على شاطئ العيلفون… الدم يتسلق احتمالات الرذاذ
“مدن مبنية متكية
بتطلع من شبابيكا
عيون برموشا مطفية
شرك لي كل قمرية
أماني كتيرة مخصية
شوارع بالنهار والليل
مدبسة بالحرامية”.
الشاعر عمر الطيب الدوش
موجة قلقة والنيل أزرق، تحديداً على شط (العيلفون) الذي كانت الموجة تجافيه في محاولتها التخلص من بقعة الدم التي امتزجت بها. كانت الموجة تصارع من أجل عذوبتها، ولكن الموت ينمو في التفاصيل، وكان الشط يغني:
“اذكري يا موجة نيلك
وانتمي
لي رذاذك والعذوبة
لي مناخات
من تآلف
ومن خصوبة
ويا موجة
آه لو تنتمي
لي نجمة
تلمع في البعيد
وفي مياه نيلك
تفتش
عن شجن
رجع النشيد
لي قمرا
تغسل ليل بيوتنا
وبي ضياها
كم شواطئ
بتحتمي
ويا موجة
نيلك
يوم يفيض
أقري
أحلام المزارع
في تواريخ الطمي
ورعشة
خلايا البذرة
لامن
بين مسامو
بتترمي”..
في عدد الأربعاء الخامس عشر من أبريل في العام الثامن والتسعين من القرن الماضي، كتبت جريدة الخرطوم التي كانت تصدر في القاهرة: “أعلن الدكتور حسن الترابي لهيئة الإذاعة البريطانية، أمس الأول، أن رصاصة واحدة لم تطلق في حادث معسكر العيلفون، وأن جميع القتلى لقوا حتفهم غرقاً في مياه النيل الأزرق.
وكان المدعي العام السوداني قد ذكر ذات المعلومة، مشيراً إلى أن عدد الجثث التي انتشلت حتى قبل يومين قد بلغ 52 جثة، تم التعرف على 18 منها وسلمت إلى ذويها.
وقال المدعي العام علي الزاكي إن نتيجة التحقيق أوضحت أن الحادث ليس حادثاً جنائياً، وليست هناك تهمة موجهة لأي جهة.
وفي الخرطوم طالب بعض كتاب الصحف باستقالة وزراء في الحكومة لصلتهم بالقصور الذي رافق الحادث، والإعلان عنه”..
هي موجة على النيل الأزرق، موجة أتعبها عبء أن تتحمل معادلات كيمياء الخراب، تلك التي صرخ في وجهها حميد:
“يفيض النيل
نحيض نحنا
يظل حال البلد
واقف
تقع محنة
ولا النيل القديم
ياهو
ولا يانا”..
ليل حالك والنيل أزرق، والموجة التي كانت تحلم بأن تهندس تهرب من أخطبوط الأحمر..
دم يتسلق احتمالات الرذاذ..
تهرب الموجة من الأحمر المتسرب بين الجزئيات..
تهرب من خيانة عذوبتها..
إنه موت يحاصر أحلام الصبية، وكان الشط يغني:
“يا محمد نادي سعيد
الليلة الوقفة وبكرة العيد”.
وكتب الأستاذ الراحل المقيم محمد توفيق في إحدى جمراته: “كانت صحيفة ألوان من أوائل الصحف السودانية التي أشارت إلى حادث غرق المجندين، ونقلت عنها بعض الصحف العربية الخبر المشؤوم.
وبينما كانت الأسر السودانية تجري مهرولة إلى حيث لا تدري، باحثة عن الحقيقة، وعن مصير أبنائها باكية مولولة، كان تلفزيون جمهورية السودان يغني ويرقص كما لم يفعل في مناسبة من المناسبات، وشهد بذلك من شهد من أهل النظام.
فقد نقلت صحيفة الحياة بتاريخ 13 أبريل عن صحيفة ألوان، أن الإعلام الرسمي لم يعط المأساة حقها، وأن التلفزيون كان يعرض برامج فكاهية، ويقدم المسابقات في وقت يعتصر الألم الأسر، ووجهت الصحيفة انتقاداً لوزيري الإعلام والدفاع ووالي الخرطوم.
لو كنت مكان صاحب ألوان لطالبت حكومة الإنقاذ بالتنحي، مصحوبة بلعنات أسر الضحايا، فقد بلغ السيل الزبى”..
موجة تتهيأ لاحتمال فجيعتها..
لم يعد النيل أزرق..
النيل أحمر، ودم يبتذل الألوان وينتمي للهلاك..
والموجة تحاول الهروب من تواريخ البكاء..
وعبثاً تحرض ذاكرتها ذاهبة نحو رائحة اللوبيا والبرسيم..
ذاهبة نحو الأخضر، ذلك المنسي في الشعارات والخطب الرنانة..
تلك الرسمية والشعبية..
موجة تحمل فجيعتها الحمراء بعيداً عن الشط، بعد أن ذابت في موجة أخرى حاصرها الاحمرار، فاستسلمت لنسيان العذوبة، فكان جسد المياه تيارات حمراء تحمل معها في مسيرها الأزلي جثث الأحلام.
تلك الأحلام الصغيرة والبسيطة والشط يغني:
“العيد الجاب الناس
لينا ما جابك”..
وفي خبر رئيسي لجريدة الخرطوم، بعد مضي أكثر من أسبوع على أحداث (العيلفون): “طالب التجمع الوطني الديمقراطي المعارض، في مذكرة بعث بها إلى الأمين العام للأمم المتحدة، بإجراء تحقيق فوري في أحداث العيلفون التي وقعت يوم 2 أبريل الجاري، وتقديم الجناة للمحاكمة.
وأكدت المذكرة التي وقعها الأمين العام للتجمع، مبارك الفاضل المهدي، أن الضمان الوحيد لإجراء التحقيق بصورة صحيحة، هو أن يتم إجراؤه تحت إشراف دولي، وعلى يد المقرر الخاص بالسودان، مشيراً إلى أن سجل الحكومة السودانية في هذا المجال يبعدها عن المصداقية”..
النيل أحمر..
والشط ابتذلت فيه الأغاني..
كانوا هناك يثرثرون ويتذوقون ركاكة النثر..
بينما النسمة تنكرت للمواجد وآهات العاشقين.
كانوا ينظفون بنادقهم من مغبة الندم، يلوذون بالفتاوى وفقه الضرورة، يتذوقون التضاد بين الأفعال بنهم غريزي، يحولون الحياة إلى موت يعاش، يسيجون الرغبات الجميلة بسجون وساوسهم، وبعدها يملكون القدرة على انتهاك الموت، حتى الموت ينتهك.
جاء في مذكرة الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، مبارك الفاضل المهدي، إلى الأمين العام للأمم المتحدة: “إن النظام جند عشرات الآلاف من الموالين له كمليشيات في الدفاع الشعبي، كما قام، في محاولة لسد النقص في الرجال، بفرض نظام الخدمة العسكرية الإلزامية، حيث أجبر الطلاب الذين أكملوا المرحلة الثانوية على قضاء فترة عامين في الخدمة العسكرية، قبل التحاقهم بالتعليم العالي.
واتضح أن هؤلاء التلاميذ يرسلون إلى جبهات القتال بعد فترة تدريب لا تتجاوز الـ 54 يوماً، بعد تعبئتهم بشعارات الجهاد والاستشهاد.
أعادت المذكرة إلى الأذهان مقاومة الطلاب وأسرهم لكل ذلك، وما تعرض له موكب الأمهات في ديسمبر 1997 من ضرب، ومحاكمة 73 سيدة بالجلد، ضمن عقوبات أخرى”.
كانت جثث الأحلام البريئة تلوذ بسليل الفراديس، الفراديس أحلام الفقراء الناشطين في الفقر إلى درجة استئناسه والتآلف الحميم معه. إنها الفراديس تلك التي وزعت، على التوالي، وشيدوا فيها القصور لاستقبال الناشطين في الاستشهاد.
وعلى الشط الذي ابتذلت فيه الأغاني وتعهرت فيه حتى النسمات، كان الضابط المسؤول عن المعسكر، وفي نفس الوقت الذي صار فيه النيل أحمر، و(العيلفون) تداري خجلها في موات الهاربين، والموجة فقدت هويتها وهي تصارع أخطبوط الأحمر، كان الضابط المسؤول يتذوق براعته في حكاية النكت، كان يحكي وجثث الأحلام الصغيرة، الأحلام البريئة، الأحلام البسيطة، تجادل موقفها بين فعل الطفو وفعل الغوص عميقاً في ذلك المجهول السحيق.
كان الضابط المسؤول يحكي، بينما القهقهات تهرب منها النسائم، وتحاول ببقية من عافية، أن تتملص من حملها، والنيل أحمر، والموجة تذوب في التيار الأحمر، التيار الدامي، آسفة على عذوبتها التي اغتيلت في الأشهر الحرم.
مذكرة الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي استفاضت في شرح ما حدث في العيلفون يوم 2 أبريل وإطلاق الرصاص على التلاميذ، مما أدى إلى مقتل (47) تلميذاً في المعسكر، وغرق (55) منهم في النيل الأزرق، وفقدان (117) تلميذاً، ودفن الموتى في مقابر جماعية في الخرطوم.
وقال مبارك الفاضل المهدي، الأمين العام للتجمع: “إن هذه الإبادة يجب ألا تترك دون محاسبة”.
حكى الضابط والمآتم تتبرج موزعة نفسها على المدن والقرى والأرياف، على الشوارع والدروب والأزقة، على الأسواق الكبيرة والصغيرة، حكى الضابط قال: “شوف هو أصلو لو دخلت الخدمة الإلزامية، كان جيت براك أو قبضوك، وأصلو حيقبضوك. كان قبضوك أو ما قبضوك فيها تمشي الجنوب، واحتمال ما تمشي الجنوب. أها كان مشيت الجنوب احتمال يقتلوك، وممكن ما يقتلوك. أها لو ما قتلوك، خلاص. لكين كان قتلوك في احتمال يدفنوك، وممكن ما يدفنوك. أها كان ما دفنوك خلاص، لكن كان دفنوك احتمال تبقي بترول. أها كان طلعوك، وممكن ما يطلعوك المهم. لو طلعوك احتمال تبقى لساتك أو تبقى مناديل توشس. أها كان بقيت لساتك خلاص، لكن كان بقيت مناديل احتمال يستعملك راجل واحتمال تستعملك مرا. كان استعملك راجل خلاص، أها كان استعملتك مرا، دي ما حلاة الجيش ذاتا”.
وارتفعت تلك القهقهات التي لوثت صفو النسائم، لتختلط بصوت مغن رسالي فرضه الراديو على ذلك الليل الذي تحولت فيه الأحلام والرغبات النبيلة إلى جثث، والنيل الذي كان أزرق يعلن عن الفجيعة بالاحمرار.
“ولدنا في جوف الخطر
شوفو زي أسدا نتر
لا كل أبداً لا فتر
كلاشو زايد في نباحو”..
هؤلاء لم ينسوا حتى الكلاب، فها هم يبتذلون نباحها.
وقد صرح السيد مبارك الفاضل، الأمين العام للتجمع، وقال: “إن النظام القائم ليس فقط نظاماً عسكريا تسلطياً، بل رافضاً للديمقراطية والتعددية، وإنما هو نظام يمثل أقلية سياسية متطرفة ومنظمة ومصممة على تطبيق برنامج أصولي مؤدلج بأي ثمن، وبصرف النظر عن التعددية الدينية والإثنية والثقافية التي يتسم بها الواقع السياسي”.
ها هم ينظفون بنادقهم من مغبة الندم..
والأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي السابق دخل التشكيلة الوزارية، وفي منصب سيادي كمساعد للرئيس.
ها هم ينظفون بنادقهم من مغبة الندم، ويتم طرد الأمين العام السابق للتجمع الوطني من منصبه السيادي..
ها هم ينظفون بنادقهم من مغبة الندم، ولم ينس الأمين العام للتجمع الوطني السابق، السيد مبارك الفاضل المهدي، أن يعلن عن نظريته السياسية، ويقول في رده على الصحفي الراحل إدريس حسن، في عموده بجريدة الرأي العام عدد السبت الخامس من فبراير 2005، يقول: “أنا أنتمي لمدرسة السياسة الحديثة الغربية، التي هي أقرب لديننا الإسلامي، والتي تبني موقفها على الدراسة العلمية والشفافية والجهر بالرأي والمبدأ والدفاع عنه بقوة ومناقشة الرأي الآخر”.
ها هم ينظفون بنادقهم من مغبة الندم..
ها هم ينظفون مواقفهم من مغبة أنهم الآن خارج السلطة، ويتذوقون التضاد بين المواقف بنهم سياسي غريزي، لا يعبأ مطلقاً حتى بالأرواح التي ضاعت سدى.