الرأي

علاقات وعلائق السينما

(علي دفع الله العوض)، رحمه الله، ابن عمي، مستغلاً خصوماته العديدة مع والدي، (أبو التاية)، قذف ابن عمي بالحقيقة أمام الممرض الذي كان يحاول إزالة الشعر، شعري عن موضع الجرح كي يبدأ في عملية الخياطة، وقفت يد الممرض عن العمل وقال الممرض (لازم أورنيك تمانية) ولأن ما قاله علي دفع الله يستدعي وجود هذا الأورنيك الذي سيدين أبي، فهو الذي تسبب في هذا الجرح الذي لازلت أحمل أثاره على رأسي، ويمنعه شعري من الظهور، حدث ما حدث في إجازة المدارس في العام1967 من القرن المنصرم.

 كنتُ وقتها تلميذاً مشاغباً في الصف الثالث في (مدرسة كادوقلي الشرقية الأولية) ذات الرأسين وكان وقتها أبي (أبو التاية) يدير لحسابه مطعماً ومقهى وحلوانياً (سينما كادوقلي) لصاحبها (عمر الخليفة) والتي تأسست في العام 1956.

وكالعادة كان يتم اعتقالي للعمل في فترة الإجازة لأنشغل بشؤون المطعم والمقهى والحلواني، بينما يتفرغ (أبو التاية) لجولاته المتنوعة بعجلته الرالي، كانت مهمتي في غياب أبي هي أن أجلس مكانه على المكتب، وأشرف على النقود الداخلة والخارجة، والحرص على المحاسبة الدقيقة بين (عدد الموارك) وتحولها إلى نقود بعد استلام وتجديد (الموارك) الملونة للجرسون الداخلي والخارجي، الذي دائماً ما يكون نشاطه بين رواكيب (السوق البره) وموقف اللواري والشاحنات في الميدان الكبير أمام حي (العصاصير)، وكنتُ أحتمل كل ذلك، كل هذه المشاغل والمشغوليات من أجل السينما، كنتُ شغوفاً بالسينما لدرجة الإدمان الشديد، ومن حظوظي في الدنيا كنتُ أملك حرية أن أتخلص من ثمن تذكرة الدخول، وذلك بولوجي المعلن إلى صالة العرض، عبر بابٍ داخلي يربط بين صالة السينما والمطعم والمقهى، ويدخل ويخرج به الجرسونات لتلبية طلبات الجمهور المختلفة، فيما قبل الفيلم وفي الاستراحة التي عادة ما تكون محتشدة في ذاك الزمان بغناء صلاح بن البادية.

(المريود شوية شوية نار الشوق كتيرة عليّ) وهذه اللحظة، لحظة دخولي الصالة المدرجة (باللوجات) الثلاثة وحتى درجة الشعب، لحظة هي الأجمل في وجودي المتعب داخل مؤسسة (أبو التاية) التجارية والتي كنتُ أحس بها كسجن حتمي.

 أصبحتْ لي مع مشاهدة الأفلام عادات وطقوس، كنتُ دائماً ما أجلس في مكان محدد، إذ كنتُ أشاهد الفيلم لأول مرة، كنتُ أصعد السلالم كي أصل إلى حجرة تشغيل السينما في الطابق الثاني، عادة ما أجد (عمي الطيب) يتأكد من دوران الشريط على الأجهزة، ولا ينسى (عم الطيب) أن يقول: (في الاستراحة، ما تنسى جيب لي معاك باسطة وحلبة بالحليب).

وأتناول كرسي خيزران قديم من ركن في حجرة التشغيل، وأضع الكرسي على سقف صالة الاستقبال المقابل لحجرة التشغيل، وأنا أجلس؛ أكون قد لاحظت الشعاع الضوئي يلون الغبار العالق، ويسقط على حائط الشاشة ويتفجر صوراً وأصواتاً، في هذه الزاوية من الصالة كنتُ أشاهد الأفلام الجديدة وبما أني– متجدع – مع حظوظي مع السينما، الأمر الذي أتاح لي مشاهدة الفيلم أكثر من مرة، لذلك كنت أنوع أمكنة مشاهداتي المتكررة بين صالة اللوج والشعب، اللوج كراسي والشعب مصاطب وهو الأقرب إلى الشاشة، لكني كنت أفضل بعد مشاهدتي الأولى للفيلم أن أشاهده مرات ومرات في صالة الشعب، لأنها مشاهدات تخص مراقبتي لرد فعل الجمهور، ولصالة الشعب شخوصها الدرامية المتنوعة، كنتُ عادة ما أجافي اللوج، وذلك بعد الذي حدث مع أحد الجيران، جار ثقيل الطباع، كنت وقتها أنوي أن أشاهد فيلم (شنبو في المصيدة) للفنان الممثل المصري (فؤاد المهندس) من اللوج، وكنت قد هيأت مجلسي وزاوية الشوف، داهمني الجار ثقيل الطباع ومعه أسرته ــ الزوجة والبنات والأولاد ــ مع أني كنت بعيداً عنهم، لكنه ما إن لمحني حتى تصايح صوته الأجش الجهور.. (يا ود فضل الله، جيب لينا حاجة باردة، يا أولاد عايزين حاجة تانية؟) حين كانت أسرة الجار ثقيل الطباع تثرثر حول الطلبات الأخرى، خرجت أنا من المشهد إلى الهواء الطلق، وقررت بعدها أن أجافي اللوج خاصة أيام الجمعة.

 إدماني لمشاهدة ومتابعة الأفلام جعلني مرجعاً فيها، تلك التي تُعْرَضُ لأول مرة أو التي عُرِضَتْ من قبل، كان يكفيني أن أرى البوسترات والصور لأعرف ذلك، وكنتُ دائماً أحب أن أساعد (عم الطيب) في تعليق الصور والبوسترات التي تأتي مع الطارات الكبيرة، التي تحتوي على أشرطة الأفلام، أصبحت تلك المهمة تخصني وحدي، كنت أستمتع بذلك وأنا أعلق وأدبس الصور على (البوردات) المعلقة في شكل مستطيل على الجهات الثلاث من حائط صالة الإعلانات وشباكي التذاكر، كان (عمي الطيب) دائماً في أبرولة الأزرق وهو يشرف بالمتابعة على الوضع الصحيح للصور داخل مستطيلات البرود، نادراً ما كنت أراه في غير هذا الزي حتى خيل لي أن من يعرف أن يشغل السينما لابد أن يكون دائماً مرتدياً الأبرول الأزرق وأكتشفت مؤخراً أن هذا الزي له علاقة بنشاط نهاري لـ(عم الطيب) يتعلق ببعض فنون المكانيكا، كنت أستمتع بذلك، وتكون فرصتي النادرة حين أتعرف على فيلم سبق أن عرض من قبل، فرصتي النادرة أن أحكي للمتفرجين على تلك الصور أحداث الفيلم، تجدني أحاول تمثيل موقف البطل والخائن، أضرب بمسدسات وهمية، أبارز خصماً وهمياً بالسيف وأمسك بلجام حصان وهمي إذا كان الفيلم من أفلام الكايبوي، كنت أجد متعتي حد الإفراط في فعل وتفعيل الحكي وكان (أبو التاية) يعرف ذلك جيداً، لذلك في ذلك الصباح الذي تناول فيه (عم الطيب) إفطاره كعادته كل صباح، وقال لي وهو يحمل قهوته معه إلى غرفة التشغيل.. (يحيى في أفلام جديدة جات، لمن تفضى تعال نعلق الصور).

وبعد انتصف النهار، الزمن الميت في المطعم، زمن ما بين وجبتي الفطور والغداء، زمن جولات (أبو التاية) المعتادة، سلمني المكتب والأدراج وطلب مني مراجعة وتحديد حساب موظفي (محلج كادوقلي) الذين يتناولون الفطور هنا ويحاسبون (أبو التاية) كل آخر شهر، ولأن (أبو التاية) كان قد سمع ما قاله (عم الطيب) لي في شأن الأفلام الجديدة والصور، فقال لي وفي عيونه تهديد واضح، إضافة للهجته الحاسمة..(أنت عارف طبعاً، في أفلام جديدة، بس أوعك من تمشي تشوفا وتعلق الصور قبل ما أجي راجع، أوعك، مفهوم)؟!

وكان أن ركب (أبو التاية) دراجته وذهب، أما أنا، فسرعان ما انتهيت من مراجعة حسابات موظفي (محلج كادوقلي)، حتى تركت المكتب والأدراج بما فيها من نقود ولم أنتظر عودة والدي، وتركت مهمتي الأساسية وصعدت السلالم إلى (عم الطيب) في حجرة التشغيل فوجدته قد جهز كرتونة الصور والبوسترات مرتبة، وحملها ونزل معي إلى صالة الإعلانات، وعاد إلى حجرة التشغيل بعد أن اطمأن إليّ في تنفيذ مهمتي التي أحب، وكان أن تجمع حولي بعض المتفرجين على صور الأفلام وكان أن تعرفت على فيلم سبق أن عرض، فيلم هندي، أتاح لي حيوية في الحكي ووجدت نفسي أصول وأجول أمام أولئك المتفرجين داخل الصالة، أقفز واتفادى ضربة سيف، أصرخ صرخات– (دارسنج)– وهو يصارع نمر وغرقت تماماً في محاولاتي لتمثيل لقطات من الفيلم ما أمكن ذلك، ونسيت مهمتي الدقيقة والحساسة في المطعم والمقهى ولم أنتبه إلا و(أبو التاية) يقف خلفي صامتاً ومصدوماً من الغضب، وحين رأيته هربت منه جارياً إلى داخل السينما، وركض والدي ورائي مدفوعاً بغضبه ذلك الذي يدمر كل شيء، أنا أجري في صالة السينما و(أبو التاية) يركض خلفي تسبقه صيحاته وشتائمه الغاضبة واستمرت هذه المطاردة مدة وحين قررت أن أصعد السلالم لأحتمي بـ(عم الطيب) في حجرة التشغيل، وقبل أن أضع رجلي على عتبة السلالم الأولى كان (أبو التاية) قد قذفني بربع بلاطة ــ ذات حواف حادة ــ استقرت في رأسي وصعدت إلى (عم الطيب) والدم يسيل من رأسي على ملابسي وكان أن منع (عم الطيب) والدي من رغبته الهائجة في مزيد من الضرب، وهكذا بسبب السينما حملت ذلك الجرح الغائر على رأسي بينما وقتها كان والدي يواجه تهمة أورنيك ثمانية ولولا تدخل علاقات ومعارف (أبو التاية) وخاصة الحكيم باشا بالمستشفى وأحد شلة (أبو التاية) على تربيزة الكوتشينة، لعوقب أبي على ذلك.

 والدي (فضل الله العوض) الملقب من قبل أصحابه ومعارفه بـ(أبو التاية) هو الذي قادني إلى ذلك السحر، إلى تلك العوالم التي سيطرت على وجداني وخيالاتي، نعم، (أبو التاية) نفسه كان يحب السينما، يحبها جداً إلى درجة أنها كانت له برنامجاً يومياً، ولأني أعرف ذلك، دائماً ما أكون مصراً إلى درجة البكاء على مرافقته، كان يقبل أحياناً، وأحياناً يرفض، ولكن تبقى محاولاتي المتشبثة دائمة الحدوث، وحين كبرت وتحررت منه ومن مرافقته وأصبحت أذهب إلى السينما وحدي وكان ذلك حين ترك مطعم ومقهى السينما ليستقر في مطعم ومقهى في (السوق الكبير) مجاوراً لمخبز العم (إدريس) الفران ومقابلاً لدكان العم (الطيب الوادي)، أصبحت أذهب إلى السينما وحدي، ولكن هذه المرة أحتاج لثمن التذكرة، كانت تذكرة الدخول للسينما وقتها تساوي شلن، أي خمسة قروش، ذهابي إلى السينما وحدي أزعج (أبو التاية) جداً، وحاول أن يضع أمامي الكثير من القيود والعراقيل أهمها أن أستأذن منه حين أريد أن أذهب إلى السينما، وقد كنت أفعل ذلك ولأني لا أستطيع الابتعاد عن تلك العوالم، لذلك كنت أستأذنه يومياً للذهاب إلى السينما، إلى أن جاء يوم.

(أنا ماشي السينما يابا). 

يومي الموضوع ده؟، الليلة مافي سينما.

(الفيلم ده جديد).

(جديد ولا قديم، ما تمشي).

وقذفت بأوامر (أبو التاية) عرض الطريق الذي يقودني إلى السينما، وحين عدت إلى البيت بعد انتهاء الفيلم، فتحت الباب بحذر لأجد (أبو التاية) ينتظرني متحفزاً.

(كنت وين؟).

(في السينما).

(ما قلت ليك ما تمشي).

(……………….) 

وكان أن خرج سوط العنج من تحت المرتبة ليمارس نشاطه على جسدي، وهكذا، أذهب إلى السينما وأعود إلى البيت لأواجه سؤال (أبو التاية) ويواجه هو ردي الثابت.

(كنت وين؟). 

(في السينما).

وتنهال عليّ السياط وأبكي من الألم ما شاء لي البكاء وأنوم. وحين تكرر هذا الوضع لأكثر من الأسبوع، حدث تطور آخر، إذ عدت كعادتي في تلك الليلة، فتحت الباب بطريقة مؤكدة، ولكن على غير العادة لم أجد (أبو التاية) في جلسته المتحفزة الواضحة الغضب حد الحماقة، بل وجدته يرقد مسترخياً على سريره الموضوع بحيث يكون مواجهاً للباب بتعمد واضح، غريبة، كنت قد لاحظت عدم اهتمامه بدخولي المؤكد كالمعتاد، وبصوت لا مبالي سألني ذلك السؤال.

(كنت وين؟). 

(في السينما).

(أمشي،غور، بقيت زي الحمار، الضرب ما بنفع فيك).

وبدلاً أن أفرح بهذا الخلاص وجدتني مذهولاً بعض الشيء حتى أني سألته: (بس، لكين يا أبوي، الليلة أنا أنوم كيف؟). 

هنا فقد (أبو التاية) استرخاءه وقذفني ببطاريته التي بدلاً من إصابتي تهشمت على جذع شجرة التمرهندي، وهربت من أمامه وهو يصرخ: (غور يا ود من وشي، غور، إن شاء الله، السينما دي، تسكن فيها، غور).

وهكذا، انتزعت حرية مشاهدتي للسينما عبر هذه المعارك الصغيرة.

أيام الأعياد، أكون مزهواً جداً بوضعي الاعتباري، إذ أنني وحدي من بين أولئك الأطفال أستطيع أن أجلس بالقرب من عازف الكيتا المنتفخ الأوداج، على ظهر العربة الميركري الحمراء، التي تتجول في أحياء كادوقلي معلنة عن أفلام العيد بموسيقى عذبة، وكانت توضع بوسترات الأفلام على بوردات تعلق على جانبي العربة، بينما العم (يعقوب) بشلوخه المميزة وصوته الرنان يخرج من المايكرفون في يده معلناً عن فيلم اليوم وأفلام الأيام التالية، كان عم (يعقوب) يستمتع بذلك بينما الأطفال يركضون خلف العربة وأنا وحدي أستمتع بوضعي ذلك الاعتباري جداً، ولا أنسى تلك الحسرة على عيون صديقي (الحاج عبدالحفيظ) الذي يشاركني هذا الإدمان الممتع وهو يركض خلف العربة محاولاً أن يصعد إلى حيث أجلس، ولكن دون جدوى، كل ما استطعت أن أفعله لذاك الصديق هو مساعدته في الحصول على ثمن تذكرة الفيلم وذلك حين تأمرنا على (جامع كادوقلي) ولم نسلم جلود الأضاحي في ذلك العيد للعم (صابون) مؤذن الجامع، وبدلاً عن ذلك ذهبنا بها إلى العم (خضر) في (السوق البره) وقد تنازلت عن نصيبي في جلد خروفنا لصديقي لأني أملك حرية أن أدخل السينما بدون تذكرة.

على شجرة التبلدي الكبيرة والقريبة جداً كانت من الجانب الشرقي لبيت عمنا الحاج (عوض أحمد) في حي (السوق الجوه)، تعلمت أن أقذف بالخنجر على جذع هذه التبلدية الضخم على طريقة الكاوبويات، إنها مهارات اكتسبتها من السينما، عادة كنت أمشي في الشارع وأنا أبارز بسيفي الوهمي عدواً وهمياً، أضحك على طريقة الخائن الهندي الذي كنا نسميه -شاباش– وكانت هي كلمة يكررها كثيراً وتعني بالهندي معنى عظيم، على أشجار الجوافة في جنينة (المدرسة الشرقية الأولية) ذات الرأسين، كنا نقفز من فرع لفرع آخر مقلدين طرزان وصرخاته، معارك صغيرة بمسدسات وهمية وأحياناً مسدسات اللعب، معارك كانت تتمايز بها العصريات، تلك التي كانت نمطية بالدافوري بكرة الشراب، عوالم وعوالم، ترى مدناً وسهولاً وجبالاً وأنهاراً وفيافي حيوانات موجودة وأخرى خرافية، وشخصيات نحبها وشخصيات نكرهها، نميل إليها وننفر منها، كل ذلك واسم (هارون) الذي كان يشغل أو يدير ماكينة السينما، يتحمل شتائم كل جمهور السينما حين يحصل قطعاً للشريط السينمائي، و(هارون) هذا الذي أدمن جمهور السينما شتيمته كان قد مات منذ سنين، وجاء بعده (عم الطيب) الذي لم يحظَ بهذه الشتائم لأن الاسم (هارون) هو الحاضر في ذاكرة الجمهور حين ينفعل بالشتائم، في العام1976 من القرن المنصرم كان احتفال عيد الاستقلال في مدينة كادوقلي، وكان قد التف عدد متنوع من الجمهور في (مركز شباب كادوقلي) لمشاهدة البث التلفزيوني لأول مرة في المدينة، وفي غمرة ذلك الشعور الحميم انقطع الإرسال فجأة فما كان من بعض الجمهور من مدمني السينما إلا أن يلتفتوا للوراء شاتمين (هارون).

حدث، لا يمكن تجاوزه أو عبوره بأي حال من الأحوال، حدث يخصني بمعيار ومقدار، هو الذي حرضني على الكتابة عن علاقتي وعلائقي بالسينما، بعد أن وجدت أنني كنت قد سجلت هذا.

هذا الحدث في مفكرتي للعام2011.

 فيما بعد منتصف فبراير من هذا العام 2011 كنت مستغرقاً في بروفات وتفاصيل مسرحيتي–(الفكت منو)- والتي عرضت على خشبة المسرح القومي بأم درمان في بداية مارس من نفس العام، وكنت قد استلمت بوستر المسرحية ومن ضمن خطة الإعلان كان عليّ أن أقوم بتعليق البوستر في منطقة (الفتيحاب) وضواحيها خاصة حي (المربعات) المجاور لـ(البنك العقاري) وكنت أسكن هناك، وأنا عائد للبيت فيما قبل المغرب بقليل، نزلت من الحافلة في لفة (البنك العقاري) وكان هنالك مطعم ومقهى في ناصية المحطة، أغراني الموقع كي أعلق كم بوستر هنا، استأذنتُ صاحب المطعم وأثناء شروعي في فتح شنطتي لإخراج البوستر لاحظت أن رجلاً أشيب، طويل القامة، نحيف وكأن السنين قد أرهقت جسده، وكنت قد لمحته ينظر إليّ بعمق، أخرجت البوستر من الشنطة، وحين هممت يتلصيقه على إحدى أبواب المطعم، كان الرجل يتابعني بحيث أنه كان ورائي وحين هممت بإلصاق البوستر، جاءني صوت الرجل عميقاً.

(ما ما معقول يا يحيى؟، أنت قبل أكتر من أربعين سنة، كنت يا ابني بتعمل نفس العملية).

وحين التفت إليه مندهشاً، داهمني بحميمية وأخذني في حضنه، وقال لي بصوت عميق: (أنا الطيب، عم الطيب يا يحيى بتاع السينما)، فما كان إلا أن أكتب ما كتبت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى