هذه الرواية انعكاس لحياة بشرية كاملة، وصور حية لأبطال يعيشون حياتهم الفكرية والثقافية والاجتماعية.

هي انعكاس لتلك الحيوات بنضارتها وبكارتها وتصويرها داخلياً وخارجياً، في نزعة جمالية باذخة البهاء. وباحترافية، صهر فضيلي جمّاع كل تلك الصور الناصعة في بوتقة (زغرودة في حوش أبّا الناير).

في هذه الرواية جيل مختلف، نضج بالتجربة القاسية، جيل (أمسك الغول من قرنيه)، جيل ينشد التغيير فناله، وصحف النظام ترى الأشياء بعين واحدة.

تغيرت رويانة، كبرت البلدة وتغير مظهرها، أغلب المباني صارت بالطوب الأحمر.

في رويانة أشجار النيم والجوغان، وفي منطقة البحر غابات الطلح والليون وأشجار الدليب والكوك.

للحياة طعم مختلف في هذا الجزء من العالم – هكذا يقول الراوي.

رواية (زغرودة في حوش أبّا الناير) مرآة تعكس الواقع الشجي في قالب أدبي باهر، والأديب ابن بيئته.

هل هو واقع معكوس أم مُحاكى؟ أم تم تصويره ونقله كما هو عليه.

لفضيلي بصمته ورؤيته لعالم رويانة، بكل فرادته وخصوصيته وجمالياته، أكيد أن الفن غير الواقع. لأن للفن أدواته وتقنياته التي لا يجيد استخدامها إلا ماهر، ومهني متمرس.

ليست هناك مسافة بعيدة بين المنهج والتقنية، الأسلوب هنا مستقل، اللغة هي الأساس، وللمبدع رؤيته الجمالية ومرجعيته.

إنّ (رواية زغرودة في حوش أبّا الناير) أنشودة من: الحب، الوله، الحنين، النضال، والغربة.

ثلاثة أشياء تريك الآخرين: السفر، السجن، والغربة.

الطائر الجميل جكة ود الميرم لا يصيح، وإن صاح خربت الديار.

رواية اجتماعية مليئة بالوعي المجتمعي، عبارات تلسعنا كالإبر: “الما بزعل كلب، والما برضى حمار”. الجيل الراهن عرف كيف يبطل سحر الساحر، جيل تسلح بالوعي.

رواية (زغرودة في حوش أبّا الناير) تملؤك بالقناعات والاهتمامات والانفعالات، رواية كاشفة تحمل بصمتها من الفرادة. مليئة بالأسئلة والجرأة، ممتعة، عميقة، ومؤثرة. أرتنا رويانة، ذلك الجزء من الوطن الحبيب، والجنوب كأنه لم ينفصل.

رويانة بناسها الحميمين المدهشين، أوضحت الزمان بتاريخه، والمكان بامتداده، والإنسان وقضاياه، فكانت تلك مادة الرواية التي كشفت عنها.

كتب فضيلي جماع رواية مثيرة للمتعة بجمالياتها وفضائها الباذخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى